البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد . الحلقة [ 52 ] : الباب الخامس : منزلة الجهاد ،وخطر القعود عنه، وإعداد الأمة له الفصل الخامس : إعداد الأمة للجهاد (3 من 3)

الرابط المختصر :

• ( 4 ) الإعداد النفسي والخلقي للجهاد:

وبعد من الإعداد العسكري، والإعداد الاقتصادين والإعداد الثقافي، يأتي: الإعداد النفسي والخُلُقي، وهو من ثمرات الإعداد الفكري والثقافي، وذلك فيما يأتي:

• الإيمان بسنة التدافع بين الناس :

‌أ- غرس الإيمان بسنة التدافع بين البشر، ودفع الله الناس بعضهم ببعض، حتى لا تتواكل الأمة، اعتمادا على حسن الظنِّ بالحديث عن السلام، ولا تهيِّئ نفسها لاحتمالات الهجوم من الآخرين. قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251[

• حب الجهاد :

‌ب- غرس حبِّ الجهاد في نفس كلِّ مسلم، بحيث يتمنَّى كلُّ مسلم أن يكون له حظٌّ من الجهاد، فمَن لم يجاهد بالفعل عاش الجهاد في نيَّته وخاطره. ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "مَن مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه بغزو: مات على شعبة من النفاق". رواه مسلم[1[

• الجهاد الإسلامي يتمم كل خير :

‌ج- غرس الإيمان بأن الجهاد ليس وراءه إلا الخير، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما النصر والغلبة على الكفار المعتدين، وإما الشهادة في سبيل الله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52[

• عقيدة القدر :

‌د- غرس الإيمان بعقيدة القدر، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمرين اللذين يخاف عليهما الناس، مكتوبان ومحدَّدان عند الله، وهما: الرزق والأجل، فلا يملك أحد أن ينقُص من رزقك فلسا أو لقمة، ولا يستطيع أحد أن يَنقُص من عمرك ساعة أو دقيقة أو لحظة، فالأرزاق مقسومة، والآجال محسومة، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11[

• النصر من عند الله :

هـ- غرس اليقين بأن النصر من عند الله، وأن المؤمنين منصورون، وأن مَن نصر الله نصره الله، وأن مَن نصره الله فلن يُغلب، ومَن خذله فلن ينتصر. قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10[

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7[

وقال: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172،173[

وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160[

• العزة الإيمانية :

و- غرس العزَّة الإيمانية في نفس كل مسلم، هذه العزَّة، التي هي من أخلاق المؤمنين، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10[

وأساس هذه العزَّة للمسلم: عبوديته لله، وانتسابه إليه وإلى دينه القويم، ورسوله الكريم، وانتماؤه إلى خير أمة أخرجت للناس، وفي ذلك قال المسلم الصالح يناجي ربه:

ومما زادني شرفـًا وعــزًّا وكدتُ بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلتَ أحمد لي نبيـا [2[

وقد قال عمر لأبي عبيدة: نحن كنا أذلَّ قوم فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نلتمس العزَّة بغيره أذلَّنا الله ![3[

ولهذا لا يجوز للمسلم أن يحني رأسه، أو يذلَّ نفسه، وأن يقبل الضيم والهوان، إلا مكرَها مضطَّرا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لمؤمن أن يُذلَّ نفسه" [4[

• المؤمن القوي :

ز- غرس معاني القوة في نفس كلِّ مسلم. والمراد بالقوة: قوة النفس أولا، وإن كانت قوة الجسم مطلوبة أيضا، وهذه هي القوة التي نوَّه بها الحديث الشريف: "المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف". وهذه القوة تطرد العجز والوَهْن، ولهذا جاء في هذا الحديث نفسه: "واستعن بالله ولا تعجِز" [5[

وقد وصف القرآن جماعة من المؤمنين أصابهم ما أصابهم من محن وخسائر في ساحة القتال: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146[

• الأمل الدائم :

ج – طرد معاني اليأس والقنوط والاستسلام للهزيمة إذا وقعت مرة ، فالمؤمن لا ييأس أبدا ، " إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " (يوسف : 87) وهو يؤمن أن الأيام دول ، وأن مع اليوم غدا ، وأن غدا لناظره قريب ، وإن مع الفجر ليلا ، مع العسر يسرا ، والعاقبة للمتقين ، ووعد الله لا يتخلف للمؤمنين " إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ " (آل عمران : 14(

• تمني الشهادة :

طـ- ترغيب المسلم في الشهادة في سبيل الله؛ باعتبارها أغلى وأعلى ما يحرص عليه المسلم، ويطلبه من ربِّه عزَّ وجلَّ، حتى قال صلي الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لوددتُ أن أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أحيا، ثم أُقتل" [6[

وسمع صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم آتني أفضل ما آتيت عبادك الصالحين! فقال له: "إذن يُعقر جوادك، ويُهراق دمك" [7[

وفي معركة بدر استشهد حارثة بن سراقة أصابه سهم غَرْب (طائش) فجاءت أمه تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه: إن كان في الجنة صبرتُ، واحتسبتُ، وإلا اجتهدتُ عليه في البكاء. فقال لها: "هَبِلتِ يا أم حارثة، إنها ليست جنة واحدة وإنما هي جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى!" [8[

وقال: "مَن سأل الله الشهادة بصدق: بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" [9[

وقال سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:170].

وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4-6[

ولهذا رأينا المسلمين في عهد الصحابة يتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله كما في قصة عُمير بن الحُمام الأنصاري في غزوه بدر، حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" [10[

وفي بدر تسابق سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة: أيهما يذهب للجهاد مع الرسول، فاستهما - اقترعا - فخرج السهم لسعد، فقال له أبوه: يا بني آثرني بها. قال: يا أبت إنها الجنة ولو كان شيء غيرها لآثرتك [11[

وفي فلسطين رأينا الفدائيات وأغلبهن فتيات في عمر الزهور، ومنهن الفتاة والزوجة والجدة، وفاء إدريس [12]، ودارين أبو عيشة [13]، وآيات الأخرس [14]، وعندليب طقطاقة [15]، وهبة ضراغمة [16]، وهنادي جرادات [17]، وريم الرياشي [18]، وميرفت مسعود [19]، وآخرهن فاطمة النجار [20]، يسابقن إخوانهن من الرجال في الجهاد والشهادة في سبيل الله. الذين ضربوا أروع الأمثلة في الاستبسال والتضحية بالنفس ، بتفجير أنفسهن لله ، حين لم يكن لديهن صواريخ ولا أسلحة تغني .

• ( 5 ) التحذير من الوَهْن النفسي:

وإذا كان من المعاني التي رُبِّي عليها المسلمون: القوة النفسية التي لا تبالي بما يصيبها في سبيل الله، ولا تفكِّر أتقع على الموت أم يقع الموت عليها، فإن من المعاني التي يجب الحذر منها: الوَهْن الذي يصيب الأنفس، فتتعلَّق بالدنيا ومتاعها، وتكره الموت أو تخافه. وهو ما حذَّر منه الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود، عن ثوبان مرفوعا: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كلِّ أفق، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها!". قالوا: أمن قِلَّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهْن!". قالوا: وما الوَهْن يا رسول الله؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهية الموت" [21[

لم يسألوه عن المعنى اللغوي للوَهْن فهو معروف، وهو الضعف، ولكنهم سألوه عن سرِّه وعلَّته، فكشف لهم اللثام عن هذا السرِّ، وهو: "حبُّ الدنيا، وكراهية الموت".

في عهد الصحابة كانوا يتسابقون إلى الموت في سبيل الله، لإيمانهم بأنه عين الحياة، وليس موتا كما يحسب الجهال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154[

وكان خالد بن الوليد يبعث برسائل إلى قادة الفرس والروم يدعوهم إلى الإسلام، أو الانقياد لحكم المسلمين، ويختمها بقوله: وإلا غزوتكم بقوم يحبُّون الموت كما تحبُّون الحياة [22[

حذَّرت السنة النبوية: أن يشيع في الأمة روح الوَهْن الذي يعرضها إلى خطر الطمع فيها، والتداعي عليها كما يتداعى الجياع إلى القصاع، والتهامها في النهاية لقمة سائغة، وذلك حين تفقد الأمة روح المقاومة، وتفقد أسباب المناعة والصلابة، ويفشو فيها التخاذل والاستسلام.

وكأنما كان رسولنا الكريم ينظر من وراء الغيب إلى ما عليه أمتنا اليوم، ويعبر عن واقعها بهذه الكلمات البليغة، وعن هذه المؤامرة الدولية على أمة الإسلام، وقد بيَّن بوضوح: أن السبب لا يكمن في قِلَّة عدد الأمة، وقد صدق، فالأمة اليوم مليار وثلث مليار من البشر أو تزيد، ولكنها كما وصفها: "غثاء كغثاء السيل"، والغثاء ما يحمله السيل من حطب وخشب وورق وقش وأعواد، وغير ذلك من أشياء كثيرة يجمع بينها:

1. أنها غير متجانسة، وغير منتظمة.

2. وأنها خفيفة سطحية لا ترسُب في الأعماق.

3. وأنها ليس لها هدف معلوم، ولا طريق مرسوم، الماء في النهر له هدف ومصب في النهاية يصبُّ فيه، وله مجرى محدَّد يسير فيه إلى غايته.

أما ماء السيل، فهو يصعد وينزل، ويذهب من اليمين إلى الشمال وبالعكس، وقد يحطِّم في طريقه ما يحطِّم، بخلاف النهر.

وهكذا الأمة في (المرحلة الغُثائية) من حياتها: لا تجانس بينها ولا انتظام، تغلب عليها السطحية لا التعمُّق، فقدت هدفها وغايتها التي خُلقت لها وفُضِّلت من أجلها، كما فقدت طريقها ومنهجها الذي يصل بها إلى أهدافها.

• ( 6 ) التحذير من الجبن والشح:

ومن الأخلاق التي حذَّر منها الإسلام، لمنافاتها لرُوح الجهاد، وحياة الأمة المجاهدة والفرد المجاهد: الجبن والشح.

وقد جاء في الحديث: "شرُّ ما في الرجل: شحٌّ هالع، وجبن خالع" [23[

والشحُّ الهالع: هو الذي يصحبه الهلع، وقد وصف القرآن الهلوع بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:20،21]، والأصل في الشحِّ أنه بخل مع حرص، فإذا كان هالعا كان من أشدِّ أنواع الشحِّ وأخبثها.

والجبن الخالع: الشديد كأنه يخلع فؤاد صاحبه من شدَّة خوفه. والمراد: ما يغمره من هواجس وأفكار، وإنما كان الجبن والشحُّ شرَّ ما في الرجل، لأن الدعوات لا تنتصر، والأمم لا تنهض، إلا بخلقين رئيسين: السخاء، الذي يهون معه بذل المال، والشجاعة، التي يهون معها بذل النفس، فإذا غلب الشحُّ فبخل الناس بالمال، وغلب الجبن، فضنَّ الناس بالأنفس، فلن تنتصر دعوة، ولن تنهض أمة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من الجبن والبخل: الجبن ضنًّا بالنفس، والبخل ضنًّا بالمال، وهما أساس الجهاد {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41[

ففي حديث أنس المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرَم والبخل" [24]، وروى البخاري من طريق عمرو بن ميمون الأودي قال: كان سعد - ابن أبي وقاص - يعلِّم بنيه هذه الكلمات، كما يعلِّم المعلِّم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ منهنَّ دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنه الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر" [25[

وكذلك صحَّ من حديث زيد بن أرقم: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل ..." الحديث [26].

وعن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والشحَّ، فإنما هلك مَن كان قبلكم بالشحِّ: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" [27[

• ( 7 ) التحذير من الميوعة والتخنث:

ومن الرذائل التي حذر منها الإسلام: الميوعة والطراوة والتخنث، وهي الرذائل التي إذا انتشرت في أمة، كانت كانتشار النار في الهشيم، وهي التي قال في مثلها شوقي:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا

يحرص الإسلام أن يحفظ على أبناء الأمة رجولتهم وخشونتهم، ولهذا حرَّم على الرجال التحلِّي بالذهب، ولبس الحرير الطبيعي الخالص أو الغالب [28]، كما نهى الرجل أن يلبس لِبسَة المرأة، والمرأة أن تلبس لِبسَة الرجل [29]، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال [30]، وحمل بشدَّة على المخنَّثين من الرجال، الذي ترى أحدهم لا هو رجل، ولا هو امرأة، وربما كان - في حقيقته لا في صورته - أقرب إلى المرأة.

وقد كان سيدنا عمر يقول: ... اخشوشنوا، واخلولقوا، وارموا الأغراض، وانزوا نزوا ... [31[

لا يريد الإسلام ذلك الرجل المترَف الناعم، الذي لا يتحمَّل الخشونة إذا فُرضت عليه في جهاد أو محنة من محن الحياة، والذي وصفه الشاعر بقوله:

خطرات النسيم تجرح خدَّيه ولمس الحرير يُدمي بنانه [32[!

يريد الإسلام شبابا صبورا على المكاره، قادرا على احتمال المشاقِّ. والآمالُ الكبيرة، والأهداف الجليلة، لا تتحقَّق إلا بمكابدة الجهد والمشقَّة، يقول أبو الطيب:

لا يبلـغ المجد إلا سيدٌ فَطِنٌ لما يشقُّ على السادات فعَّالُ

لولا المشقَّة ساد الناس كلهمُ الجود يفقر، والإقـدام قتَّالُ [33[

نريد شبابا مثل سيدنا موسى الذي خرج من مصر حتى وصل إلى مَدْين في الشام، ماشيا على قدميه، ثم أوى هناك إلى الظلِّ وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، فأشارت إلى صفتين مهمتين، هما أساس اختيار الرجال لجلائل الأعمال، وهما: القوة والأمانة.

وقالت ابنة الشيخ الكبير لأبيها مشيرة إليه: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26[

لا نريد شبابا كالذين وصفهم الشاعر محمود غنيم في قصيدته:

شباب العُرْب يا زين الشبابِ ويا أشبال آسـاد غـضـابِ

أرى منكم فريقا حين يمشـي يحك بأنفه متـن السـحـاب

كليث الغاب في صلف وكبـر وليس لدى الكريهة ليث غاب

تفنَّن في مـحـاكـاة العذارى وخالفهنَّ في وضع النـقـاب

ولا يخشى على شيء ويخشى إذا ثار الغبار على الثيـاب [34[!

بل أقول: إن المرأة المسلمة لها حظُّها في الجهاد، بما يتناسب مع خصائصها الأنثوية، وقد ذكرنا في فصل (دور المرأة في الجهاد) [35] ما على المرأة من الجهاد، وما قامت به المرأة المسلمة في عهد النبوة من المشاركة إلى جوار الرجل، حتى إن بعضهنَّ حمل السلاح وقاتلن في سبيل الله.

وقد قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195[

فبعد أن قرَّرت الآية هذا المعنى العظيم: أن الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل: {بَعْضُكُمْ مِن بَعْضٍ} بيَّنت: أن مَن بذل جهدا من الجنسين في سبيل الله فلن يضيع عند الله، وذكرت الإخراج من الديار، والإيذاء في سبيل الله، والقتال والقتل، فكلُّ هذا قد يقع من المرأة كما يقع من الرجل، وجزاؤه تكفير السيئات، ودخول الجنات، ثوابا من عند الله، والله عنده حسن الثواب.


: الأوسمة



التالي
فقد العالم الإسلامي أديباً كبيراً ومفكراً قديرا
السابق
العثمانيون وزعامة العالم الإسلامي زمن السلطان سليم الأول

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع