البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهادالحلقة [ 50 ] : الباب الخامس : منزلة الجهاد ،وخطر القعود عنه، وإعداد الأمة له

الرابط المختصر :

 الفصل الخامس : إعداد الأمة للجهاد (1 من 3) • امتلاك أسباب القوة : بيَّنا في الفصول السابقة أن الأمة المسلمة - كما يوجِّهها كتاب ربها وسنة نبيها - أمة سلام لمَن يسالمها، وأن السلام هدف من أهداف الحياة الإسلامية، والرسالة الإسلامية، ولكن هذا لا يعني: أن تموت فكرة الجهاد لدى الأمة، وأن يسيطر عليها الوَهْن الذي يجعل الأمة فريسة لأعدائها، فتتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأَكَلَة إلى قصعتها. والوَهْن يعني: حبَّ الدنيا وكراهية الموت. كما أن انتشار فكرة السلام لا يعني: أن تُجرَّد الأمة من أسباب القوة التي تُكسبها الحصانة من أطماع خصومها، وتجعلها مرهوبة من أعدائها، وتمنحها القدرة على تبليغ رسالتها، وتأمين الحرية لدعوتها. ومن هنا كان الإسلام - رغم رغبته في السلام، ودعوته إلى السلام - يحرص كل الحرص على أن تظلَّ الأمة أمة جهاد، تمتلك أسباب القوة ماديا ومعنويا، لكي تحمي بها وجودها البشري والرسالي، وتمنع أي طامع فيها من العدوان عليها. ومن أجل هذا كان واجبا على الأمة أن تقوم بالإعداد اللازم لامتلاك القوة في كلِّ جوانبها. القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة البشرية: المادية والفكرية والإيمانية والأخلاقية. وإعداد الأمة للجهاد الواجب، حتى تكون على أتمِّ الاستعداد لتلبية النداء، عندما يدعو الداعي: أن حيَّ على الجهاد. • ( 1 ) الإعداد العسكري: وأول هذا الإعداد: ما يُعرف بـ(الإعداد العسكري) وهو أول ما يتبادر إلى الذهن من كلمه (إعداد) والإعداد العسكري يتطلَّب أمرين: أ - إعداد المعدات والأسلحة: الأول: إعداد الأجهزة والمعدَّات والآليَّات العسكرية، وهو ما أمر به القرآن الأمة أمرا صريحا في قول الله تعالي: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60[ وهذا الأمر يشمل إعداد كلِّ وسائل القوة العسكرية اللازمة لتحقيق الانتصار على العدو. ومنها: رباط الخيل، والمراد برباط الخيل: ربط خيول المجاهدين علي الثغور ومنافذ البلاد التي يمكن أن يتسلَّل منها الأعداء. وقد جاء عدد من الأحاديث الصحيحة تنوِّه بما في إعداد الخيل للجهاد من أجر ومثوبة عند الله. وأقول هنا: إن النصَّ على الخيل - باعتبارها وسيلة من وسائل القوة في العصور الماضية - لا يلزمنا بأن نقف عند هذه الوسيلة، فلكلِّ عصر خيله وفرسانه. ولهذا أَعتبر أن خيل عصرنا هي: الدبابات والمصفحات والمجنزرات وغيرها من الآليَّات المقاتلة في البرِّ. بل يشمل هذا المعدات البحرية من السفن والبوارج الحربية والغواصات وغيرها، وهي من أهم آليات الحرب في عصرنا. بل يشمل ذلك: الوسائل الجوية من الطائرات والأقمار الصناعية والصواريخ وغيرها. وقد أصبحت هذه المعدات أهم الوسائل وأعظمها خطرا في عصرنا، وتطوَّرت إلى ما سمَّوه (حرب النجوم( وكما تطوَّرت المعدات والمركبات الحربية برًّا وبحرا وجوًّا، وتطوَّرت الأسلحة المستعملة في القتال كذلك. فقد كانوا قديما يستخدمون السيوف في ضرب الرقاب عند المواجهة والتقاء الصفين أو المقاتلين وجها لوجه، كما تستخدم الرماح والحراب في الطعن على مسافة قريبة، والقِسِيُّ في الرمي من بعيد بالسهام والنبال، كما عرَف الأقدمون استخدام (المنجنيق) في رمي المحاصرين بالقذائف والحجارة ونحوها. وعرَف الناس قديما أدوات الوقاية أو الحماية من ضربات العدو، مثل الدروع والتروس والمغافر للأفراد، والقلاع والحصون والسراديب للجماعات. ومثل ذلك حفر الخنادق والأسوار لحماية المدن. هذه الأسلحة القديمة تطوَّرت تطوُّرا هائلا، فلم يعُد المحاربون يستعملون السيوف - أو ما يسمُّونه السلاح الأبيض - إلا في مواقع محدودة، وظروف خاصة. أصبح المقاتلون يستخدمون البنادق الآلية والمدافع الرشاشة المتنوعة، والقذائف أو القنابل، وهي أنواع وأوزان، والصواريخ، وهي أصناف وألوان، أيضا. منها: أرض أرض، وأرض جو، وجو أرض، وجو جو، ومنها: الصواريخ عابرة القارات، والصواريخ المضادَّة للطائرات وللدبابات وللصواريخ، والصواريخ بعيدة المدى، والمتوسطة المدى، والقصيرة المدى ... إلى آخره. وهناك الأسلحة النووية التي استخدمتها أمريكا في نهاية الحرب العالمية الثانية ضد اليابان في (هيروشيما وناجازاكي( • حكم استخدام الأسلحة النووية : وهذه الأسلحة تحتاج إلى بحث شرعي في حكم استخدامها: هل يجوز أو لا؟ ورأيي المبدئي: أنه لا يجوز استخدام هذه الأسلحة التي يمكن أن تقتل الملايين من البشر دفعة واحدة، وتصيب ملايين آخرين بأضرار لا تُدرى عواقبها على مدى عشرات السنين. وقد حرَّم الإسلام قتل مَن لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ الهرمين، والرهبان والفلاحين وأمثالهم، أي قتل الآحاد من هؤلاء، فكيف يجيز قتل الألوف والملايين برمية واحدة؟!! ومع هذا أرى أن أمة الإسلام يجب أن تمتلك هذه الأسلحة غير المشروعة، لتكون سلاح ردع وتخويف لأعدائها، وفرق بين استخدام هذه الأسلحة وامتلاكها، فإن امتلاكها ضروري لأمة معرَّضة للعدوان من القوى التي تعادي المسلمين، وقد أثبتت الوقائع أن امتلاك مثل هذه الأسلحة هو ضمان للسلم. وهذا ما رأيناه واقعا بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، فلم تقُم بينهما حرب رغم الاختلاف الأيديولوجي، ورغم اختلاف المصالح والأهداف؛ لأن استخدام الأسلحة النووية إنما هو دمار للطرفين. وهذا ما رأيناه أخيرا بين الهند وباكستان، رغم اشتداد التوتُّر في العَلاقات بينهما، إلى حدِّ التراشق وسقوط بعض القتلى من الجانبين، ولكن لأن كلاًّ منهما يملك السلاح النووي، جعل كليهما يحسب حساب النتائج أو العواقب، إذا قامت الحرب النووية بين الطرفين. والذي نقرِّره هنا من أحكام الشرع: أن الأمة الإسلامية يجب عليها وجوبا قطعيا أن تعِدَّ ما استطاعت من قوة لأعدائها. وكلمة (ما استطاعت) تعني: أن تبذل كلَّ ما في وُسعها وما تحتمله طاقاتها البشرية والمادية، من صناعة المعدات والأجهزة والأسلحة، وكل ما يتطلَّبه الجانب العسكري، من أدوات الهجوم، ووسائل الوقاية، بحيث تتفوَّق على الأعداء، أو على الأقل نملك مثل ما يملكون، ولا يجوز أن نكون أدنى منهم، حتى لا نتعرَّض للخطر. الأمة كلُّها مخاطبة بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، وإن كان الذي ينفذ هذا الأمر هم أولو الأمر فيها، وهذا هو الذي يعبِّر عنه الفقهاء بـ(فرض الكفاية)، فمعنى فرض الكفاية: مسؤولية الأمة كلِّها، وأن البعض هو الذي عليه التنفيذ، وأنه إذا قام البعض بالفرض سقط الإثم عن باقي الأمة، وإلا أثِمت الأمة كلُّها، لأن الأصل: أن الخطاب لها مجتمعة. فرض كفاية على الأمة: أن تكون لديها أسلحة متطورة توازي ما لدى الآخرين من أسلحة، إن لم تفقها. وأن تكون هذه الأسلحة من صنع يدها، ولا تعتمد على مجرَّد شرائها من الآخرين، فإن هذا يجعلها تحت رحمتهم، وقد لا يتيسَّر هذا في كلِّ وقت، وكثيرًا ما يضنُّون علينا ببيع المتطوِّر والأحدث من الأسلحة، ولا يبيعوننا إلا القديم الذي ضعف أثره، وباتوا يستغنون عنه، ولا يخشون خطره عليهم إذا كان في أيدينا. وهذا يوجب على الأمة أن تهيِّئ كلَّ ما يلزم لذلك من وسائل علمية وتكنولوجية وتفوُّق في العلوم الطبيعية والهندسية والرياضية، وأن تنشئ من الجامعات العلمية والتقنية، ومراكز البحوث، وتجنِّد الطاقات، وتوفِّر المال، وتهيِّئ المناخ الملائم، لكلِّ ما يلزم من صروح علمية وبحثية ضرورية لإنشاء القوة العسكرية المطلوبة. وقد يلزم لذلك: أن نحيط هذا الأمر بالسرية، حتى لا تتسرَّب أخباره إلى الأعداء فيضربوه قبل أن يقوم، ففي الحديث: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" [1[ كلُّ هذا يعتبر من فروض الكفاية على الأمة عامة وعلى أولي الأمر منها خاصة، وفقا للقاعدة الشرعية التي تقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد جاء في الحديث: "إن الله يثيب في السهم الواحد ثلاثة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، ومنبله - الذي يضعه في القوس أو النبلة ونحوها - والرامي به" [2[ وقد ذكر لنا القرآن قصة داود عليه السلام، وامتنَّ عليه بأنه تعالى علَّمه صنعه الدروع في الحرب، وألان له الحديد، بالنار والطَّرق وغيرها وِفق السنن، وليس بمعجزة كما يقول البعض، يقول تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80]. وقال في سورة أخرى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سـبأ:10،11[ وروى البخاري في صحيحه، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" [3]. أي وهو ملك ذو سلطان، ومع هذا كان يأكل من صنعه الدروع السابغات. وفي هذا حثٌّ وإغراء للمؤمنين أن يقتدوا بداود عليه السلام في إتقان صنعة من الصناعات الحربية التي تحتاج إليها الأمة. وإنما تنتصر الأمة إذا استقلَّت بصناعة السلاح بأنواعه المختلفة، وأتقنتها وتفوَّقت فيها. وهذا يتمُّ بالإعداد والتخطيط والتعاون بين بلاد الإسلام بعضها وبعض، فلم تعُد الدولة القُطرية وحدها قادرة على صنع السلاح المتطوِّر المتفوِّق، فقد رأينا الدول الصناعية الكبيرة يتعاون بعضها مع بعض في صنع طائرة متميِّزة أو نحو ذلك. والشرع يوجب على المسلمين - وجوبا دينيا لا مرية فيه - أن يتَّحدوا في هذا الأمر ولا يختلفوا، وأن يجتمعوا ولا يتفرَّقوا، وأن يتعاونوا ولا يتنازعوا، كما قال تعالي في توجيه المؤمنين إذا لقوا العدو: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46[ فليت الأمة الإسلامية الكبرى اليوم تعي هذا الواجب الديني القومي العملي، وتجمِّع صفوفها، وتوحِّد كلمتها، حتى تستطيع حماية أرضها وعِرضها ومقدساتها، ولا تغدو نهبا للطامعين! • عدم الغفلة عن السلاح: ومما يدخل في باب الإعداد العسكري للعدوِّ: عدم الغفلة عن السلاح، ولا يكفي أن تمتلك الأسلحة ثم لا تستعملها عند اللزوم، فكثيرا ما يؤدِّي الاسترخاء وقلَّة الحرص، إلى أن يُلقي المقاتل سلاحه، ويحسب أنه في أمان كامل، فينتهز العدو المتربِّص هذه الفرصة، فيدخل منها ليوقع بالمسلمين، ويضربهم في غفلة منهم، وقد يفضي ذلك إلى التمكُّن من المسلمين، وإنزال الهزيمة بهم. ومن روائع القرآن: ما نبَّه عليه المسلمين، وهم يؤدُّون صلاتهم في أثناء الحرب، وراء إمامهم الواحد، فالصلاة فريضة مقدَّسة، وعبادة ركنية، لا تُهمَل في سلم ولا حرب، بل هي عُدَّة رُوحية للمحارب، كما قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، ومن ذلك: الأمر بالصلاة في جماعة وراء إمام واحد في حالة الحرب: عناية بمبدأ الوحدة في القيادة، ولو في هذه الحالة الاستثنائية، كما أمرهم بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم، وهم في داخل الصلاة، واقفين بين يدي الله، يقول تعالي: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:102[ فانظر إلى هذا التكرار والتأكيد وشدة التنبيه: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}، {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}، ثم انظر إلى هذه الجملة العظيمة المعلَّلة لهذا التأكيد: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}. ولقد رخَّص في وضع الأسلحة في حالة العذر: من مطر أو مرض، ومع هذا اتبع هذا الترخيص بهذه الوصية أو هذا الأمر الجازم: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}. وقد حدث للمسلمين في عصر النبوة شيء من ذلك في غزوه أحد، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة أن يحموا ظهرهم من جهة الجبل، وألا يَدَعوا أماكنهم لأي سبب من الأسباب، ولكنهم نسوا هذا الأمر النبوي الصريح، وتأوَّلوا لأنفسهم أن ينزلوا إلى الساحة لينالوا حظَّهم من الغنيمة، إذ لاح لهم أن المسلمين قد كسبوا الجولة الأولى في المعركة، فتركوا أماكنهم - مخالفين أمر الرسول وأمر قائدهم الخاص - وانكشف بذلك ظهر المسلمين، ولم يضيع هذه الفرصة قائد جيش المشركين خالد بن الوليد - وكان لا يزال على الشرك - فانقضَّ عليهم من الخلف، وأعمل فيهم السيوف، وارتبك المسلمون، وخصوصا بعد إشاعة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتغيَّر اتجاه الريح لصالح أهل الشرك، وقتل من المسلمين سبعون من الأبطال الميامين، نتيجة هذه الثغرة التي أتاحها الرماة المسلمون لأعدائهم من حيث لا يحتسبون. ونزل في ذلك القرآن: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ[4] بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152[ كما قال تعالي: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165[ • حماية السلاح من العدو : ومن هذا الباب: أخذ الحذر بالتحصين من الأعداء، بحماية السلاح من العدو، فإن من أشدِّ الأخطار في الحرب الحديثة: أن يكتشف العدو مخازن الأسلحة، وقواعد الصواريخ، فيضربها ويدمِّرها، ويترك الأمة عارية أمام أعدائها، أو يباغتها بضرب سلاحها، وهي غافلة، كما فعل العدو الصهيوني في حرب 1967م حين ضرب المطارات المصرية، وما فيها من طائرات في هجمات مفاجئة متتالية، فشلَّت يد القوَّات المسلحة المصرية، وأفقدتها القدرة على الحركة بعد أن ضُرب طيرانها ومطاراتها، وأصبحت الجيوش المصرية في سيناء مكشوفة لا يغطيها الطيران، ولا تسندهم قوة تحمي ظهورهم. ب - إعداد المقاتلين: وإذا كان العنصر الأول في (الإعداد العسكري) للأمة، هو: إعداد الأجهزة والمعدَّات من كلِّ نوع، فإن العنصر الثاني في الإعداد، هو: إعداد العنصر البشري المدرَّب على القتال، فمن المعروف أن الأسلحة - وإن بلغت من التطوُّر والإتقان ما بلغت - لا تقاتل وحدها، إنما يعمل السلاح بيد الجندي الذي يحمله ويستعمله. وقديما قال الطُّغرَائِي في لاميته: وعادة السيف أن يزهى بجوهره وليس يعمل إلا في يدي بطل ‍ وقال أبو الطيب المتنبي: وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا إذا لم يكن فوق الكرام كرام فالخيل من غير (خيَّال) والفرس من غير فارس: لا تُجدي. ولهذا أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أبناء الأمة أن يدرِّبوا أنفسهم على استخدام الأسلحة، حتى يكتسبوا المهارة في استعمالها، وإلا فقدت الأسلحة قيمتها. روى الإمام مسلم في صحيحه، عن عُقبة بن عامر أن النبي صلي الله عليه وسلم فسَّر القوة في قوله تعالي: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، فقال: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" [5[ وموجب هذا: أن قوة السلاح الحقيقية إنما تتجلَّى في حسن استعماله، لهذا لم يقُل: إن القوة هي: السيف أو الرمح أو القوس، بل قال: "الرمي". فاعتبر الفعل البشري هو القوة الحقيقية. ولم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بتعلُّم الرمي والتدريب عليه، واكتساب المهارة فيه، فكثيرا ما يتعلَّم المرء الشيء، ثم يُشغل عنه ويتركه ويُهمله، فينساه ويفقد المهارة التي اكتسبها بالتدريب، ولهذا كان من المهمِّ: الاستمرار في التدريب حتى لا ينسى. ولهذا نرى بعض الأمم تستدعي جنود الاحتياط بين فترة وأخرى - حسب الحاجة - في دورة تستغرق أياما أو أكثر، وفي هذه الدورة يكسبون فائدتين: الأولى: تعلُّم الجديد من فنون الحرب، مما لم يكونوا قد تعلَّموه، ولا سيما أن العالم الآن يتغيَّر بسرعة، والقدرات العسكرية تتطوَّر بما لا يخطر على بال، فلا بد أن يكونوا على وعي بما يحدث في العالم من حولهم. والفائدة الثانية: ألا ينسوا ما تعلَّموه قديما، فهي مراجعة عملية للمكتسبات القديمة. وقديما قال علماؤنا: حياة العلم مذاكرته. والمذاكرة قد تكون بالمدارسة، وقد تكون بالممارسة. ولا غرو أن وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من (نسيان الرمي) بعد أن تعلَّمه المسلم، وتعب في تحصيله. قال عليه الصلاة والسلام: "مَن تعلَّم الرمي ثم تركه، فليس منا، أو فقد عصى" [6[ "مَن تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة كفرها" [7[ ومن المهم في عصرنا: أن يكون المقاتل متعلِّما، حتى يستطيع أن يتعامل بسرعة ولياقة مع الآلات والمعدَّات الحديثة والمتطوِّرة، فإن الجندي الأُمي يصعُب عليه استيعاب (التقنيات) الدقيقة والمعقَّدة في بعض الأحيان، بل إن كثيرا من المعدات الآن تدار إلكترونيا. وهذا من فروض الكفاية على الأمة: أن تمحو أميَّة أبنائها. بل أرى أن محو الأمية اليوم أصبح فريضة عينية على كلِّ مسلم، ما لم يكن له عذر يمنعه، وعلى المجتمع أن يساعده على ذلك، كما على الدولة أن تعينه على التعلُّم، وتتَّخذ من الوسائل ما يحقِّق هذا الهدف النبيل. • ( 2 ) الإعداد الاقتصادي للجهاد: ومن الإعداد المطلوب للجهاد: الإعداد الاقتصادي. وهذا يتطلَّب جملة أمور أساسية، منها: ‌أ - تهيئة الأمة لتغطية كل مجالات الإنتاج وبخاصة ما تحتاج إليه الحرب : فيجب على الأمة أن تعتني بجميع مجالات الإنتاج ، لا أن تكتفي بشأن منها ، وخصوصا ما يحتاج إليه الجهاد والحرب ، وما يشق استيراده ، وألا تكتفي بالزراعة وحدها، مُغفلَة الجوانب الأخرى التي تتطلَّبها الأمة القوية، مثل الصناعات المختلفة، وفي مقدمتها صناعه الحديد، التي أشار القرآن إلى أهميته في الحياة العسكرية، والحياة المدنية، حين قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]، فقوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، إشارة إلى الصناعات الحربية، وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، إشارة إلى الصناعات المدنية، والأمة القوية تحتاج إلى كلتيهما. وقد حذرنا الحديث الشريف من الرضا بالزرع والاكتفاء به، في حديث ابن عمر مرفوعا: "إذا تبايعتم بالعِينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله: سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"[8[ ومن هنا يجب أن يشترك في التخطيط الاقتصادي خبراء عسكريون، يشيرون على الاقتصاديين والماليين بما توجبه الأهداف والضرورات التالية والخطط العسكرية من متطلَّبات، حتى تراعَى في الإنتاج، ولا تفاجأ الأمة عند المعركة بفقدان هذه الضروريات، التي قد لا تتوافر إلا عند خصومها، ولن يمكِّنوها منها بالقطع. ‌ب - ترشيد الاستهلاك والإنفاق : ترشيد الاستهلاك والإنفاق الأهلي والحكومي ، بحيث يتلاءم مع اقتصاد الجهاد أو اقتصاد الحرب ، وبحيث تقدم الضروريات على الحاجيات ، والحاجيات على التحسينات ، أو ما يسمونه (الكماليات) وبحيث تمنع المحرمات تماما ، مثل المسكرات والمخدرات ، ويمتنع الناس عن الإسراف في المباحات ، من المأكل والمشرب والملبس والزينة ، وسائر ما يتمتع به الإنسان . والاستمتاع بالمباحات في الإسلام مقيد بعدم الإسراف ، كما قال تعالى : " وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " [الأعراف : 31] ، بل المطلوب في الإسلام هو التوسط والاعتدال ، كما قال تعالى : " وَلَا تَجْعَل يَدك مَغْلُولَة إِلَى عُنُقك وَلَا تَبْسُطهَا كُلّ الْبَسْط فَتَقْعُد مَلُومًا مَحْسُورًا " [الإسراء : 29] ، وكما مدح الله عباد الرحمن بقوله : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً " [الفرقان : 67] ، وخصوصا في أيام الأزمات ، التي تنزل بالناس ، كما في أيام الحروب ، وأيام الكوارث ، والقحط ونحوها . وقد ضرب القرآن مثلا لذلك عن الاستهلاك والإنفاق أيام سنوات الجدب السبع في عهد سيدنا يوسف ، بل في سنوات الخصب السابقة عليها ، حيث وضعت المنتجات كلها ، تحت المراقبة ، من حيث التخزين ، وتقليل الاستهلاك ، كما يشير إليه قوله تعالى : " فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ " [يوسف : 47] ، وكذلك يحددون الاستهلاك في سنوات الجدب ، ولذا قال : " يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ " [يوسف : 48] ، فهم الذين يقدمون لها ، ويتحكمون في استهلاكها ، ولا تترك الأمور تجري بغير قيود وتنظيمات . إن زيادة الإنتاج لا تنجح وحدها ، ما لم يكملها ويضبطها سياسة استهلاك وإنفاق رشيدة ، وإلا فإن ما يوفره المرشِّدون من أهل الإنتاج يمكن أن يضيعه السفهاء من أهل الإنفاق ، ولهذا حذر الله من تمكن السفهاء من الأموال ليتصرفوا بحماقة بلا حكمة ، وبسفه بلا رشد ، فقال الله تعالى : "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا " [النساء :5[ في أيام الحروب تشدُّ الأمم الأحزمة على بطونها ، ويحرمون أنفسهم من بعض ما كانوا يتمتعون به ، وإذا كانوا جنودهم يبذلون الدم رخيصا ، فلا أقل من أن يضحوا ببعض متعهم التي اعتادوها في أيام السلم والرخاء . ج - توفير التمويل اللازم للإنفاق على الجهاد ومتطلَّباته توفير المال اللازم للإنفاق على الجهاد ومتطلَّباته ، ولهذا فرض الإسلام الجهاد بالمال إلى جوار الجهاد بالنفس، بل إنه يقدِّم الجهاد بالمال عادة على الجهاد بالنفس، إذ لا يمكن الجهاد إلا بمال، فبالمال يُصنع السلاح ويُشترى . وبالمال نعِدُّ الخيل قديما ونعِدُّ اليوم الدبابات والمجنزرات والسفن والغواصات والطائرات والصواريخ والأسلحة النووية – إذا ملكها عدو وهددنا بها - وغيرها. وبالمال يُنفق على الجيوش والقوَّات المسلحة، وعلى أهلهم وذويهم. وبالمال نؤمِّن الجبهة الداخلية. وبالمال تؤلِّف الدولة المسلمة قلوب مَن يمكن تأليفه من الأعداء ممَّن يستطيعون استمالته إليهم. وسنعود للحديث عن توفير الموارد المالية للجهاد في فصل مستقل[9[ د – التوزيع العادل لثروة البلاد : توزيع الثروة توزيعا عادلا، بحيث يأخذ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فيعطى الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه، ويُعطَى العامل على قدر جهده وإتقانه، ويعطى المحتاج على قدر حاجته، حتى تتمَّ له كفايته من المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وكل ما لا بد له منه هو ومَن يعوله على ما يليق بحاله من غير إسراف ولا تقتير. وعدالة التوزيع، وتحقيق التكافل المعيشي بين أبناء المجتمع، وشعورهم بأنهم في مجتمع يصون حقوقهم، ويرعى حرماتهم، ويكفيهم حاجاتهم، ويؤمِّن ذراريهم من بعدهم: تجعل أبناء المجتمع لا يضنُّون بأرواحهم من أجل الجهاد في سبيل الله، بخلاف ما إذا كانوا يشعرون بالتظالم الاجتماعي، وأنهم يُنسَون عند المغنم، ويُذكَرون عند المغرم! ولا ينالهم من ثروة وطنهم إلا الفتات، وانهم يزرعون ليحصد غيرهم، ويغرسون ليجني القاعدون ثمرة ما غرست أيديهم: فهؤلاء لا يتحمَّسون للجهاد، ويقولون كما يقول العامة في المثل: نحن في همِّ هؤلاء مدعوون، وفي فرحهم منسيون. أو كما قال الشاعر قديما: وإذا تكون كريهة أُدعَى لها وإذا يُحاس الحَيسُ يُدعَى جندب![10[ ولا يجوز للحكام والولاة أن يستأثروا بالمال العام، أو يكون لهم منه نصيب الأسد، هم وأقاربهم ومحاسبيهم، مهملين أهل الاستحقاق والحاجة، فهم أحقُّ منهم وأولى. روى البخاري في كتاب الجهاد، كيف قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم (أهل الصُّفَّة) على طلب ابنته وقرَّة عينه وأحب الناس إليه: فاطمة الزهراء. حين سألته - رضي الله عنها - وشكت إليه الطحن والرحى: أن يُخدِمها (يعطيها خادما) من السبي، فوكلها إلى الله. كما روى كيف قدم عمر بن الخطاب أم سَلِيط من الأنصار على زوجه أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم، مع ما لها من وشائج القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم [11[ روى البخاري في كتاب (فرض الخمس)، من طريق ابن أبي ليلى قال: أخبرنا علي رضي الله عنه: أن فاطمة عليها السلام، اشتكت ما تلقى من الرَّحى مما تطحنه، فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بسبي، فأتته تسأله خادما فلم توافقه، فذكرت لعائشة رضي الله عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم، فقال: "على مكانكما". حتى وجدتُ برد قدمه على صدري، فقال: "ألا أدلُّكما على خير مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتما" [12[ فدلَّهما على ذكر الله تعالى والاستعانة به سبحانه، فربما كانت القوة الرُّوحية عوضا عن المطالب المادية. روى البخاري هذا الحديث في باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله والمساكين، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصفة والأرامل، حين سألته فاطمة - وشكت إليه الطحن والرَّحى - أن يُخدِمها من السبي، فوكلها إلى الله. وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طُرُق الحديث كعادته، وهو ما أخرجه أحمد من وجه آخر عن علي في هذه القصة مطولا، وفيه: "والله لا أعطيكم، وأدع أهل الصفة، تُطوَى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم" [13[ وروى أبو داود عن أم الحكم بنت الزبير، قالت: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فذهبت أنا وأختي فاطمة نسأله، فقال: سبقكنَّ يتامى بدر ..." [14] انتهى.


: الأوسمة



التالي
رئيس الاتحاد يلتقي بأعضاء فرع الاتحاد بقطر
السابق
الاتحاد ينعي فضيلة الدكتور محمد شلبي كبير أمناء الفتوى السابق بدار الإفتاء المصرية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع