البحث

التفاصيل

الحلقة [ 28 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين)

الرابط المختصر :

 

الفصل الرابع : آية السيف وما قيل: إنها نسخت (140) آية ( 3 من 4)

• ( 4 ) آية: قتال أهل الكتاب حتى يعطو الجزية:

ومن الآيات التي زعموا أنها (آية السيف): آية سورة التوبة في قتال أهل الكتاب، وهي قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29[

قالوا: هذه الآية تأمر بقتال أهل الكتاب الذين وصفتهم الآية بما وصفتهم به، من اليهود والنصارى، ولم تشترط لقتالهم: أن يكونوا قاتلوا المسلمين، وعلى الذين آمنوا أن يقاتلوا هؤلاء حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

ومن الواضح لمَن تدبَّر آيات القرآن، وربط بعضها ببعض: أن هذه الآيات نزلت بعد غزوة تبوك، التي أراد النبي فيها مواجهة الروم، والذين قد واجههم المسلمون من قبل في معركة مؤتة، واستشهد فيها القواد الثلاثة الذين عيَّنهم النبي صلى الله عليه وسلم على التوالي: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة.

فالمعركة مع دولة الروم كانت قد بدأت، ولا بد لها أن تبدأ، فهذه الإمبراطوريات الكبرى لا يمكن أن تسمح بوجود دين جديد يحمل دعوة عالمية، لتحرير البشر، من العبودية للبشر، وخلاصة دعوته: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. وهؤلاء يريدون أن يكونوا أربابا لشعوبهم من دون الله!

وهم الذين بدؤوا المسلمين بقتل دعاتهم والتحرُّش بهم، وهو المعهود والمنتظَر منهم، فهذه معركة حتمية لا بد أن يخوضها المسلمون، وهي كُره لهم.

وقد رأينا الرسول الكريم أقدم على غزوة تبوك حين بلغه أن الروم يعدُّون العدة - بوساطة حلفائهم من قبائل العرب - لغزوه في عقر داره في المدينة، فأراد أن يغزوهم قبل أن يغزوه، ولا يدع لهم المبادرة، ليكون زمامها بأيديهم. وهذا من الحكمة وحسن التدبير. وهو مما اعتبره الكتَّاب العسكريون في عصرنا من (العبقرية العسكرية)[1] للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

فالآية الكريمة هنا تأمر باستمرار القتال لهؤلاء الروم الذين يزعمون أنهم أهل كتاب، وأنهم على دين المسيح، وهم أبعد الناس عن حقيقة دينه. فقد حرَّفوا النصرانية الأصيلة عن التوحيد، وأدخلوا فيها عناصر من وثنيتهم القديمة. ولذا قال القاضي عبد الجبار (ت415هـ)[2] : إن الروم ما تنصَّرت، ولا أجابت المسيح، بل النصارى تروَّمت، وارتدَّت عن دين المسيح، وعطَّلت أصوله وفروعه، وصارت الى ديانة أعدائه!!

وهذه الآية لا يجوز أن تُقرأ منفصلة عن سائر الآيات الأخرى في القرآن، فإذا وجد في أهل الكتاب مَن اعتزل المسلمين، فلم يقاتلوهم، ولم يظاهروا عليهم عدوا، وألقوا إليهم السلم، فليس على المسلمين أن يقاتلوهم، وقد قال الله تعالى: في شأن قوم من المشركين: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]. ولا ريب أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المشركين الوثنيين. فلا يُعقل أن يحرِّم القرآن قتال الوثنين إذا كفوا أيديهم عن المسلمين وألقوا إليهم السلم، ثم يأمر بقتال أهل الكتاب إذا هم فعلوا ذلك!

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعُوا الحبشة ما وَدَعُوكم"[3] . والحبشة نصارى أهل كتاب، كما هو معلوم.

وقال العلاَّمة محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]: (هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا مَن ذُكر: عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم، أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل الروم، فكان سببا لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما. فالقيد الأول لهم، وهو: أن تكون صادرة عن يد أي قدرة وسَعَة، فلا يُظلَمون ويُرهَقون. والثاني لكم، وهو: الصَّغار، والمراد به تخضيد شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم. وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام، بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم، التي يرونها أقرب إلى هداية أنبيائهم منهم. فإن أسلموا عمَّ الهدى والعدل والاتحاد، وإن لم يُسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل، ولم يكونوا حائلا دونها في دار الإسلام.

والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينيا أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية: وجب تأمينهم وحمايتهم، والدفاع عنهم، وحريتهم في دينهم بالشروط التي تُعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمَّون (أهل الذمة)، لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله[4] . وأما الذين يُعقد الصلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق، يعترف كل منا ومنهم باستقلال الآخر، فيسمَّون (أهل العهد) والمعاهدين)[5] انتهى.

وقال العلامة الشيخ محمود شلتوت في رسالته (القرآن والقتال(

(وقد جاء في سورة التوبة بعد هذه الآيات آيتان، ربما أوهم ظاهرهما خلاف ما تُقرِّر هذه الآيات في سبب القتال، نسوقهما هنا، ونبين ما يدلان عليه في ضوء الآيات المتقدمة التي تعتبر - لكثرتها ووضوحها - أصلا في مشروعية القتال وسببه، يجب أن يُتحاكم إليه ويخرَّج ما سواه عليه.

أولا: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29[

ثانيا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123[

فالآية الأولى تأمر المسلمين باستمرار مقاتلة طائفة هذه صفتها: {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...} [التوبة:29]، قد ارتكبت من قبل مع المسلمين ما كان سببا للقتال من نقض عهد، وانقضاض على الدعوة، ووضع للعراقيل في سبيلها، فهي لا تجعل عدم الإيمان وما بعده سببا للقتال، ولكنها تذكر هذه الصفات التي صارت إليهم، تبيينا للواقع، وإغراء بهم، مع تحقُّق العدوان منهم؛ غيَّروا دين الله، واتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دونه، يحلِّلون لهم بالهوى ويحرِّمون، غير مؤمنين بتحليل الله ولا تحريمه، وليس عندهم ما يردعهم عن نقض عهد، ولا مصادرة حقٍّ، ولا رجوع عن عدوان وبغي.

هؤلاء هم الذين تأمر الآية باستمرار قتالهم حتى نأمن شرَّهم، ونثق بخضوعهم، وانخلاعهم من الفتنة التي يتقلَّبون فيها، وجعل القرآن على هذا الخضوع علامة، هي دفعهم الجزية، التي هي اشتراك فعلي في حمل أعباء الدولة، وتهيئة الوسائل إلى المصالح العامة للمسلمين وغير المسلمين.

وفي الآية: ما يدلُّ على سبب القتال الذي أشرنا إليه وهو قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقوله: {عَنْ يَدٍ}، فإنهما يقرِّران الحال التي يصيرون إليها عند أخذ الجزية منهم، وهي خضوعهم، وكونهم بحيث يشملهم سلطان المسلمين؛ وتنالهم أحكامهم، ولا ريب أن هذا يُؤذِن بسابقية تمرُّدهم، وتحقُّق ما يدفع المسلمين إلى قتالهم.

هذا هو المعنى الذي يُفهم من الآية، ويساعد عليه سياقها، وتتَّفق به مع غيرها، ولو كان القصد منها أنهم يقاتَلون لكفرهم، وأن الكفر سبب لقتالهم لجُعلت غاية القتال إسلامهم، ولما قُبلت منهم الجزية وأقرُّوا على دينهم.

أما الآية الثانية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ...} [التوبة:123]، فليست واردة مورد الآيات السابقة في بيان سبب القتال وما يحمل عليه، وإنما جاءت إرشادا لخطة حربية عملية تترسَّم عند نشوب القتال المشروع فعلا، فهي ترشد المسلمين إلى وجوب البدء عند تعدُّد الأعداء بقتال الأقرب فالأقرب، عملا على إخلاء الطريق من الأعداء المناوئين، وتسهيلا لسبل الانتصار[6[

وهذا المبدأ الذي قرَّره القرآن من المبادئ التي تعمل بها الدول المتحاربة في هذا العصر الحديث، فلا تخطو دولة مهاجمة خطوة إلا بعد إخلاء الطريق أمامها، والاطمئنان إلى زوال العقبات من سبيلها.

وبهذا يتبيَّن أنه لا صِلة للآيتين بسبب القتال الذي تضافرت الآيات الأخرى على بيانه)[7] انتهى.

• بعض الآيات التي ادعوا نسخها بآية السيف:

لا يتَّسع المجال هنا لنتعرَّض لكلِّ الآيات الكثيرة والوفيرة التي زعموا أنها نُسخت بآية السيف، فهذا ذكره يطول.

فإنهم لم يتركوا آية تدعو إلى الرفق واللين، أو العفو والصفح، أو الصبر والدفع بالتي هي أحسن، أو تأمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، أو غير ذلك مما هو أساس في مكارم الأخلاق التي أعلن محمد عليه الصلاة والسلام أنه بعث ليتممها[8]، إلاَّ قالوا عنها: نسختها آية السيف.

فقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالي:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] نسختها آية السيف.

وقوله تعالى لرسوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109]، قالوا: نسختها آية السيف.

ومثلها كلُّ ما أُمر فيه الرسول بالصبر، مثل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، وغيرها.

وسنختار هنا بعض هذه الآيات - التي ادُّعي نسخها - مما يحتاج إلى بيان في موضوع الجهاد والقتال، لنُلقي عليها شعاعا، يبين الصواب من الخطأ، ويميز الحق من الباطل.

• ( 1 ) آية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ{

ومن الآيات التي ادَّعوا فيها أنها نسختها (آية السيف) قوله تعالى في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]. والمراد: نسخت مفهومها. إذ مفهوم المخالفة في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190]: ألا نقاتل مَن لا يقاتلنا.

قال أبو جعفر النحاس: (قال ابن زيد[9] : هي منسوخة، نسخها: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36[

وعن ابن عباس: أنها مُحكمة. روى عنه ابن أبي طلحة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، قال: لا تقتلوا النساء والصبيان ولا الشيخ الكبير ولا مَن ألقى إليكم السلم وكفَّ يده، فمَن فعل ذلك فقد اعتدى.

قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين، من السنة والنظر.

فأما السنة، فحدثنا بكر بن سَهْل قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في بعض مغازيه: امرأة مقتولة، فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان[10] . وهكذا يروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب: لا تقتلوا النساء والصبيان والرهبان في دار الحرب فتعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين[11[

قال أبو جعفر: والدليل على هذا من اللغة: أن (فَاعَلَ) يكون من اثنين، فإنما هو من أنك تقاتله ويقاتلك، فهذا لا يكون في النساء ولا الصبيان، ولهذا قال مَن قال مَن الفقهاء[12] : لا يؤخذ من الرهبان الجزية، لقول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وليس الرهبان ممَّن يقاتل، فصار المعنى: فقاتلوا في طريق الله وأمره: الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، فتقتلوا النساء والصبيان والرهبان، ومَن أعطى الجزية، فصحَّ أن الآية غير منسوخة)[13] انتهى.

ونحن مع الإمام أبي جعفر النحاس، ومع ما رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: في أن هذه الآية مُحكمة وليست منسوخة. إذ الأصل في آيات القرآن هو الإحكام، وبقاء حكمها ساريا نافذا، ولا نسخ إلا بدليل قاطع، ولا دليل. ونزيد على ما قاله أبو جعفر: أنها نهت بمفهومها عن قتال مَن لم يقاتلنا، ولم يُنسخ هذا المفهوم أيضا. وقد جاء في رواية ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه أضاف إلى النساء والصبيان والشيخ الكبير: مَن ألقى إليكم السلم، وكفَّ يده.

• ( 2 ) آية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{

ومن الآيات التي قالوا: إن آية السيف نسختها، قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256[

والذي أراه: أن مثل هذه الآية لا تُنسخ؛ لأنها معلَّلة بعِلَّة لا تقبل النسخ، فهي تبيِّن أن الدين الحق - وهو دين الإسلام - لا يقبل الإكراه، ولا يجوِّز الإكراه، لعِلَّة ظاهرة، وهو: أنه لا يحتاج إلى إكراه قط، لجلاء بيِّناته، ووضوح دلائله، يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية: يقول تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: (أي لا يُكره أحد على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل مَن هداه الله للإسلام وشرح صدره له، ونوَّر بصيرته: دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرها مقسورا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاما)[14] انتهى.

ومما يحتجُّ به لهذا القول: ما ذكره أبو جعفر النحاس في (الناسخ والمنسوخ) بإسناده إلى زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحقِّ. قالت العجوز: أنا عجوز كبيرة، وأموت إلى قريب. فقال عمر: اللهم اشهد. ثم قال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[15[

ورجَّح النحاس أن الآية مخصوصة بأهل الكتاب، لما رواه النَّسائي بإسناده إلى ابن عباس قال: كانت المرأة تجعل على نفسها – إن عاش لها ولد - أن تهوِّده، فلما أُجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار! فقالت الأنصار: لا نَدَع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256] [16[

قال أبو جعفر: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال، لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي، فلما خبر أن الآية نزلت في هذا، وجب أن يكون أولى الأقوال، وأن تكون الآية مخصوصة[17[

ونحن مع أبي جعفر النحاس، ومع ابن عباس رضي الله عنهما في أن الآية نزلت فيما ذكره من قصة الأنصار، ولكن المقرَّر عند جمهور العلماء: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ الآية عام، لأنه نكره في سياق النفي فتعم ، وبهذا يتناول السبب وغيره.

ومما يؤكِّد ما جاءت به هذه الآية من نفي الإكراه بصيغة مطلقة: ما جاء في القرآن المكي من مثل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، بهذا الاستفهام الإنكاري, وقوله تعالى على لسان نوح لقومه: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28[

ومما يؤيِّد ما دلَّت عليه الآية من النفي المطلق للإكراه في الدين: ما ذكرناه مما علَّلت به الآية ذلك. بقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، فلا حاجة إذن إلى الإكراه، ولا مبرِّر له.

• ( 3 ) آية: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا{

يقول الإمام ابن جَرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَاوَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [الأنفال:61].

(يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال:58]، أو غدرًا، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، وآذنهم بحرب، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَاوَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [الأنفال:61]، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب: إما بالدخول في الإسلام، أو بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح، فاجنح لها، يقول: فمِل إليها وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألُوكه.

ثم ذكر الطبري قول قتادة وابن زيد بأن هذه الآية نسختها آية براءة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] إلخ، ثم ردَّ عليه قائلا: فأما قول قتادة ومَن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فنقول: لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة، ولا فطرة عقل.

قال: وقد دلَّلنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره، على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا)[18] انتهى.

 

 

كتاب : فقه الجهاد .. - تأليف : الدكتور يوسف القرضاوي

الحلقة [ 28 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين)

الفصل الرابع : آية السيف وما قيل: إنها نسخت (140) آية ( 3 من 4)

• ( 4 ) آية: قتال أهل الكتاب حتى يعطو الجزية:

ومن الآيات التي زعموا أنها (آية السيف): آية سورة التوبة في قتال أهل الكتاب، وهي قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29[

قالوا: هذه الآية تأمر بقتال أهل الكتاب الذين وصفتهم الآية بما وصفتهم به، من اليهود والنصارى، ولم تشترط لقتالهم: أن يكونوا قاتلوا المسلمين، وعلى الذين آمنوا أن يقاتلوا هؤلاء حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

ومن الواضح لمَن تدبَّر آيات القرآن، وربط بعضها ببعض: أن هذه الآيات نزلت بعد غزوة تبوك، التي أراد النبي فيها مواجهة الروم، والذين قد واجههم المسلمون من قبل في معركة مؤتة، واستشهد فيها القواد الثلاثة الذين عيَّنهم النبي صلى الله عليه وسلم على التوالي: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة.

فالمعركة مع دولة الروم كانت قد بدأت، ولا بد لها أن تبدأ، فهذه الإمبراطوريات الكبرى لا يمكن أن تسمح بوجود دين جديد يحمل دعوة عالمية، لتحرير البشر، من العبودية للبشر، وخلاصة دعوته: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. وهؤلاء يريدون أن يكونوا أربابا لشعوبهم من دون الله!

وهم الذين بدؤوا المسلمين بقتل دعاتهم والتحرُّش بهم، وهو المعهود والمنتظَر منهم، فهذه معركة حتمية لا بد أن يخوضها المسلمون، وهي كُره لهم.

وقد رأينا الرسول الكريم أقدم على غزوة تبوك حين بلغه أن الروم يعدُّون العدة - بوساطة حلفائهم من قبائل العرب - لغزوه في عقر داره في المدينة، فأراد أن يغزوهم قبل أن يغزوه، ولا يدع لهم المبادرة، ليكون زمامها بأيديهم. وهذا من الحكمة وحسن التدبير. وهو مما اعتبره الكتَّاب العسكريون في عصرنا من (العبقرية العسكرية)[1] للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

فالآية الكريمة هنا تأمر باستمرار القتال لهؤلاء الروم الذين يزعمون أنهم أهل كتاب، وأنهم على دين المسيح، وهم أبعد الناس عن حقيقة دينه. فقد حرَّفوا النصرانية الأصيلة عن التوحيد، وأدخلوا فيها عناصر من وثنيتهم القديمة. ولذا قال القاضي عبد الجبار (ت415هـ)[2] : إن الروم ما تنصَّرت، ولا أجابت المسيح، بل النصارى تروَّمت، وارتدَّت عن دين المسيح، وعطَّلت أصوله وفروعه، وصارت الى ديانة أعدائه!!

وهذه الآية لا يجوز أن تُقرأ منفصلة عن سائر الآيات الأخرى في القرآن، فإذا وجد في أهل الكتاب مَن اعتزل المسلمين، فلم يقاتلوهم، ولم يظاهروا عليهم عدوا، وألقوا إليهم السلم، فليس على المسلمين أن يقاتلوهم، وقد قال الله تعالى: في شأن قوم من المشركين: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]. ولا ريب أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المشركين الوثنيين. فلا يُعقل أن يحرِّم القرآن قتال الوثنين إذا كفوا أيديهم عن المسلمين وألقوا إليهم السلم، ثم يأمر بقتال أهل الكتاب إذا هم فعلوا ذلك!

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعُوا الحبشة ما وَدَعُوكم"[3] . والحبشة نصارى أهل كتاب، كما هو معلوم.

وقال العلاَّمة محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]: (هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا مَن ذُكر: عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم، أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل الروم، فكان سببا لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما. فالقيد الأول لهم، وهو: أن تكون صادرة عن يد أي قدرة وسَعَة، فلا يُظلَمون ويُرهَقون. والثاني لكم، وهو: الصَّغار، والمراد به تخضيد شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم. وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام، بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم، التي يرونها أقرب إلى هداية أنبيائهم منهم. فإن أسلموا عمَّ الهدى والعدل والاتحاد، وإن لم يُسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل، ولم يكونوا حائلا دونها في دار الإسلام.

والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينيا أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية: وجب تأمينهم وحمايتهم، والدفاع عنهم، وحريتهم في دينهم بالشروط التي تُعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمَّون (أهل الذمة)، لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله[4] . وأما الذين يُعقد الصلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق، يعترف كل منا ومنهم باستقلال الآخر، فيسمَّون (أهل العهد) والمعاهدين)[5] انتهى.

وقال العلامة الشيخ محمود شلتوت في رسالته (القرآن والقتال(

(وقد جاء في سورة التوبة بعد هذه الآيات آيتان، ربما أوهم ظاهرهما خلاف ما تُقرِّر هذه الآيات في سبب القتال، نسوقهما هنا، ونبين ما يدلان عليه في ضوء الآيات المتقدمة التي تعتبر - لكثرتها ووضوحها - أصلا في مشروعية القتال وسببه، يجب أن يُتحاكم إليه ويخرَّج ما سواه عليه.

أولا: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29[

ثانيا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123[

فالآية الأولى تأمر المسلمين باستمرار مقاتلة طائفة هذه صفتها: {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...} [التوبة:29]، قد ارتكبت من قبل مع المسلمين ما كان سببا للقتال من نقض عهد، وانقضاض على الدعوة، ووضع للعراقيل في سبيلها، فهي لا تجعل عدم الإيمان وما بعده سببا للقتال، ولكنها تذكر هذه الصفات التي صارت إليهم، تبيينا للواقع، وإغراء بهم، مع تحقُّق العدوان منهم؛ غيَّروا دين الله، واتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دونه، يحلِّلون لهم بالهوى ويحرِّمون، غير مؤمنين بتحليل الله ولا تحريمه، وليس عندهم ما يردعهم عن نقض عهد، ولا مصادرة حقٍّ، ولا رجوع عن عدوان وبغي.

هؤلاء هم الذين تأمر الآية باستمرار قتالهم حتى نأمن شرَّهم، ونثق بخضوعهم، وانخلاعهم من الفتنة التي يتقلَّبون فيها، وجعل القرآن على هذا الخضوع علامة، هي دفعهم الجزية، التي هي اشتراك فعلي في حمل أعباء الدولة، وتهيئة الوسائل إلى المصالح العامة للمسلمين وغير المسلمين.

وفي الآية: ما يدلُّ على سبب القتال الذي أشرنا إليه وهو قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقوله: {عَنْ يَدٍ}، فإنهما يقرِّران الحال التي يصيرون إليها عند أخذ الجزية منهم، وهي خضوعهم، وكونهم بحيث يشملهم سلطان المسلمين؛ وتنالهم أحكامهم، ولا ريب أن هذا يُؤذِن بسابقية تمرُّدهم، وتحقُّق ما يدفع المسلمين إلى قتالهم.

هذا هو المعنى الذي يُفهم من الآية، ويساعد عليه سياقها، وتتَّفق به مع غيرها، ولو كان القصد منها أنهم يقاتَلون لكفرهم، وأن الكفر سبب لقتالهم لجُعلت غاية القتال إسلامهم، ولما قُبلت منهم الجزية وأقرُّوا على دينهم.

أما الآية الثانية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ...} [التوبة:123]، فليست واردة مورد الآيات السابقة في بيان سبب القتال وما يحمل عليه، وإنما جاءت إرشادا لخطة حربية عملية تترسَّم عند نشوب القتال المشروع فعلا، فهي ترشد المسلمين إلى وجوب البدء عند تعدُّد الأعداء بقتال الأقرب فالأقرب، عملا على إخلاء الطريق من الأعداء المناوئين، وتسهيلا لسبل الانتصار[6[

وهذا المبدأ الذي قرَّره القرآن من المبادئ التي تعمل بها الدول المتحاربة في هذا العصر الحديث، فلا تخطو دولة مهاجمة خطوة إلا بعد إخلاء الطريق أمامها، والاطمئنان إلى زوال العقبات من سبيلها.

وبهذا يتبيَّن أنه لا صِلة للآيتين بسبب القتال الذي تضافرت الآيات الأخرى على بيانه)[7] انتهى.

• بعض الآيات التي ادعوا نسخها بآية السيف:

لا يتَّسع المجال هنا لنتعرَّض لكلِّ الآيات الكثيرة والوفيرة التي زعموا أنها نُسخت بآية السيف، فهذا ذكره يطول.

فإنهم لم يتركوا آية تدعو إلى الرفق واللين، أو العفو والصفح، أو الصبر والدفع بالتي هي أحسن، أو تأمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، أو غير ذلك مما هو أساس في مكارم الأخلاق التي أعلن محمد عليه الصلاة والسلام أنه بعث ليتممها[8]، إلاَّ قالوا عنها: نسختها آية السيف.

فقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]، قالوا: نسختها آية السيف.

وقوله تعالي:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] نسختها آية السيف.

وقوله تعالى لرسوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109]، قالوا: نسختها آية السيف.

ومثلها كلُّ ما أُمر فيه الرسول بالصبر، مثل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، وغيرها.

وسنختار هنا بعض هذه الآيات - التي ادُّعي نسخها - مما يحتاج إلى بيان في موضوع الجهاد والقتال، لنُلقي عليها شعاعا، يبين الصواب من الخطأ، ويميز الحق من الباطل.

• ( 1 ) آية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ{

ومن الآيات التي ادَّعوا فيها أنها نسختها (آية السيف) قوله تعالى في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]. والمراد: نسخت مفهومها. إذ مفهوم المخالفة في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190]: ألا نقاتل مَن لا يقاتلنا.

قال أبو جعفر النحاس: (قال ابن زيد[9] : هي منسوخة، نسخها: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36[

وعن ابن عباس: أنها مُحكمة. روى عنه ابن أبي طلحة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، قال: لا تقتلوا النساء والصبيان ولا الشيخ الكبير ولا مَن ألقى إليكم السلم وكفَّ يده، فمَن فعل ذلك فقد اعتدى.

قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين، من السنة والنظر.

فأما السنة، فحدثنا بكر بن سَهْل قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في بعض مغازيه: امرأة مقتولة، فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان[10] . وهكذا يروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب: لا تقتلوا النساء والصبيان والرهبان في دار الحرب فتعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين[11[

قال أبو جعفر: والدليل على هذا من اللغة: أن (فَاعَلَ) يكون من اثنين، فإنما هو من أنك تقاتله ويقاتلك، فهذا لا يكون في النساء ولا الصبيان، ولهذا قال مَن قال مَن الفقهاء[12] : لا يؤخذ من الرهبان الجزية، لقول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وليس الرهبان ممَّن يقاتل، فصار المعنى: فقاتلوا في طريق الله وأمره: الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، فتقتلوا النساء والصبيان والرهبان، ومَن أعطى الجزية، فصحَّ أن الآية غير منسوخة)[13] انتهى.

ونحن مع الإمام أبي جعفر النحاس، ومع ما رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: في أن هذه الآية مُحكمة وليست منسوخة. إذ الأصل في آيات القرآن هو الإحكام، وبقاء حكمها ساريا نافذا، ولا نسخ إلا بدليل قاطع، ولا دليل. ونزيد على ما قاله أبو جعفر: أنها نهت بمفهومها عن قتال مَن لم يقاتلنا، ولم يُنسخ هذا المفهوم أيضا. وقد جاء في رواية ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه أضاف إلى النساء والصبيان والشيخ الكبير: مَن ألقى إليكم السلم، وكفَّ يده.

• ( 2 ) آية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{

ومن الآيات التي قالوا: إن آية السيف نسختها، قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256[

والذي أراه: أن مثل هذه الآية لا تُنسخ؛ لأنها معلَّلة بعِلَّة لا تقبل النسخ، فهي تبيِّن أن الدين الحق - وهو دين الإسلام - لا يقبل الإكراه، ولا يجوِّز الإكراه، لعِلَّة ظاهرة، وهو: أنه لا يحتاج إلى إكراه قط، لجلاء بيِّناته، ووضوح دلائله، يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية: يقول تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: (أي لا يُكره أحد على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل مَن هداه الله للإسلام وشرح صدره له، ونوَّر بصيرته: دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرها مقسورا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاما)[14] انتهى.

ومما يحتجُّ به لهذا القول: ما ذكره أبو جعفر النحاس في (الناسخ والمنسوخ) بإسناده إلى زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحقِّ. قالت العجوز: أنا عجوز كبيرة، وأموت إلى قريب. فقال عمر: اللهم اشهد. ثم قال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[15[

ورجَّح النحاس أن الآية مخصوصة بأهل الكتاب، لما رواه النَّسائي بإسناده إلى ابن عباس قال: كانت المرأة تجعل على نفسها – إن عاش لها ولد - أن تهوِّده، فلما أُجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار! فقالت الأنصار: لا نَدَع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256] [16[

قال أبو جعفر: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال، لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي، فلما خبر أن الآية نزلت في هذا، وجب أن يكون أولى الأقوال، وأن تكون الآية مخصوصة[17[

ونحن مع أبي جعفر النحاس، ومع ابن عباس رضي الله عنهما في أن الآية نزلت فيما ذكره من قصة الأنصار، ولكن المقرَّر عند جمهور العلماء: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ الآية عام، لأنه نكره في سياق النفي فتعم ، وبهذا يتناول السبب وغيره.

ومما يؤكِّد ما جاءت به هذه الآية من نفي الإكراه بصيغة مطلقة: ما جاء في القرآن المكي من مثل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، بهذا الاستفهام الإنكاري, وقوله تعالى على لسان نوح لقومه: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28[

ومما يؤيِّد ما دلَّت عليه الآية من النفي المطلق للإكراه في الدين: ما ذكرناه مما علَّلت به الآية ذلك. بقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، فلا حاجة إذن إلى الإكراه، ولا مبرِّر له.

• ( 3 ) آية: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا{

يقول الإمام ابن جَرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَاوَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [الأنفال:61].

(يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال:58]، أو غدرًا، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، وآذنهم بحرب، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَاوَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [الأنفال:61]، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب: إما بالدخول في الإسلام، أو بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح، فاجنح لها، يقول: فمِل إليها وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألُوكه.

ثم ذكر الطبري قول قتادة وابن زيد بأن هذه الآية نسختها آية براءة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] إلخ، ثم ردَّ عليه قائلا: فأما قول قتادة ومَن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فنقول: لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة، ولا فطرة عقل.

قال: وقد دلَّلنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره، على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا)[18] انتهى.

 


: الأوسمة



التالي
التلاعب بالأسعار
السابق
كتاب : الحق المر - الحلقة [ 28 ] : صحوة المسلمين في تركيا

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع