البحث

التفاصيل

وداعا صنعاء

الرابط المختصر :

الليلة التي ودعت فيها صنعاء..

في مثل هذه الليلة من العام المنصرم ودعت صنعاء، كانت الشمس تنحدر للمغيب والسماء ملبدة بالغيوم ورذاذ المطر يرطب الأرض وحافلتنا التي تقلنا تهوي ببطء من شارع لشارع وفي كل مكان نستوقف ونسأل وكل من حولي يتمتم بأذكار المساء وأذكار التحصين وعيناي تطوف  على ما تبقى من الأطلال...

أقول لصاحبي والعيس تهوي..بنا بين المنيفة فالضمارِ

تمتع من شميم عرار نجدٍ... فما بعد العشية من عرار

كانت تدور في مخيلتي أحاديث الوداع..

_ أمي التي ودعتها عند الجسر والدموع تفيض من مآقيها.

_ والدي الذي لم أتمكن من مشاهدته منذ سنتين.

_ زوجتي وابنتي وقلبي المُقتّل بينهما.

_ أصدقائي الذين اكتفيت بتوديعهم في الأزقة قبل الرحيل.

_ طلابي الذين اعتذرت من تجمعهم وإتيانهم لمكتب السفريات.

_ معارفي الذين أخفيت عنهم موعد المغادرة.

_ جمهور مسجدي الذين ما عرفوا رحلتي إلا على الطائرة.

ساعة كاملة ونحن لا زلنا في العاصمة منذ انطلاقنا من مقر الرحلة وما إن خرجنا حتى انهمر المطر وأظلمت الدنيا والتقى ظلام الليل بظلام السحب...

فسافرنا في تلك الحافلة يوما وليلة وفي تلك الليلة أسدل علينا الظلام سرباله وجادت السماء بقطراتها وتلبدت بالغيوم وكان البرق يرسل أشعته...حينها نام الجميع إلا أنا لم أنم..ولم يزر عيني طيف الكرى، ولا طعمت السهاد..

تذكرت موطني الذي مشيته من أقصاه إلى أقصاه ورتعت في جنباته وتسلقت جباله وشممت شيحه وقيصومه ونفله وخزامه وياسمينه ونرجسه وسوسنه ونسرينه تذكرت أيام صباي ووالدي المتهجد في السحر وأمي والغدير..

تذكرت جامعتي التي عشت فيها سبعا، وتذكرت جنبات جبالها التي كانت تردد صيحات المآذن..ودروس العلم الشرعي، وحلقات الفجر، ودروس الشناقطة.

تذكرت أنشودة تعلمناها في الصغر حفظت منها ما حفظت ونسيت ما نسيت غير أن شريطها مر على ذاكرتي وفيها يقول الشاعر وهو يودع خلانه: 

أخي صَبراً على ألَـمِ الفـراقِ.. كِلانا للنوى والشـوقِ باقي

إذا انفصلَتْ هَياكِلُنا وبانَت فرُوحي نحْوَ رُوحِكَ في عِـناقِ

فيا لك حَسرَة هـزّت كيانـي.

 أمَا لي مِنْ لظى الحَسَراتِ واقِ

سنذكُرُ عهدَنا بجميلِ ذِكـرٍ..وما عِشناهُ في أسمـى وِفـاقِ

 

لقد سمرت ليالي على الشاطئ الذهبي في مدينة عدن، وصعدت جبل "ربي" مرارا فرأيت منه مدينة إب وهي متوشحة بلباس الجمال وكأنها عروس تلبس (فستانها) الأخضر، وهو يطل عليها معمما بالأقحوان والجوري والزهر، ووقفت مع التاريخ على رأس جبل بعدان أرقب تلك المساحات الخضراء التي تتلوى في حضنه، وتعشيت على صوت الأمواج التي تتكسر على  ضفاف ساحل عدن أبين، وشاهدت سحر الغروب من شاطئ الحديدة من أمام الدوار، وهامت روحي في جو المحويت الساحر وزرت مسجد الطويلة الكبير العتيق وخطبت بهم الجمعة وقدمني مفتي المدينة رحمه الله أحمد الشيخ وشاهدت في وجهه بريق الصحابة( وقال مشجعا لي: ما سمعت أروع منك). وأنست مع رفاق لي بهدير شلال الأهجر، واغتسلت في (حمام دمت) الساخن، وأكلت من فاكهة( البلس) في حراز حتى اكتفيت مشاهدا في نفس اللحظة أعلى ثاني قمة في اليمن، ومررت من عرض جبل النبي ( شعيب) أعلى قمة في جزيرة العرب، ووقف أمام جبل ( ضين) الذي أمر الرسول أن تكون القبلة إليه وزرت جيرانه مرات كثيرة متعجبا مسبحا لربي من معجزة الرسول التي أثبتتها الأقمار الصناعية، ودرّست القراءات السبع في محاريب صنعاء؛ وشرحت المعلقات في أعالي شرفاتها،  وبِتّ ليالي بأكملها في الخضراء أنام في العراء مستمتعا برحلة البدر يشق الفضاء، وسبحت في ساحل ميدي، و تسلقت أعلى قمة في حجة (قلعة القاهرة)، وكنت ألعب كرة القدم على شاطئ البحر في الكثيب كل صباح جمعة لمدة سنتين، وأكلت الذراع في رداع، والرمان في صعده، والخبز الدافئ في المخا، واستمتعت بمشاهدة قمة سفوح جبال رازح، ووقفت على ضيعات ومزارع اللوز في بني مطر، وقطفت بنفسي العنب وضيفوني بأكياس الزبيب في أرحب، وعشنا ليالي في بيت (قيداس) حيث الطقس البارد فما أغنت عنا المدافئ زمهرير البرد لكن كنا نُذهِب برد الأجساد بدفء المشاعر، وكنت كلما داخلني الملل خرجت إلى (شبيل) حيث الأمطار المتواصلة والخضرة على مد البصر..ولقد سمعت زقزقة العصافير في سهول تهامة وجنانها،  واستمتعت بنسمات الليل الداجي قاطفا الزهر على جبل (صبر) أرقب مدينة الأحلام التي تعشق الجمال، وتهيم في مفاتنه، وتسلقت قلعة القاهرة في تعز أشاهد التحفة الحضارية التي خلدها الزمان، وذهبت مع إشراقة الشمس إلى الروضة بصنعاء لتناول طعام الإفطار في مطاعم أزقتها القديمة" اللحم المفروم بالخضار" ؛ واحتسيت فناجين القهوة في صنعاء القديمة وصليت بمسجدها الذي بني بأمر رسول الله ودعوت بين المسمورة والمنقورة وخشعت في محرابه..وكدت أصعد منبره..

وأخذني المقدم ركن محمد الحاضري إلى ( القُلّيس) وهو البناء الذي بناه أبرهة بن الصبّاح ليكون كعبة للناس فأهلكه الله بحادثة الفيل فوقفت أمامه أقرأ عظمة الجبار، وأشاهد سرعة مرور الزمن، متذكرا العبرة المتجددة والدرس الخالد.

وصحبت الشيخ محمد سعد الحطامي والشيخ شرف الوصابي و.د.القريبي إلى أعلى قمم ريمة حيث الطبيعة الخلابة ولوحات الجمال، وتفسحت في مزارع( الجر) أجمل مزارع اليمن وتلذذت بفواكهها، وتوضأت من سواقيها، وملأت عيني من جمالها،  وكانت ترسلني أمي على الحمار في طفولتي أجلب لها الماء من الوادي فأحفر حفرة فينبع الماء فأنتظر حتى يصفو ثم أملأ الأوعية وأعود..

واستضافوني في ( مزرعة) ووادي الشوارق وبني وهبان وأغلب مناطق حجور بصحبة الشيخ أحمد القاضي فجلت في نواحيها وشدوت في روابيها في ذكريات كثيرة لا تنسى، وزرت( شماخ ) مرات عديدة فما رأيت كشواهقها وتربة أرضها وتدلل أغصانها، وتجولت كثيرا  في " مسيك" التي تحتضن قبر أكبر عالم أنجبته اليمن" ابن الوزير"..

وترددت على مسجد الزبيري سنوات حيث العلم الغزير من ذاكرة العمراني، وكانت روحي تهيم برقائق المهندس طيار المقرمي فما رأيت عبقريا يفري فريه.

 لقد غصت في غابات (وادي الشَّيْقْ) وطربت لهديل حمامِهِ، وتغريد بلابله، وشربت بكفي من عيونه، وأنعشتني روائح الفل في ضواحي (الزهرة) حيث يقف الأطفال يبيعون قطوفه، واستنشقت روائح الكاذي في وادي (العريض) وقصدته مرات للصيد مع أصدقاء  العمر، وصعدت وادي (الثباجة) من أسفله إلى أعلاه في طفولتي وتجشمت صخوره وتسلقت صُمّه وصلاده التي تتفجر بالماء العذب مع رفيقي أسامه فراج وفيه تعلمت إطلاق أول رصاصة  وشربت من غدرانه المتفجرة بالعذب النمير، ومشيت من بيتنا على قدمي إلى أعلى قمم جبال (أسلم) في ذكريات خلدتها، وصعدت من (عاهم) إلى قمة في بني شهر وخطبت في القلعة، وأنحدرت مشيا حتى وصلت وادي القضاة، وتسلقت جبل الشِّتِّير" الذي تستند عليه "عاهم" لأصيد الأرانب وهو جبل وعر كالسيف لا يرقاه أحد فعشقت صعوده وهمت في أعلاه وأنشدت في سفحه، وسمرت في أعلى بيوت (العبيسة) واتكأت في أعلى قمم كحلان حيث يغشاك الضباب ويداعبك الرذاذ، وتمتعت بنسيم الصحراء في شبوه حيث الليل الداجي والكون الساجي،  وأكلت ألذ أنواع الحلويات في لحج( الهريسة) فما تركت صنفا إلا أكلت منه، وشربت ألذ أنواع العصائر الممزوجة بالزبيب والحليب أمام قصر سيئون الشاهد على الحضارة وجمال فن المعمار،  واستظللت بظلال أشجار النخيل والموز في وادي (سردد) وحسرت عن قدمي وأنا أخط سيله الدفاق، ووقفت على وادي (مور) أطول أودية اليمن من جهتيه" من جهة عمران حيث يمر متعرجا من بين الشواهق،  وقبل أن يصب في البحر قريبا من الساحل،  وطربت لأجمل الألحان على ضفاف وادي (الضباب) في تعز  وخرير الماء يشكل أنشودة الحياة مع أجمل رفقاء الدرب، ووقفت على تراب أرض الجنة المذكورة في سورة القلم أسود كالليل مشدوها من قدرة الملك،  وبِتُّ في مسجد الجند الذي بناه معاذ بن جبل أشتَمُّ ريح ذكراه من غروب الشمس إلى شروقها ووقفت فيه أخطب مكان معاذ ملتذا برؤية التاريخ المنخزل بداخله، وخطبت الأعياد في ساحة (حوره)، وشربت من  عسل( العصيمات) طازجا من خلاياه، وكتبت الشعر في وادي( دوعن)، وشربت من معين ( شملان) ودخلت قصور ( حدة) وأكلت الخبز بالعسل والسمن والموز والقشطة ( المرصة أو المعصوبي) في باجل، وأخذت الصور التذكارية لقصور شبام، ووقفت أمام مصافي البترول في مأرب حيث الذهب الأسود مأرب التي تذكرنا بعرش بلقيس ومعبدها وسدها الغابر الذي لا زال ماثلا من أول التاريخ، ورحلت إلى صهاريج عدن وتنفست فيها الصعداء وذكرت ما تحتها من براكين ونار تحدث عنها المصطفى وأثبتتها الأقمار الصناعية، وهرعت إلى حرض حيث المدينة التي لا تنام فعشت بساطة أهلها، وسكنت بيوتهم التي من القَش، وتعمقت في تذكر صور الجمال التي كانت مخزونة في الذاكرة...فهمت في كل شيء جميل في اليمن..

نسيت كل ما قرأته عن شواطئ أوربا ومقاهي بيروت ودموع بَرَدى، وناصية قاسيون، ونواعير نهر العاصي..وزخارف " توب كابي"

تذكرت السفوح والوديان الهضاب والقمم..

تذكرت مدينة سام التي منها بدأت حكاية التاريخ، تذكرت السهول والوديان، والخمائل والجداول..والبحار والشواطئ.

تذكرت كيف نسجت قصة العروبة من صنعاء، وأول سطر في دفتر الدنيا..

تذكرت الملك حمير أول من وُضِع التاج على رأسه، وسيف بن ذي يزن أول من اتخذ أسنة الحديد، وتبع الأكبر أول من كسى الكعبة، والحرث الرائش أول من راش الناس بالعطاء، وأفريقش، وذا الأذعار، والهدهاد الملك وابنته الملكة بلقيس، وناشر النعم، وشمّر، ومن سميت باسمه وصاب" وصاب بن مالك الهمداني" وتبان أسعد أبو كرب، والأقرن، وآكل المرار، وذا الكلاع وملوك تبع ومذحج وحمير والأزد، وذكرت العلماء عبدالرزاق الصنعاني الذي ضربت إليه أكبادالإبل، وهمام بن منبه الصنعاني والمقبلي وابن الأمير الصنعاني، ونشوان والجلال والشوكاني وشيخه المداني،  والكوكباني، وشارح الكافية الخولاني، والأهدل صاحب كتاب النَّفَس اليماني، وتلميذه نادرة الزمان العلامة حسين بن محسن اليماني، وصاحب (نفحة اليُمن فيما يزول بذكره الشجن) الأديب الشهير الشرواني،  والبطاح الزبيدي، وصائم الدهر وعلماء المخلاف السليماني، وخطيب عصره البيحاني، وفقيه زمانه العمراني، وشيخه الإرياني..ومؤلف أعظم كتاب كتبه إنسان ابن الوزير المجتهد صاحب الأصول والمعاني..

تذكرت ربوع وطني تذكرت صنعاء وهي وديعة فاتنة يحيط بها عيبان ويحرسها نقم..

تذكرت شواهقها التي تعانق السحاب، وخزامها ونفلها الذي يغطي الهضاب..

تذكرت وادي حضرموت ووادي زبيد ووادي " بَنَا" و" رماع" و" عنّه" و"سهام" و" العين" و" الغيل" و" ابن عبدالله" وابن راشد" و" حَبْل" و" حيران" وكل سفوحها..وكل عين ماء تنبض وكل شلال هادر..

تذكرت صيفها وشتاءها وخريفها وربيعها..

تذكرت برقها الذي يقول فيه المجنون: ألا لا أحب السير إلا مصاعدا ...ولا البرق إلا أن يكون يمانيا

ويقول فيه آخر: إذا خفق البرق اليماني موهنا.. تذكرته فاعتاد قلبي خفوقهُ

حكى وجهه بدر السماء فلو بدا مع البدر قال الناس هذا شقيقه

وكنت قبل سفري قد قرأت " نفح الطيب"  للتلمساني: وفيه: حننتُ إلى البرق اليماني وإنما.. نعالج شوقا ما هنالك هانيا

كنت أريد أن أخاطب كل من أراه قادما إلى اليمن بقول الشاعر: سلم على الدار من شجوٍ ومن شجنِ ...وانظر إلى الروض من حسنٍ ومن حسن

يا لوحة نُسخت فيها مدامعنا... قلبي بروعة هذا الوجد في اليمنِ

 

والوطن مهما عبث به العابثون ودنسه المجرمون يظل عزيزا ثمينا تهواه الروح كما صور ذلك علي بن العباس الرّومي في قصيدةٍ لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستَعدِيه على ظالم مغتصب، أجبَره على بَيْع داره واغتصبه بعض جُدرها، بقوله:

 

ولي    وطنٌ    آليتُ     ألاّ     أَبيعهُ        وألاّ أرى غيريْ لهُ - الدهرَ - مالِكا

عهِدتُ  به  شَرْخَ  الشبابِ   ونعمةً        كنِعْمَةِ  قوم  أصبحُوا   في   ظِلالِكا

وحبَّبَ    أوطانَ    الرجالِ    إليهمُ        مآرِبُ   قضَّاها   الشبابُ    هُنالكا

إذا    ذَكَروا    أوطانَهم    ذكَّرَتْهُمُ        عهودَ  الصِّبَا   فيها   فحنُّوا   لذلِكا

لقد    ألِفَتهُ    النفسُ    حتى    كأنهُ        لها  جَسَدٌ  إن  بانَ  غُودِرَ   هالكا"

ومَنْ مِنَ العقلاء لا يحزن وهو يودع داره ويفارق موطنه حتى ذلك الأعرابي الذي عاش في الصحراء يقول:

 

ذكرتُ بلاديْ فاستهلَّتْ  مَدَامِعي        بشوقي  إلى  عَهْدِ  الصِّبا  المتقادِمِ

حَنَنْتُ إلى أرضٍ بها اخضرّ شارِبي        وقُطِّع   عني   قَبل   عقدِ   التّمائمِ

وعلى كل حال فالإنسان يحب وطنه ويهوى مراتع فتوته ومغاني طفولته وملاعب  صباه وقد بكى الحبيب لفراق مكة ولولا إخراج أهلها له ما خرج..

والإنسان ابن بيئته مهما شرق  وغرب لأن أباه خلق من ترابها، وهو بدأ يحبو عليها..ثم مشى عليها ثم سكن فيها وأكل من نباتها وشرب من معينها، ثم عندما يموت تحتضنه في باطنها..فهي مألوفة لديه يحن لها وينازعه الغرام دوما إليها...

 

بلادٌ   ألِفناها    على    كلِّ    حالةٍ        وقد يؤْلَفُ الشيءُ الّذي ليسَ بالحَسَنْ

ونستعذَبُ الأرضُ  التي  لا  هَوَاء  بها        ولا  ماؤُهَا   عَذْبٌ   ولكنّها   وطَنْ

 

 ووسط تلك التأملات والقوم نيام طلع علينا الفجر في مأرب فنزلنا للصلاة ثم عدلنا إلى مقهى لتناول الحليب وأخرجت ما معي من الكعك..فأكلت..وذهني شارد عن الركب.

ثم انطلقنا.. فنام الكل مرة أخرى وبقيت مستيقضا فطلعت الشمس وأرسلت أشعتها الذهبية فتذكرت كل صباح عشته في موطني..

كل شمس أشرقت عليّ فيه..

كل يوم جديد أطل بنوره منذ أن كانت أمي ترسلني للوادي عند طلوع الشمس..

ثم تأمرني أن ألحق بالغنم والشياه خلف الجبل بعد الزوال..

تذكرت الصبح الجميل في شعر  أبي القاسم الشابي وهو يقول: 

أقبـــــل الصبح يغني للحيـــــاة الناعسة

والربى تحلم في ظل الغصــون المائسة

والصّبا ترقص أوراق الزهــور اليابســـــــة

وتهادى النـور في تلك الفجاج الدامسـة

أقبل الصبح جميلًا يمــــلأ الأفق بهـــــاه

فتمطى الزهر والطير، وأمــــــواج الميـاه

قد أفـاق العـالم الحي، وغنى للحيــــاه

               ***.***

ما كنت أتخيل يوما أني سأخرج من موطني هذا قسرا وسأهاجر منه اضطرارا..

كنت أظن في صغري أني سأعيش بأحلام الطفولة ما دامت الشمس تشرق كل يوم..

أتنقل في موطني بين رياضه وغياضه، لا أعرف إلا كتبي التي يحفظني إياها والدي وألفية ابن مالك التي كان يلقنني إياها منذ العاشرة..وشويهات أمي والغدير..

وكلها جمال في جمال يصدق عليها قول شوقي:

فَمِن غُصونٍ تَميسُ تيهاً     وَمِن زُهورٍ تَضوعُ طيبـا

وَمِن طُيورٍ إِذا تَغَنَّــت       عادَ المُعَنّــى بِها طَروبـا

وَأُقحُـــــوانٍ يُريكَ دُرّاً         وَجُلَّنـــارٍ حَكى اللَهـيبـا

كنت في صغري مغرما بزراعة الورد لابد أن أراه دائما مورقا على جدران بيتنا..

أشتم عبقه..أتعهد سقيه..أقطف منه ما حان قطفه..

كان تخيلي للحياة أني سأقطف ورودها كهذه الوردة..

ما شممت رائحة البارود لأني نشأت على روائح الورود...

ما آذيت أحدا لأني تعلمت من الصغر مخافة الواحد الأحد..

ماذا جرى بعد ذلك..؟

في صباح يوم عيد الفطر صليت وخطبت بالناس وبعد نزولي من على منبر مسجدي جاء الاتصال المفاجئ الذي يحمل في طياته الحقد والمكر..

ثم كان ما كان من إحاطة العسكر ليلا ببيتي كإحاطة السوار بالمعصم وكانوا على وشك اقتحام البيت..

تعال الصراخ وجعلت طفلتي تشق البيت بالبكاء فنزلت لهم بحلويات العيد..

فلم يمدوا أيديهم..صوروني كمجرم من عتاولة الظلم والطغيان...وأمهلوني عشرا وإلا ستأتي الشرطة لاقتحام البيت..

كان الذنب الوحيد الذي ارتكبته لماذا يمتلأ مسجدي في رمضان والجُمَع ولماذا تجتمع عليك هذه الحشود الهائلة والجموع الغفيرة..

خرجت من الحي، ورتبت أمور سفري وقبل عيد ذي الحجة كان الرحيل، بعدها كان القوم يبحثون عني في كل مكان وعرفوا أني سقطت من أيديهم وقد جاءتني رسالة من صديق عزيز: "إن الملأ.." فاتجهت صوب السماء لأن أبواب الأرض أغلقت... ورنّ في أذني بيتان للشافعي:

 

مافي المقام لذي عقلٍ وذي أدب من راحةٍ  فدع الأوطان واغترب

سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في الطلب

وهئنذا أسهر كما سهرت أول ليلة ودعت فيها صنعاء على أمل أن يعود الأمن والأمان وتُجتث طغمة الانقلاب، حالي وأنا أرقب فجر غدٍ: 

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها

لا يسهر الليل إلا من به ألمٌ ولا تحرق النار إلا رجل واطيها

ألقاكم على بوابة صنعاء، صنعاء الحضارة والمجد حيث بدأ التاريخ..

عامر الخميسي


: الأوسمة



التالي
كتاب : الحق المر فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 2 ] : ما نريده.. وما يراد لنا
السابق
كتاب : فقه الجهاد .. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة فضيلة : الدكتور يوسف القرضاوي الحلقة [ 1 ] : افتتاحيات

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع