البحث

التفاصيل

إيجاب التكافل الاجتماعي

الرابط المختصر :

إن الإسلام يطالب كل قادر على العمل أن يعمل، وأن يعان على عمله، ليكفي نفسه وأسرته. ولكن في الناس العاجزون، الذين لا يستطيعون العمل، ولا مورد لهم. وفيهم القادرون، الذين لا يجدون عملا يتعيشون منه، ولم تستطع الدولة تيسير عمل مناسب لهم، وفيهم العاملون، الذين لا يكفيهم دخلهم لتحقيق معيشة إنسانية لائقة، لقلة الدخل، أو لكثرة العيال، أو لغلاء الأسعار، أو غير ذلك من الأسباب.

فما موقف نظام الإسلام من هؤلاء ؟ هل يدعهم لأنياب الفاقة والحاجة تفترسهم ؟ أو يقدم حلا لمشكلتهم ؟

الحق أن الإسلام لم يترك هؤلاء للفاقة والضياع، بل كفل لهم المعيشة الملائمة بالطرق الآتية:

نفقات الأقارب:

فقد أوجب الإسلام على القريب الموسر أن ينفق على قريبه المحتاج، صلة لرحمه، وأداءً لحقه، كما قال تعالى: ( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل). ومن لم يقم بهذا الواجب من نفسه لقريبه، ألزمه القضاء، الإسلامي بذلك. وللفقهاء تفصيل كثير في شروط الفقه، ومقاديرها، ولمن تجب وعلى من تجب، ويكن الرجوع إليها في أبواب النفقات من كتب الفقه.

فريضة الزكاة:

(أ) وهي الفريضة المالية الاجتماعية، التي تعد الركن الثالث من أركان الإسلام، ومبانيه العظام، من منعها بخلاً بها عزر، وأخذت منه قهراً، وإن كان ذا شوكة قوتل عليها، حتى يؤديها، وإن أنكر وجوبها- ولم يكن حديث عهد بالإسلام - حكم بردته، وخرج من دين الإسلام.

(ب) وهي ليست هبة يتفضل بها الغني على الفقير، بل هي حق معلوم، تقوم الدولة على جبايته، وصرفه على مستحقيه، بواسطة موظفي الزكاة.

-العاملين عليها- ولهذا وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) الزكاة بقوله: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم )، فهي ضريبة تؤخذ، وليست تطوعاً يوهب.

(ج) إنها تخالف كثيراً من الضرائب، التي تؤخذ من الكادحين المتعبين من العمال، وصغار التجار والموظفين، لتنفق في أبهة الحكام، وعلى أتباعهم والمروجين لهم، حتى يمكنك أن تقول فيها: إنها تؤخذ من الفقراء لترد على الأغنياء.

(د) والتعبير النبوي الكريم: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) يوحي بأن الزكاة ليست إلا صرف بعض أموال الأمة، ممثلة في أغنيائها، إلى الأمة نفسها، ممثلة في فقرائها. فهي من الأمة واليها، من اليد المستخلفة في المال، إلى اليد المحتاجة إليه، وهاتان اليدان - المعطية والآخذة - هما يدان لشخصية واحدة هي شخصية الأمة المسلمة.

(هـ) والزكاة تجب في كل مال نام أو معد للنماء، بلغ نصاباً، وحال عليه الحول، وسلم من الدين، وذلك في سائمة الأنعام والنقود، وعروض التجارة. وفى الزروع، والثمار، يجب الحق عند الحصاد، وفى المعدن والركاز عند وجدانه. ولم يجعل الإسلام نصابها كبيرا، ليشترك جمهور الأمة في أدائها، وجعل نسبها معتدلة من (5ر2%) في النقود والتجارة، إلى (5%) في الزرع المسقى بالآلات، إلى (0ا%) فيما سقى بغير آلة، إلى (0 2%) في الركاز ( المعادن ) وفيما يعثر عليه من الكنوز، فكلما كان جهد الإنسان أكبر كانت النسبة أخف.

موارد الدولة الأخرى:

وإذا لم تكف الزكاة جميع الفقراء، ففي جميع موارد الدولة الإسلامية متسع لكفايتهم، بأمين حاجاتهم من خمس الغنائم، ومن الفيء والخراج ونحوها. يقول الله تعالى: ( واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن الله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل). ويقول في الفيء: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ومن ذلك: ما تملك الدولة من النفط والمعادن والأراضي الزراعية والعقارات ونحوها، مما يندر عليها دخولاً وإيرادات ضخمة.

والدولة في الإسلام ليست مسؤولة عن الحماية والأمن فقط، بل هي مسؤولة كذلك عن رعاية العاجزين والمحتاجين، وكفالة العيش الكريم لهم. كما في الحديث الصحيح: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته .. فالإمام راع ومسؤول عن رعيته )...

وهكذا بيّن لنا (صلى الله عليه وسلم) بوصفه إمام المسلمين- أنه مسؤول عن الجميع، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك منهم مالاً فهو لورثته، ومن ترك ديناً أو ضيعة ( أولاداً صغاراً معرضين للضياع لفقرهم ويتمهم ) فإليه وعليه. ويقول عمر عن مال الدولة: ( ما من أحد إلا وله في هذا المال حق ). وقد فرض عمر من بيت المال راتباً ليهودي رآه يسأل على الأبواب. كما فرض لكل مولود في الإسلام عطاء يزداد كلما نما وكبر.

الحقوق الأخرى في المال:

وإذا لم تف الزكاة، ولا سائر الموارد الأخرى، بضمان العيش للفقراء، فعلى الموسرين في المجتمع أن يقوموا بكفايتهم، فليس بمؤمن من بات شبعان وجاره جائع، وليس بمؤمن من لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن قاموا بذلك مختارين، بدافع الإيمان والتقوى فهذا خير وأبقى، كما حدثنا النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الأشعريين فقال: ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عالهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم منى وأنا منهم ).

وإذا لم يقم الناس من تلقاء أنفسهم برعاية فقرائهم، فللإمام أن يفرض على الأغنياء ما يقوم بكفاية الفقراء، فقد روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم): ( إن في المال حقاً سوى الزكاة)، وفي القرآن ما يدل على ذل ، فقد قال تعالى: ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة). ففرقت الآية الكريمة بين إيتاء المال على حبه ذوى القربى … إلخ، وبين إيتاء الزكاة، وهذا يدل على أنهما حقان في المال. وإنما الزكاة هي الحق الدوري الثابت المحدد. أما الحقوق الأخرى فهي حقوق طارئة، تفرضها الحاجة والمصلحة، وليس لها مقدار معين، ولا وقت محدود. وإذا لم يقم الناس بأداء الحقوق اختياراً، أجبروا ملها إجباراً، وقد قال عثمان رضي الله عنه: ( إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

الصدقات المستحبة :

ولا يقتصر الإسلام في تقرر التكافل على القوانين الملزمة، ولا الحقوق الواجبة، بل يربي المسلم على البذل وان لم يطلب منه، والإنفاق وإن لم يجب عليه، ويهون عليه المال والدنيا، ويحذر من الشح والبخل، ويحبب إليه النفقة في السراء والضراء، بالليل والنهار، سراً وعلانية، ومعده بالخلف والفضل في الدنيا، والمثوبة عند الله في الآخرة: ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ). (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين ). ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).

الوقف الخيري والصدقة الجارية:

ومن أعظم ما رغب فيه الإسلام: الصدقة الجارية ( أي الدائمة بعد موت المتصدق)، كما يتضح ذلك في نظام الوقف الخيري، وهو الذي يخرج فيه المال من ملك الأفراد، لتجس ثمراته ومنافعه على جهة من جهات الخير، ابتغاء مثوبة الله تعالى. وقد أشار الرسول (صلى الله عليه وسلم) على عمر بوقف ماله بخيبر، ولم يكن أحد من الصحابة ذا مقدرة إلا وقف. والذي يقرأ بعض ما أبقاه لنا التاريخ من حجج الوقف، وشروط الواقف، يتبين حقيقة الكافل في المجتمع المسلم، ويقف على أصالة عواطف الخير، ومشاعر الرحمة والبر، وشيوع المعاني الإنسانية الكريمة في أعماق هذه الأمة، حتى إن برها لم يقتصر على دائرة الإنسان، بل تجاوزه إلى الحيوانات.

التكافل بين الأجيال

وهناك لون من التكافل لم يلتفت إليه الباحثون، وقد نبهنا عليه في عدد من كتبنا، وهو: التكافل بين أجيال الأمة بعضها وبعض، وهو يكمل التكافل بين أقطار الأمة بعضها وبعض، فهو تكافل زماني، بجوار التكافل المكاني. ومعنى تكافل الأجيال: ألا يستأثر جيل بخيرات الأرض المذخورة والمنشورة، ويحلب درها، حتى لا يترك في ضرعها قطرة لمن بعده. بل يجب على الجيل الحاضر أن يحسب حساب الجيل المقبل، وأن يصنع صنيع الأب الرحيم البصير، الذي يحرص على أن يدع ذريته في حال اكتفاء واستغناء، وأن يقتصد في إنفاقه واستهلاكه، حتى يترك لهم شيئا ينفعهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ). وقد جاء عن أبى بكر رضى الله عنه: ( لا يعجبني الرجل يأكل رزق أيام في يوم واحد)! ومثل ذلك يقال للمجتمع الذي يأكل رزق أجيال في جيل واحد.

وهذا ما جعل الفاروق عمر بن الخطاب يأبى تقسيم سواد العراق على الفاتحين، وهو ثروة هائلة يستمتع بها جيل الفتح، ولا تجد الأجيال القادمة الدافعة عن حرمات الأمة، وبيضة الملّه، ما يصرفون عنه، لإعداد عدتهم، وقضاء حوائجهم. ولهذا كان عمر يقول لمعارضيه: ( أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شئ ) ؟.ا وكان على رأيه من فقهاء الصحابة أمثال على ومعاذ رضي الله عنهم. وقال معلناً عن وجهته ووجهة من أيّده: (إني أريد أمراً يسع أول الناس وآخرهم ). وجد في آيات سورة الحشر ما أيد توجهه، حيث جعلت توزيع الفيء على الجيل الحاضر من المهاجرين والأنصار، ثم أشركت معهم الجيل القادم، وذلك في قوله تعالى: ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) . وبهذا تتضامن الأجيال وتتواصل، ويدعو اللاحق للسابق، بدل ـن يلعن آخر الأمة أولها، حين يقول: أخذوا كل شئ ولم يبقوا لنا شيئاً. وهذا ما أخشى أن تقوله الأجيال الآتية في بلاد النفط، حيث استهلكوه في الزينة والمتاع والتوسع في الاستهلاك، وأسرفوا في استخراجه، حتى كثر في سوق العرض، فباعوه بأرخص الأسعار. ولو نظروا إلى حق الأجيال المستقبلة لاقتصدوا وعفوا. واعتدلوا ولم يسرفوا، فإن الله لا يحب المسرفين.


: الأوسمة



التالي
كتاب : فقه الجهاد ..الحلقة [ 53 ] : الباب الخامس : منزلة الجهاد ،وخطر القعود عنه، وإعداد الأمة له الفصل السادس : توفير الموارد المالية اللازمة للجهاد
السابق
إدارة النعيم ومسؤولياته

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع