البحث

التفاصيل

أ . د. يوسف القرضاوي

الرابط المختصر :

كنت أتحدث مع صاحبي عن ضرورة العودة إلى الإسلام عقيدةً وشريعةً، وقيماً وأخلاقاً، وثقافةً وحضارةً، لنسعد في دنيانا، ونفوز في أخرانا، فإذا هو يقول في صراحة:

الحقيقة يا صاحبي أننا في حيرة وبلبلة أمام الدعوات والمبادئ الكثيرة المختلفة هذه تجرنا إلى اليمين، وتلك إلى اليسار، هذه تشرق وأخرى تغرب، أنت تدعو إلى الإسلام، وثان يدعو إلى القومية، وآخر إلى الاشتراكية.

دعاة الإسلام منهم المتزمت والمتسامح، ودعاة القومية منهم من يوسع ومن يضيّق، ودعاة الاشتراكية منهم من يتطرف ومن يعتدل.

وكل واحد من هؤلاء يضفي على سلعته أجمل الأوصاف، ويبرئها من كل عيب. والقارئون والمستمعون حائرون إزاء ما يقرءون من كتب ورسائل ومقالات وما يسمعون من محاضرات وأحاديث ومناقشات. فقل لي بربك: ماذا يصنع الإنسان أمام هذه المبادئ والأفكار؟ وهذه التيارات من يمين ويسار؟

قلت: وماذا يفعل الناس إذا اختلفوا في طول قطعة من القماش، أو في ثقل مقدار من الحلوى، أو في حجم كمية من القمح؟

قال صاحبي: إنهم يحتكمون إلى معيار اتفقوا عليه، كالمتر مثلاً في قياس الأبعاد والأطوال، والكيلو غرام أو الرطل في تقدير الموزونات، واللتر والقدح في تقدير المكيلات . . الخ، فيرتفع الخلاف، وينحسم النزاع.

قلت: وهذا ما يجب أن نصنعه أيضاً في الأمور المعنوية، أعني لابد من معيار نتفق عليه ونحتكم إليه، في أفكارنا وآرائنا وقيمنا، فإذا أَمْرُنَا جميع، وإذا كلمتنا سواء.

قال صاحبي: ولكن المشكلة هنا فيمن يصنع هذا المعيار العجيب الذي توزن به الأقوال والمذاهب، وتقاس به النحل والمعتقدات، ويعرف به الرشد من الغي، والهدى من الضلال. من الذي يدعي القدرة على وضع هذا المعيار؟ ومن يرضى به إذا ادعى ذلك؟

قلت: أما نحن المسلمين فإن هذا المعيار في أيدينا فعلاً، وليس هو من وضع بشر، فالبشر أعجز من أن يضعوا مثل هذا المعيار، إنه معيار منزل من السماء إلى الأرض، من الخالق إلى الخلق ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن خبير ) ( هود: 1). ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي ). بل إنه من مهمة الرسل الأساسية أن يضعوا هذه المعايير للبشر، ليحتكموا إليها إذا اختلفوا، ويرجعوا إليها إذا انحرفوا، وفي القرآن الكريم: ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) (البقرة: 213) ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد: 25(

ولكن العجيب أننا لا نحتكم إلى هذا المعيار السماوي، إلى الإسلام الذي أكرمنا الله به، ورضيه لنا ديناً، بل نبذناه وراءنا ظهرياً، وطفقنا نلتمس الفتوى والحكم من غيره " ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ".

قال صاحبي مندهشاً: أيلزمنا أن نحتكم في كل أفكارنا وآرائنا إلى الإسلام والقرآن؟

قلت: نعم، بمقتضى إسلامك إلى الله، وإلى رسوله، فهذا معنى "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فإن رضاك بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالقرآن إماماً، يقتضيك الاحتكام إلى الله ورسوله وكتابه، فيما يشكل عليك، وفيما تنازع الناس أو ينازعونك فيه، ولا يصح بغير هذا إيمان أبداً. ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (الأحزاب: 36). ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً ) (النساء: 65(

قال صاحبي: وهل معنى هذا أن نحتكم إلى ما أنزل الله في كل أمورنا، حتى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟

لا بأس بالاحتكام إلى ما أنزل الله في شؤون الدين، أعني في العقائد والعبادات والأخلاق. أما شؤون الحياة المتغيرة المتطورة، فلماذا لا نحكم فيها منطقنا البشري، أو نقتبسها من تجارب غيرنا؟

قلت: إن تجزئة ما أنزل الله: إلى ديني، وغير ديني، تجزئة مضللة، ولا تقوم على أساس سليم. أتريد منا أن نطيع الله سبحانه إذا قال: ( أقيموا الصلاة ) (المزمل: 20) لأن الصلاة من شؤون الدين فإذا قال: ( وآتوا الزكاة ) (المزمل:20) قلنا له: عفواً يا رب، هذا من شؤون المال والدنيا، فدعنا ندبرها وحدنا دون هدايتك ووحيك يا ربنا!! وإذا قال الله تعالى:  (إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه ) (السجدة: 6) قلنا له: سمعنا وأطعنا . . فإذا قال: ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتبوه لعلكم تفلحون ) (المائدة: 90) قلنا له: سمعنا وعصينا . . إن تحريم الخمر يا رب خطر على نشاط السياحة، وحجر على حرية الفرد، فدعنا أحراراً في تناولها.

وإذا قال تعالى: ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) (البقرة: 281) قلنا: يا لها موعظة! فإذا قال قبلها بآتين: ( اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) (البقرة: 278، 279) قلنا: أما هذه فلا، فإن عصرنا لا يستغني عن الربا؟ وعجلة الاقتصاد لا تدور إلا بالفوائد الربوية.

إذا قال سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) (البقرة: 183) قلنا: سمعا وطاعة، فإذا قال في نفس السورة، ونفس السياق: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) (البقرة: 178) قلنا: هنا لا سمع ولا طاعة، فأمر العقوبات لنا يا رب وليس لك. فدعنا نقرر فيها ما نراه، فنحن أعلم بمصلحتنا منك!!

لا يا صاحبي؟ إن كل ما أنزل الله دين يجب أن يتبع ويرعى وينفذ، وإهمال بعضه ضار بمجموعه. وهو أشبه شيء بوصفة الطبيب الماهر للمريض، إنها مجموعة متكاملة من الأدوية، ربما كان حذف دواء منها يجعل ضرر الأدوية الأخرى أكبر من نفعها، ولهذا حذر الله سبحانه من ترك بعض ما أنزله من كتاب وحكمة، انخداعاً بتزيين أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة والمشركين. قال تعالى: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) ( المائدة: 49). فحذر من الفتنة عن بعض الأحكام المنزلة من الله. وقد ذم الله قوماً من المنافقين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وسول لهم الشيطان وأملى لهم، فقال في تعليل ما أصابهم من سخطه تعالى ولعنته: ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر، والله يعلم إسرارهم ) (محمد: 26(

قال صاحبي: كلامك صحيح، ولكن ليس كل الناس مسلمين، حتى يحتكموا إلى معيار الإسلام، ويحكموه فيما شجر بينهم.

قلت: أما غير المسلمين فلهم حديث غير هذا، ولكني أتحدث مع الذين رضوا بالإسلام ديناً، ولازالوا يعلنون أنهم مسلمون، وأنهم ينزلون على أحكام الإسلام. أتحدث مع هؤلاء الذين يقرأون ويسمعون قول الله تعالى:  (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) (الشورى: 10) ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النساء: 59(

أتحدث مع هؤلاء الذين قرأوا في كتاب ربهم ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (المائدة: 44) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) (المائدة: 45) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) (المائدة: 47(

وأحب أن تعلم أن هذه الآيات ليست في شأن الحكام والقضاة فحسب، بل إنها تشمل كل من حكَّم في تفكيره وسلوكه مذهباً غير الإسلام، وكتاباً غير القرآن، وموجهاً غير محمد عليه الصلاة والسلام.

فليختر له أحد هذه الأوصاف الثلاثة أو كلها إن شاء، الكفر والظلم والفسق كما صرحت بها آيات ثلاث في كتاب الله:

ولو كان سهماً واحداً لاتقيته      ولكنها سهم وثان وثالث!

- عن كتاب " من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا"


: الأوسمة



التالي
كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 15 ] الفصل السادس : أسباب انهيار الحضارة الإسلامية
السابق
الدين للجميع .. فالدعوة للجميع

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع