البحث

التفاصيل

كتاب : الحق المر فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 2 ] : ما نريده.. وما يراد لنا

الرابط المختصر :

 

أنا وأنت وغيرنا من الناس نشترك فى سباق طويل، سباق قد يستغرق العمر كله، نعرف بعده من المخطئ ومن المصيب ؟ من المصلح ومن المفسد؟ من المتقدم ومن المتأخر؟ أو يتكشف فيه السر المطوى فى قوله تعالى (...خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ).

وبديهى أن يبذل العاقل قواه كلها للفوز فى هذا السباق، لكن هناك أشياء لا يكترث بها، أو هى ليست فى نطاق إرادته لو اكترث بها تتصل بمكان السباق وزمانه وطبائع المشتركين فيه وأعدادهم.. الخ.

ما يدخل فى إرادتى أحتشد له ! وما لا يتعلق لى أتجاوزه!!.

من أجل ذلك رفضت الإجابة على سؤال وجه إلى خلاصته: لو خيرت قبل المجيء إلى الدنيا فى العصر الذى تختاره لتحيا فيه، فأى عصر كنت تفضل..؟.

قلت للسائل: إن إيمانى بربى، وثقتى فى حسن اختياره لى يجعلانى لا أختار إلا ما اختاره سبحانه وتعالى، فلا أحب أن أتقدم برغبة تخالف ما وقع لى! أنا راض بهذا العصر الذى شاء ربى إيجادى فيه!.

قال: حسبناك ستطلب الوجود فى عصر الصحابة!

قلت : إن الصحابة خيرة القرون وهم سلفنا الصالح، ومع ذلك فإن النبى عليه الصلاة والسلام ود لو يرى إخوانه! فلما قال له الصحابة: ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابى، وإخوانى الذين يجيئون بعدى، آمنوا بى ولم يرونى..!!.

والذين يؤمنون بالإسلام ونبيه فى هذا العصر المعنت ويحافظون على شعائر الدين ضد هجوم الإنس والجن، لهم عند الله مكانة صالحة. وقد يشاركون بعض الأصحاب فى الفضل..

إن الغربة التى يعانيها محبو الله ورسوله لها عند الله ثواب ضخم! ومن العبث التطلع إلى الوجود فى عصر الصحابة. ولكن الرجولة والحزم استغلال الواقع المتاح فى إدراك منزلة حسنة عند الله سبحانه وتعالى .

قال صاحبى: هل المسافة بعيدة بين ما نريده وما يراد لنا؟ أو بين قدر الله ورغبات البشر؟.

قلت: لا أسوق إجابة محددة، وأكتفى بنماذج مما قصه علينا فى الكتاب العزيز .. عندما كنت أتلو سورة الأنفال. وأتتبع معركة بدر ، قلت لمن حولى : نحمد الله لأن قافلة قريش نجت، وفر بها أبو سفيان!.

فسألنى سائل: لماذا ؟ وقد كان الصحابة يتمنون الاستيلاء عليها. وهم على أية حال أولى بها من مشركى مكة ؟. قلت: لو وقعت فى أيديهم ودار القتال من أجلها لقال المستشرقون : جهاد لطلب المال ، وحب الدنيا! من أجل القافلة خرجوا وفى سبيلها ماتوا. وسينسى المرجفون والأفاكون خمس عشرة سنة انقضت فى كفاح مرير وتضحية موصولة قبل معركة بدر!

فشاء الله أن تسير الأمور ضد رغبة الأصحاب. وأن تخلص القافلة لعبدة الأوثان ، وأن يتجرد الكفاح لنصرة الحق وطلب الآخرة. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين).

وهكذا أراد الله أن يدور القتال لا تشوبه شائبة بين توحيد يرجو الله واليوم الآخر، ووثنية لا ترجو لله وقارا ، ولا تنشد عنده ثوابا. فماذا كانت النتيجة ؟ كسب المسلمون المعركة بشرف باذخ وسطوة اشرأبت لها الأعناق فى جزيرة العرب!

ثم ماذا؟ لعل أصحاب القافلة باعوا نفائسها لافتداء أسراهم فى المدينة الظافرة. ثم ماذا أيضا ؟ يحكى أبو تمام فى حماسته أن امرأة فى مكة سُمع صياحها لأن بعيرا لها انطلق فى الصحراء. فقال أحد رجال مكة المكظومين :

أتبكى أن يضل لها بعير .. ويمنعها من النوم السهود؟

فلا تبكى على بكر ولكن .. على بدر تقاصرت الجدود!

ألا قد ساد بعدهم أناس .. ولولا يوم بدر لم يسودوا!

نعم إن يوم بدر قلب موازين الشرك كلها، وخفض رجالا ورفع آخرين، فهل علم من يجهل حكمة الله فى تمكين القافلة من الفرار، وعدم تحقيق رجاء المسلمين فى الاستحواذ عليها..؟.

ومثل آخر نسوقه لما نريده لأنفسنا وما يريده الله لنا.

دخل يوسف الصديق السجن وهو أبعد الناس عن تهمة، وأحقهما بالتكريم والإجلال، وانتظر على مضض أن يخرج من عالم السدود والقيود! وهيهات. ثم عبر الرؤيا لصاحبى السجن، وشعر بأن رؤيا أحدهما تدل على أنه سيكون نديم الملك، فقال له ـ وهو يتلهف على الخروج ـ اذكرنى عند ربك. كلمة مفعمة بالأمل من متهم برىء، يطلب العدالة، وهو أحق الناس بأن تعرف حقيقته وتنشر صفحته..

بيد أن النديم المبهور احتوته أضواء القصور، فنسى رفاق السجن، ونسى الرجل الصالح الذى بشره بمستقبله، وذكره بنفسه، فلم يفعل شيئا ما لإنقاذ يوسف (فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين).

واليوم فى السجن، ذاهب فى الطول مغرق فى الملالة، فكيف ببضع سنين؟.

لكن الأمر بالنسبة إلى يوسف عليه السلام كان له معنى آخر، كانت فترة السجن إنضاجا وإعدادا لمستقبل لا يخطر ببال، كانت تهيئة لأرفع المناصب فى دين الله ودنيا الناس، كانت جمعا للنبوة والملك.

واحتاج الملك وحاشيته إلى يوسف فى أعقاب رؤيا محيرة، ولكن الرجل الذى كان متلهفا على الخروج، ينشد له الوسائل الممكنة تريث هذه المرة، وأخذ يشترط قبل أن يتحرك نحو الحرية! (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ).

يوسف عندما طلب للملك بعد تلك السنين الطوال كان فى حال نفسية أخرى! لقد بطل سعيه لنفسه، وامتد سكونه لربه، واستكان لِقَدره الغالب، واستراح لما يقع له فى الغد القريب والبعيد. فألهم الله الملك الرؤيا العجيبة؟ أليس هو سبحانه الذى يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها؟ فلم يخرج يوسف من سجنه فى عفو عام، كلا لقد عرف الجميع براءته وتقواه ووفاءه وشرفه.

وعندما خرج من ضيق السجن كان الطريق ممهدا أمامه ليضع قدمه فى أى مكان من أرض الله الواسعة (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء)

إن ما صنعه الله ليوسف أفضل كثيرا مما صنعه يوسف لنفسه عندما قال لرفيق السجن (اذكرني عند ربك) المهم هو التبتل إلى الله، والتأميل فيه، والرضا بقضائه وألا تخون الرجل خصائصه الرفيعة فى الساعات الحرجة!!

وما قصصناه آنفا توكيد لحقيقة إيمانية تغيب عن بالنا كثيرا.

إننا نثق فى أحكامنا ومشاعرنا وقد نظنها عين اليقين وقد تكون عند البحث عين الخطأ، ومن هنا نفهم قوله تعالى لرجال قد يكرهون نساءهم ويرخصون عشرتهن ويخططون لمفارقتهن يقول لهم: لا تفعلوا، اتهموا هذه العواطف النافرة (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)،

من يدرى قد تنجب من هذه الزوجات أذكى الأولاد، وأكرمهم معدنا، وأنضرهم مستقبلا.

ويمتد هذا الحكم من ميدان الأسرة إلى ساحات الجماعة كلها، فالشعوب عادة تألف حياة السلام ، وتؤثر رغد العيش. وتكره سفك الدم ومغادرة البيوت والأهل إلى ميادين القتال.. لكن ما العمل إذا تعرضت العقيدة للاضطهاد، والمقدسات للإهانة، والكرامات للضياع؟ إنه لا مفر عندئذ من الحرب والتعرض لمكارهها!

ومهما فدحت الخسائر فالنتائج المخوفة أفضل من النكوص على العقبين، وذلك معنى قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)!

وقد تحولت أمم عن أرضها مخافة الموت فهل نجت منه ؟ إنها هربت منه فى ميدان فوجدته ينتظرها فى ميدان آخر ، ولو صمدت له فى الميدان الأول لقلت مغارمها ومآسيها فى الميدان الآخر. وإلى هذا يشير قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. "؟ هل نجوا من الموت بالخروج الذليل؟ كلا ، " فقال لهم الله موتوا.. " ثم أحيا الله بقاياهم بعدما تابوا وآمنوا وتشجعوا وكافحوا وبذلوا على نحو ما حكى القرآن الكريم..

إن الله ـ لأنه حميد مجيد ولأنه كتب على نفسه الرحمة ـ يضع لعباده ما هو أفضل لهم وأجدى عليهم!.

وثقتى فى فضله تباركت أسماؤه تجعلنى أستكين لأقداره وإن غابت عنى حكمتها .

وهناك أمر آخر لابد من معرفته: إن التفاوت بين المخلوقات، وحظوظها من الفضل الأعلى جزء من النظام الكونى السائد، فالناس ليسوا سواء فيما ينالون من عطاء الله، بل فما يقدرون عليه بملكاتهم المادية والأدبية! يوجد امرؤ طاقته أن يحمل على منكبه ثقلا. أو يجر وراءه عربة، ويوجد من يطلق الصواريخ ويغزو الفضاء! والقرآن الكريم صريح فى وجود هذا التفاوت، وخضوعه لمشيئة الله وحده ، "إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ".

الكواكب فى السماء متفاوتة. يقول علماء الفلك: إن الشمس أكبر من القمر نحو ألفى ألف مرة! والملائكة وهم العباد المكرمون متفاوتون .. "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء " والأنبياء وهم أشرف الناس وأنفسهم معادن متفاوتون " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.. ".

والظاهر أن هذا " البعض " الذى سما درجات هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فهو قمة الخليقة وعلمها المفرد وأشرف من حمل صفة عبد الله!!.

ومع أن التفاوت بين الكائنات من شئون الألوهية التى تغيب عنا، إلا أننا نلحظ نوعا من الارتباط بين التغير النفسى الحاسم وبين الفضل الإلهى المأمول، ولكى يتضح ما نعنى نسوق الأمثلة الشارحة :

خاصم الخليل إبراهيم أباه وقومه فى الأصنام التى يعبدونها من دون الله ،وبدأ الخصام نظريا فى قيمة هذه الآلهة المزعومة، وحاول بالأدلة العقلية والمحاورات المتأنية أن يقنعهم بعبادة الله وحده لكنهم أصروا على عوجهما.. فكان لزاما على إبراهيم أن يمضى وحده فى طريقه، وأن تتحول مخاصمته لهم إلى اعتزال ومقاطعة. وأن يستوحش من الأقارب والأصحاب إيثارا للأنس بالله وحده ، ثم يشرع بعدئذ فى بناء مجتمع مسلم يعتز بالتوحيد. ويخطط له على وجه الأرض. ويجادل فيه الملوك وغير الملوك! فماذا صنع الله له؟ قال سبحانه: " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا".

إنها مكافأة سخية لرجل كان أمة اعتصم بالله وتحمل فى ذاته الكثير. فجعل الله له ابنه الثانى نبيا ـ بعد ابنه الأول إسماعيل ـ ثم زاد بركته فجعل حفيده من إسحاق نبيا كذلك.. وادخر فى عقب إسماعيل النبوة الخاتمة للرسل أجمعين. إن بركات الله إذا انهمرت لم يقفها شيء. فاللهم أنلنا منها حسنة فى الدنيا والآخرة، فما لنا غنى عن بركتك !!.

وفى قصة أهل الكهف مثل لتنامى رضوان الله إلى حدود بعيدة.

إن أولئك الفتية أشبهوا إبراهيم فى مخاصمة قومهم عبدة الأصنام، وإنك لترى نضارة الفكر المؤمن فى مسلكهم العقلى. الإيمان لديهم نزعة تقدمية تحترم الحقيقة وتحتقر الخرافة وتجرى وراء الدليل وترفض التقليد الأعمى! " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ".

أى هلا أتوا بدليل واضح على ما يزعمون ؟ لكن الباطل لا دليل له. ولا سناد للكذب ولا اعتراف بأصحابه! " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا"

وجرت سنة الإيمان فى طريقها، ونفر الشباب المؤمن من مشاركة قومهم فى مراسم الوثنية. وقرر الاعتزال والمقاطعة، فكان الجزاء أن خلد الله ذكرهم فى قصص خارق ووحى يتلى أبد الدهر " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ".

الغريب أن هؤلاء الشبان بعد رقدتهم المشهورة التى طالت قرونا استيقظوا وهم يحملون ذات العاطفة الناقمة على الشرك وأهله. الموقنة بمصيره الكالح، ونلمس ذلك فى توصيتهم لرفيقهم الذاهب لشراء بعض الطعام لهم، تلطف حتى لا يحس بك أحد ، فإن القوم إذا قبضوا علينا أفقدونا ديننا، وهنا الطامة! "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " .

يبدو أن النفس البشرية يتم تجميدها على ما ماتت عليه ، لتبعث به يوم النشور دون زيادة ولا نقصان ، سواء ظلت فى نومتها الأخيرة ثلاثة قرون أو ثلاثمائة قرن إن نهاية مشوارها فى الحياة تحدد درجاتها فى هذا السباق الكبير: كم مرحلة قطعتها؟. وكم مرحلة كان يجب أن تقطعها؟

ومن الفرق بين الرقمين يُعرف الناشط والكسول والسابق والمسبوق.

 

 

كتاب : الحق المر

 فضيلة : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 2 ] : ما نريده.. وما يراد لنا

أنا وأنت وغيرنا من الناس نشترك فى سباق طويل، سباق قد يستغرق العمر كله، نعرف بعده من المخطئ ومن المصيب ؟ من المصلح ومن المفسد؟ من المتقدم ومن المتأخر؟ أو يتكشف فيه السر المطوى فى قوله تعالى (...خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ).

وبديهى أن يبذل العاقل قواه كلها للفوز فى هذا السباق، لكن هناك أشياء لا يكترث بها، أو هى ليست فى نطاق إرادته لو اكترث بها تتصل بمكان السباق وزمانه وطبائع المشتركين فيه وأعدادهم.. الخ.

ما يدخل فى إرادتى أحتشد له ! وما لا يتعلق لى أتجاوزه!!.

من أجل ذلك رفضت الإجابة على سؤال وجه إلى خلاصته: لو خيرت قبل المجيء إلى الدنيا فى العصر الذى تختاره لتحيا فيه، فأى عصر كنت تفضل..؟.

قلت للسائل: إن إيمانى بربى، وثقتى فى حسن اختياره لى يجعلانى لا أختار إلا ما اختاره سبحانه وتعالى، فلا أحب أن أتقدم برغبة تخالف ما وقع لى! أنا راض بهذا العصر الذى شاء ربى إيجادى فيه!.

قال: حسبناك ستطلب الوجود فى عصر الصحابة!

قلت : إن الصحابة خيرة القرون وهم سلفنا الصالح، ومع ذلك فإن النبى عليه الصلاة والسلام ود لو يرى إخوانه! فلما قال له الصحابة: ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابى، وإخوانى الذين يجيئون بعدى، آمنوا بى ولم يرونى..!!.

والذين يؤمنون بالإسلام ونبيه فى هذا العصر المعنت ويحافظون على شعائر الدين ضد هجوم الإنس والجن، لهم عند الله مكانة صالحة. وقد يشاركون بعض الأصحاب فى الفضل..

إن الغربة التى يعانيها محبو الله ورسوله لها عند الله ثواب ضخم! ومن العبث التطلع إلى الوجود فى عصر الصحابة. ولكن الرجولة والحزم استغلال الواقع المتاح فى إدراك منزلة حسنة عند الله سبحانه وتعالى .

قال صاحبى: هل المسافة بعيدة بين ما نريده وما يراد لنا؟ أو بين قدر الله ورغبات البشر؟.

قلت: لا أسوق إجابة محددة، وأكتفى بنماذج مما قصه علينا فى الكتاب العزيز .. عندما كنت أتلو سورة الأنفال. وأتتبع معركة بدر ، قلت لمن حولى : نحمد الله لأن قافلة قريش نجت، وفر بها أبو سفيان!.

فسألنى سائل: لماذا ؟ وقد كان الصحابة يتمنون الاستيلاء عليها. وهم على أية حال أولى بها من مشركى مكة ؟. قلت: لو وقعت فى أيديهم ودار القتال من أجلها لقال المستشرقون : جهاد لطلب المال ، وحب الدنيا! من أجل القافلة خرجوا وفى سبيلها ماتوا. وسينسى المرجفون والأفاكون خمس عشرة سنة انقضت فى كفاح مرير وتضحية موصولة قبل معركة بدر!

فشاء الله أن تسير الأمور ضد رغبة الأصحاب. وأن تخلص القافلة لعبدة الأوثان ، وأن يتجرد الكفاح لنصرة الحق وطلب الآخرة. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين).

وهكذا أراد الله أن يدور القتال لا تشوبه شائبة بين توحيد يرجو الله واليوم الآخر، ووثنية لا ترجو لله وقارا ، ولا تنشد عنده ثوابا. فماذا كانت النتيجة ؟ كسب المسلمون المعركة بشرف باذخ وسطوة اشرأبت لها الأعناق فى جزيرة العرب!

ثم ماذا؟ لعل أصحاب القافلة باعوا نفائسها لافتداء أسراهم فى المدينة الظافرة. ثم ماذا أيضا ؟ يحكى أبو تمام فى حماسته أن امرأة فى مكة سُمع صياحها لأن بعيرا لها انطلق فى الصحراء. فقال أحد رجال مكة المكظومين :

أتبكى أن يضل لها بعير .. ويمنعها من النوم السهود؟

فلا تبكى على بكر ولكن .. على بدر تقاصرت الجدود!

ألا قد ساد بعدهم أناس .. ولولا يوم بدر لم يسودوا!

نعم إن يوم بدر قلب موازين الشرك كلها، وخفض رجالا ورفع آخرين، فهل علم من يجهل حكمة الله فى تمكين القافلة من الفرار، وعدم تحقيق رجاء المسلمين فى الاستحواذ عليها..؟.

ومثل آخر نسوقه لما نريده لأنفسنا وما يريده الله لنا.

دخل يوسف الصديق السجن وهو أبعد الناس عن تهمة، وأحقهما بالتكريم والإجلال، وانتظر على مضض أن يخرج من عالم السدود والقيود! وهيهات. ثم عبر الرؤيا لصاحبى السجن، وشعر بأن رؤيا أحدهما تدل على أنه سيكون نديم الملك، فقال له ـ وهو يتلهف على الخروج ـ اذكرنى عند ربك. كلمة مفعمة بالأمل من متهم برىء، يطلب العدالة، وهو أحق الناس بأن تعرف حقيقته وتنشر صفحته..

بيد أن النديم المبهور احتوته أضواء القصور، فنسى رفاق السجن، ونسى الرجل الصالح الذى بشره بمستقبله، وذكره بنفسه، فلم يفعل شيئا ما لإنقاذ يوسف (فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين).

واليوم فى السجن، ذاهب فى الطول مغرق فى الملالة، فكيف ببضع سنين؟.

لكن الأمر بالنسبة إلى يوسف عليه السلام كان له معنى آخر، كانت فترة السجن إنضاجا وإعدادا لمستقبل لا يخطر ببال، كانت تهيئة لأرفع المناصب فى دين الله ودنيا الناس، كانت جمعا للنبوة والملك.

واحتاج الملك وحاشيته إلى يوسف فى أعقاب رؤيا محيرة، ولكن الرجل الذى كان متلهفا على الخروج، ينشد له الوسائل الممكنة تريث هذه المرة، وأخذ يشترط قبل أن يتحرك نحو الحرية! (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ).

يوسف عندما طلب للملك بعد تلك السنين الطوال كان فى حال نفسية أخرى! لقد بطل سعيه لنفسه، وامتد سكونه لربه، واستكان لِقَدره الغالب، واستراح لما يقع له فى الغد القريب والبعيد. فألهم الله الملك الرؤيا العجيبة؟ أليس هو سبحانه الذى يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها؟ فلم يخرج يوسف من سجنه فى عفو عام، كلا لقد عرف الجميع براءته وتقواه ووفاءه وشرفه.

وعندما خرج من ضيق السجن كان الطريق ممهدا أمامه ليضع قدمه فى أى مكان من أرض الله الواسعة (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء)

إن ما صنعه الله ليوسف أفضل كثيرا مما صنعه يوسف لنفسه عندما قال لرفيق السجن (اذكرني عند ربك) المهم هو التبتل إلى الله، والتأميل فيه، والرضا بقضائه وألا تخون الرجل خصائصه الرفيعة فى الساعات الحرجة!!

وما قصصناه آنفا توكيد لحقيقة إيمانية تغيب عن بالنا كثيرا.

إننا نثق فى أحكامنا ومشاعرنا وقد نظنها عين اليقين وقد تكون عند البحث عين الخطأ، ومن هنا نفهم قوله تعالى لرجال قد يكرهون نساءهم ويرخصون عشرتهن ويخططون لمفارقتهن يقول لهم: لا تفعلوا، اتهموا هذه العواطف النافرة (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)،

من يدرى قد تنجب من هذه الزوجات أذكى الأولاد، وأكرمهم معدنا، وأنضرهم مستقبلا.

ويمتد هذا الحكم من ميدان الأسرة إلى ساحات الجماعة كلها، فالشعوب عادة تألف حياة السلام ، وتؤثر رغد العيش. وتكره سفك الدم ومغادرة البيوت والأهل إلى ميادين القتال.. لكن ما العمل إذا تعرضت العقيدة للاضطهاد، والمقدسات للإهانة، والكرامات للضياع؟ إنه لا مفر عندئذ من الحرب والتعرض لمكارهها!

ومهما فدحت الخسائر فالنتائج المخوفة أفضل من النكوص على العقبين، وذلك معنى قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)!

وقد تحولت أمم عن أرضها مخافة الموت فهل نجت منه ؟ إنها هربت منه فى ميدان فوجدته ينتظرها فى ميدان آخر ، ولو صمدت له فى الميدان الأول لقلت مغارمها ومآسيها فى الميدان الآخر. وإلى هذا يشير قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. "؟ هل نجوا من الموت بالخروج الذليل؟ كلا ، " فقال لهم الله موتوا.. " ثم أحيا الله بقاياهم بعدما تابوا وآمنوا وتشجعوا وكافحوا وبذلوا على نحو ما حكى القرآن الكريم..

إن الله ـ لأنه حميد مجيد ولأنه كتب على نفسه الرحمة ـ يضع لعباده ما هو أفضل لهم وأجدى عليهم!.

وثقتى فى فضله تباركت أسماؤه تجعلنى أستكين لأقداره وإن غابت عنى حكمتها .

وهناك أمر آخر لابد من معرفته: إن التفاوت بين المخلوقات، وحظوظها من الفضل الأعلى جزء من النظام الكونى السائد، فالناس ليسوا سواء فيما ينالون من عطاء الله، بل فما يقدرون عليه بملكاتهم المادية والأدبية! يوجد امرؤ طاقته أن يحمل على منكبه ثقلا. أو يجر وراءه عربة، ويوجد من يطلق الصواريخ ويغزو الفضاء! والقرآن الكريم صريح فى وجود هذا التفاوت، وخضوعه لمشيئة الله وحده ، "إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ".

الكواكب فى السماء متفاوتة. يقول علماء الفلك: إن الشمس أكبر من القمر نحو ألفى ألف مرة! والملائكة وهم العباد المكرمون متفاوتون .. "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء " والأنبياء وهم أشرف الناس وأنفسهم معادن متفاوتون " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.. ".

والظاهر أن هذا " البعض " الذى سما درجات هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فهو قمة الخليقة وعلمها المفرد وأشرف من حمل صفة عبد الله!!.

ومع أن التفاوت بين الكائنات من شئون الألوهية التى تغيب عنا، إلا أننا نلحظ نوعا من الارتباط بين التغير النفسى الحاسم وبين الفضل الإلهى المأمول، ولكى يتضح ما نعنى نسوق الأمثلة الشارحة :

خاصم الخليل إبراهيم أباه وقومه فى الأصنام التى يعبدونها من دون الله ،وبدأ الخصام نظريا فى قيمة هذه الآلهة المزعومة، وحاول بالأدلة العقلية والمحاورات المتأنية أن يقنعهم بعبادة الله وحده لكنهم أصروا على عوجهما.. فكان لزاما على إبراهيم أن يمضى وحده فى طريقه، وأن تتحول مخاصمته لهم إلى اعتزال ومقاطعة. وأن يستوحش من الأقارب والأصحاب إيثارا للأنس بالله وحده ، ثم يشرع بعدئذ فى بناء مجتمع مسلم يعتز بالتوحيد. ويخطط له على وجه الأرض. ويجادل فيه الملوك وغير الملوك! فماذا صنع الله له؟ قال سبحانه: " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا".

إنها مكافأة سخية لرجل كان أمة اعتصم بالله وتحمل فى ذاته الكثير. فجعل الله له ابنه الثانى نبيا ـ بعد ابنه الأول إسماعيل ـ ثم زاد بركته فجعل حفيده من إسحاق نبيا كذلك.. وادخر فى عقب إسماعيل النبوة الخاتمة للرسل أجمعين. إن بركات الله إذا انهمرت لم يقفها شيء. فاللهم أنلنا منها حسنة فى الدنيا والآخرة، فما لنا غنى عن بركتك !!.

وفى قصة أهل الكهف مثل لتنامى رضوان الله إلى حدود بعيدة.

إن أولئك الفتية أشبهوا إبراهيم فى مخاصمة قومهم عبدة الأصنام، وإنك لترى نضارة الفكر المؤمن فى مسلكهم العقلى. الإيمان لديهم نزعة تقدمية تحترم الحقيقة وتحتقر الخرافة وتجرى وراء الدليل وترفض التقليد الأعمى! " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ".

أى هلا أتوا بدليل واضح على ما يزعمون ؟ لكن الباطل لا دليل له. ولا سناد للكذب ولا اعتراف بأصحابه! " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا"

وجرت سنة الإيمان فى طريقها، ونفر الشباب المؤمن من مشاركة قومهم فى مراسم الوثنية. وقرر الاعتزال والمقاطعة، فكان الجزاء أن خلد الله ذكرهم فى قصص خارق ووحى يتلى أبد الدهر " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ".

الغريب أن هؤلاء الشبان بعد رقدتهم المشهورة التى طالت قرونا استيقظوا وهم يحملون ذات العاطفة الناقمة على الشرك وأهله. الموقنة بمصيره الكالح، ونلمس ذلك فى توصيتهم لرفيقهم الذاهب لشراء بعض الطعام لهم، تلطف حتى لا يحس بك أحد ، فإن القوم إذا قبضوا علينا أفقدونا ديننا، وهنا الطامة! "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " .

يبدو أن النفس البشرية يتم تجميدها على ما ماتت عليه ، لتبعث به يوم النشور دون زيادة ولا نقصان ، سواء ظلت فى نومتها الأخيرة ثلاثة قرون أو ثلاثمائة قرن إن نهاية مشوارها فى الحياة تحدد درجاتها فى هذا السباق الكبير: كم مرحلة قطعتها؟. وكم مرحلة كان يجب أن تقطعها؟

ومن الفرق بين الرقمين يُعرف الناشط والكسول والسابق والمسبوق.

 


: الأوسمة



التالي
البيان الختامي للدورة 21 لمجلس شورى حركة النهضة
السابق
وداعا صنعاء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع