خُـلـق الوفاء
أ. د. أحمد الريسوني
صفات مندمجة معه:
1– الأمانة .
2– حفظ الذمم والعهود .
3– الصدق .
4– الإخلاص .
5– شكر المنعم .
6– الإحسان .
صفات متنافية معه:
1– الغدر .
2– الـنَّكْث .
3– الخيانة .
4– الجحود .
5– الغش .
6– التطفيف .
الشرح:
الوفاء لغة وشرعًا:
لفظ الوفاء: مصدرُ فعلِ وَفَـى يفي، بمعنى أدى ما التزم به وما ثبت بذمته بلا نقض ولا تنصل. وهذا هو المعنى الخاص للوفاء. يقال “وَفَـى بعهده يفي وفاءً، وأوفـى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه“[1].
وخُلق الوفاء بهذا المعنى يقابله ويضاده خلق الغدر. قال صاحب الجمهرة: الوفاء ضد الغدر[2]. وقال: الغدر ضد الوفاء[3]. وهذا ما نص عليه غيره من أهل اللغة[4].
ويوضح الراغب الأصفهاني مزيدا من الترابط والتلازم بين الوفاء وغيره من الأخلاق الموافقة أو المنافية، بقوله: “الوفاء أخو الصدق والعدل. والغدرُ أخو الكذب والجور؛ وذلك أن الوفاء صدق اللسان والفعل معاً، والغدر كذب بهما معاً، لأن فيه مع الكذب نقض العهد[5].
ويُستعمل الوفاء بمعنى موسع، للدلالة على سمو الخلق وكرمه ورفعته. قال في اللسان: “معنى الوفاء في اللغة: الـخُلُق الشريف العالي الرفيع“[6]. وإلى قريب من هذا المعنى ذهب الشريف الجرجاني في قوله: “الوفاء: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظةُ عهود الخلطاء.[7]”
ومن لفظ الوفاء ومعناه تفرعت عدة اشتقاقات تؤكد معنى الوفاء وتوضحه وتوسعه؛ منها الفعل الرباعي، بالهمزة (أَوْفَـى)، وبالتضعيف (وفَّـى). وقد ورد استعمالهما كثيرًا في القرآن الكريم، كما سيأتي في الآيات بعد. وهما يفيدان المبالغة في الوفاء والدرجةَ العالية منه، كما في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم — 37]. قال الراغب: “فتوْفِـيـتُـه (أي إبراهيم) أنه بذل المجهود في جميع ما طولب به… من بذل ماله بالإنفاق في طاعته، وبذل ولده الذي هو أعز من نفسه للقربان…
ثم قال: وتوفيةُ الشيء: بذلُـه وافياً، واستيفاؤُه: تناوُلُه وافياً.[8]”
أما المعاني الشرعية والاصطلاحية للوفاء، فهي متضمنة للمعاني اللغوية ومبنية عليها، لكن مع التوسيع أو التضييق لها حسب كل استعمال.
وأول وفاء وأصل كل وفاء — في الشرع — هو وفاء العباد لربهم وخالقهم، وفاؤهم للميثاق الذي واثقهم به، وذلك بالبقاء على توحيده وعبادته وعدم الإشراك أو الكفر به.
وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ. قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف – 172، 173].
وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس – 60، 61].
وقوله سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة — 7].
وفي الدعاء النبوي: “اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت..“[9].
وفي تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [الرعد — 20]،
قال سيد قطب رحمه الله: “وعهدُ الإيمان قديم وجديد. قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله؛ المدركةِ إدراكاً مباشراً لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود، ووحدةِ الخالق صاحب الإرادة، وأنه وحده المعبود. وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير..، ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان، ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه، مع العمل الصالح والسلوك القويم، والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم.
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر. سواء مع الرسول أو مع الناس. ذوي قرابة أو أجانب. أفراداً أم جماعات. فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق.
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله. يقررها في كلمات“[10].
ومن وفاء الإنسان مع ربه — ومع غيره أيضًا — مقابلة الإحسان بالإحسان، بحسب الاستطاعة، ولو بالكلمة الطيبة والعرفان بالجميل. قال الله عز وجل: {وَالَّذينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أنْ يُوصَلَ وَيَخْشوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابَ} [الرعد: 21].
وقال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك} [القصص — 77]، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن — 60]
ويدخل في الوفاء: جميع العهود والوعود والمواعيد والشروط، التي ينشئها الناس ويقرونها أو يتعارفونها فيما بينهم، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات أو دولاً أو منظمات، فالوفاء هو إنجازها وأداؤها والتقيد بها، ما لم تكن ظلمًا أو فسادًا، فإذا كانت كذلك فالحق أحق أن يتبع.
الوفاء في القرآن والسنة:
ورد التنصيص المؤكد على الوفاء، في عدد كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، سواء في معناه المبدئي الكلي، أو في معانيه ومجالاته العملية المحددة. ونقتصر في هذه الفقرة على ذكر نماذج من النوع الأول، ثم ندرج في الفقرة اللاحقة نماذج من النوع الثاني.
أولا: من القرآن الكريم.
1– {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل — 91] .
2– {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام — 152، 153] .
3– {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة — 1] .
4– {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة –40] .
5– {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء — 34] .
ثانيا: من السنة النبوية.
1– عن أنس قال: “ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له “[11]
2– عن أبى هريرة عن النبي — صلى الله عليه وسلم — قال « آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان »[12] وفي رواية لمسلم : “وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم“[13]
3-عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” أربع من كن فيه كان منافقا أو كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر“[14]
4– عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: « اضمنوا لي ستّاً أضمنْ لكم الجنة : اصدُقوا إذا حدثتم، وأَوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائـتُمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم [15]»[16]
مقاصد وفوائد
رأينا فيما سبق أن الدين في أساسه ومجمله، إنما هو وفاء بالعهود والالتزامات، وأداء للحقوق والأمانات، وأنه “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”. ولذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: “لا يغرنكم صلاة امرئ ولا صيامه ، من شاء صام ومن شاء صلى، ألا لا دين لمن لا أمانة له“[17].
ويرى الراغب الأصفهاني أن الوفاء من ضرورات الإنسان والحياة الإنسانية، فمَنْ فقده فقدَ إنسانيته، وفقدَ صلاحيته للحياة الإنسانية الاجتماعية. قال: “والوفاء يختص بالإنسان؛ فمن فُقِدَ فيه فقد انسلخ من الإنسانية، كالصدق. وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان، وصَـيَّـره قِواماً لأمور الناس؛ فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش، ولذلك عظَّم اللهُ تعالى أمره… “[18].
وفيما يلي بعض الوجوه التطبيقية، ذات الأولوية الشرعية، للوفاء.
1– لقد أعطى الله تعالى المثال من نفسه — ولله المثل الأعلى — في وفائه وإيفائه وتوفيته لعباده، بكل وعوده وعهوده لهم. {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة — 111]
وأخبرنا في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه أنه سبحانه {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران — 9 — الرعد– 31 — الزمر — 20] ، وأنه يوفي كل واحد حقه وثمرة عمله:
+ {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود — 111] .
+ {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران — 25]
+ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر — 10] .
+ {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم — 39 – 41]
وفي الحديث القدسي: ” يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه[19]”.
وهو سبحانه يعلن محبته لأهل الوفاء والتقوى {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران-76] ،
ويعلن بالمقابل عدم محبته لذوي الصفات المضادة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء –107] {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج –38]
2– ومن الـمَواطن التي يتأكد فيها الوفاء ويعظم خطره، الوفاءُ بين الحكام والمحكومين، بين الراعي والرعية. فإن ساد الوفاء بين الطرفين — كل بوعوده والتزاماته — كان الأمنُ والعدل، والاستقرار والازدهار، والتعاون والوفاق، وإلا جاء عكس هذا كله. وعلى قدر الوفاء المتبادل بين الجهتين، تكون حال البلاد والعباد، وحال العلاقة بين الحاكم والمحكوم…
وقد وردت في هذا الباب أحاديث نبوية منيرة، نذكر منها:
– حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، حين عاد عبيدَ الله بنَ زياد في مرضه الذي مات فيه، فقال معقل للأمير المريض: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو علمت أن لي حياة ما حدثتك. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة[20]”
– وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة ، يُرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادرَ أعظمُ غدراً من أمير عامة[21] “.
قال الإمام النووي : “وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، لا سيما مِن صاحب الولاية العامة، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين. وقيل لأنه غير مضطر إلى الغدر، لقدرته على الوفاء، كما جاء في الحديث الصحيح في تعظيم كذب الملك. والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر. وذَكر القاضي عياض احتمالين: أحدهما هذا، وهو نهي الإمام أن يغدر في عهوده لرعيته وللكفار وغيرهم، أو غدره للأمانة التي قُلدها لرعيته والتزم القيام بها والمحافظة عليها. ومتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم أو الرفق بهم فقد غدر بعهده. والاحتمال الثاني أن يكون المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام، فلا يشقوا عليه العصا ولا يتعرضوا لما يُـخاف حصول فتنة بسببه. والصحيح الأول والله أعلم[22].”
3– ووفاء الراعي لرعيته يقابله ويتممه وفاء الرعية والأعوان لأميرهم الذي اختاروه وبايعوه، بحيث يفون له ببيعته وطاعته، ويخلصون في عونه ونصرته، في منشطهم ومكرههم، حتى لو لم يكن لهم في ذلك مغانم ومصالح عائدةٌ لهم وخاصةٌ بهم. وفي الحديث عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل، ولا ينظر إليهم يوم القيامة : رجل بايع لأمير لا يبايعه إلا للدنيا، إن أعطاه وَفَـى له، وإن لم يعطَ لم يَفِ له، ورجل باع سلعة بعد العصر[23]، فحلف: لقد أُعطيتُ بها كذا وكذا — كاذبا — فباعها على ذلك، ورجل على فضل ماء في الطريق فيمنعه ابنَ السبيل[24]»
وعن أبي هريرة أيضا، عن النبي — صلى الله عليه وسلم — قال « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدى، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فُـوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم[25]»
4– ومن أخطر المجالات التي يفتقد فيها الوفاء ويعز — وهو أصلا عزيز — العلاقات بين الدول، وخاصة الدول التي يكون بينها عداوة وصراع. وقد جاء في نصوص كثيرة — من القرآن والسنة — حث المسلمين وولاتهم على الوفاء بالعهود في هذا الموطن الصعب، كما في قوله تعالى {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة-4]
وقد سطرت السيرة النبوية مواقف ودروسا تطبيقية باهرة في هذا المجال.
– من ذلك، ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أنى خرجت أنا وأبى — حسيل — فأخذَنا كفارُ قريش ، قالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم — فأخبرناه الخبر فقال: « انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم[26] »
– ومنها ما جاء عن أبي رافع رضي الله عنه[27] قال: بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم — وفي رواية الحاكم: فلما أديت الكتاب – أُلقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إني لا أخيس بالعهد[28]، ولا أحبس البُـرُد[29]، ولكنِ ارجعْ، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع “. قال فذهبت، ثم أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلمت[30].
قال الصنعاني : “في الحديث دليل على حفظ العهد والوفاء به، ولو لكافر، وعلى أنه لا يُـحبس الرسول، بل يَرُدُّ جوابَه. فكأن وصوله أمان له، فلا يجوز أن يحبس بل يرد[31]”
5– ومن أهم مواطن الوفاء وأشدها أثرا في حياة الناس، الوفاء في الحياة الزوجية والعلاقات الزوجية، وما قامت عليه من وعود وشروط. ومما جاء في تأكيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ” أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به، ما استحللتم به الفروج[32]”.
وقد بلغ وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجته الأولى خديجة بنت خويلد ، حدا لم ينل منه لا الزمن الطويل على وفاتها، ولا زواجه بعدة نساء بعدها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ” ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي — صلى الله عليه وسلم — ما غرت على خديجة ، وما رأيتها، ولكن كان النبي — صلى الله عليه وسلم — يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة . فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد[33]”
6– ومن الوفاء الذي تقتضيه قواعد الحق والعدل، وتحتمه ضرورات الحياة الاجتماعية، توفية الأُجَراء أجورَهم ومستحقاتِهم، دون تطفيف ولا تسويف. وفي الحديث عن عبد الله بن عمر — رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه[34]». وفي رواية من حديث جابر: “أوفوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه[35]”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه،، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره[36]”
ومن هذا الباب أيضا: الوفاءُ للدائنين بحقوقهم وفي مواعيدهم، دونما تأخير أو مماطلة، ودونما جحود أو مخاصمة. وفي الحديث “مطل[37] الغني ظلم[38]…” ( وفي حديث آخر: «لَـيُّ الواجد[39] يحل عرضه وعقوبته[40]»
*******************
هوامش
[1] — المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني 2| 685 .
[2] — جمهرة اللغة لابن دريد 2|109 .
[3] — جمهرة اللغة 1|334 .
[4] — انظر : المفردات للراغب 2| 685 ؛ القاموس المحيط للفيروزآبادي 1|474 ؛ الصحاح في اللغة للجوهري 2|13
[5] — الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب ص 209، ط. دار السلام2|2007 .
[6] — لسان العرب لابن منظور 15|398
[7] — التعريفات للجرجاني 1|84
[8] — المفردات للراغب الأصفهاني 2|685
[9] — رواه البخاري 8/67(6306) ، 71 (6323) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه
[10] — في ظلال القرآن لسيد قطب 4⁄364
[11] — رواه أحمد في المسند 19⁄375 (12383)، 20⁄423 ( 13199) ؛ وأبو يعلى الموصلي في المسند 5÷246−247 ( 2863) ؛ والبزار في البحر الزخار 13⁄439 (7196) ؛ والطبراني في الأوسط 6⁄429 (5919) ؛ وقال الهيثمي في المجمع 1⁄96 : وفيه أبو هلال وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره.
[12] — رواه البخاري 1⁄16 (33) وفي مواضع أخرى ؛ ومسلم 1⁄78 (59) .
[13] — صحيح مسلم 1⁄78 (109)
[14] — رواه البخاري 1⁄16 (34) وفي مواضع أخرى ؛ ومسلم 1⁄78 (58)
[15] — عن الشر وإذاية الناس
[16] — رواه أحمد 37⁄417 (22757) ؛ وابن حبان في صحيحه 1⁄506 (271) ؛ والحاكم في المستدرك 4⁄358 – 359 ؛ والبيهقي في الكبرى 6⁄288 ؛ وفي الشعب 4⁄319 – 320 ( 5256) ؛ وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله : فيه إرسال؛ وقال الهيثمي في المجمع 4⁄145 : رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات إلا أن المطلب لم يسمع من عبادة.
[17] — رواه البيهقي في الكبرى 6⁄471 ( 12694 ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ ورواه في شعب الإيمان 4⁄326 (5279) عن عائشة رضي الله عنها ثم قال: والمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه 6/160(30326) عن عروة بن الزبير قوله
[18] — الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب ص 209 – 210
[19] — جزء من حديث رواه مسلم 4⁄1995 (2577) (55) من حديث أبي ذر رضي الله عنه ، وأوله (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراما … ).
[20] — رواه البخاري 9⁄64 (7150) (7151)، ومسلم 1⁄125 (142) (227).
[21] — رواه مسلم 3⁄1361 (1738)/(16) ؛ وهو في صحيح البخاري 4÷104( 3186 ) ومواضع أخرى بدون شطره الثاني
[22] — شرح النووي على مسلم 12/44، ط . دار إحياء التراث العربي، بيروت — 1392 .
[23] — خص وقت العصر بالذكر في هذا الحديث — على رأي عامة العلماء — لما لهذه الساعة من حرمة وتعظيم. “قال المهلب : إنما خص النبى صلى الله عليه وسلم هذا الوقت بالتعظيم وجعل الإثم فيه أكبر من غيره ؛ لشهود ملائكة الليل والنهار فى وقت العصر، وليرتدع الناس عن الأيمان الكاذبة فى هذا الوقت المعظم” — شرح صحيح البخارى لابن بطال 8⁄66 — نشر مكتبة الرشد بالرياض — الطبعة الثانية — 1423هـ — 2003م .
[24] — رواه البخاري 3⁄178 (2672)، 9⁄79 (7212) ؛ ومسلم 1⁄103 (108).
[25] — رواه البخاري 4⁄169 (3455) ؛ ومسلم 3⁄1471 – 1472 (1842).
[26] — رواه مسلم 3⁄1414 (1787).
[27] — وهذا قبل أن يسلم .
[28] — أي لا أنقضه . قال الخطابي في غريب الحديث 1⁄123 يقال: خاس فلان وعده إذا أخلفه. وخاس بالعهد إذا نقضه، وأصله في الطعام إذا تغير وفسد.
[29] — البرد جمع بريد، والمقصود : المبعوثون في مهمة
[30] — رواه أحمد 39⁄282 – 283 (23857) ؛ وأبو داود 3⁄336 (2752) ؛ والنسائي في الكبرى 8⁄52 (8621) ؛ والحاكم في المستدرك 3÷691( 6538)
[31] — سبل السلام للصنعاني 6⁄207
[32] — رواه البخاري 7⁄20 (5151) ؛ ومسلم 2⁄1035 – 1036 (1418) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه
[33] — رواه البخاري 5⁄38 (3818) وفي مواضع أخر؛ ومسلم 4⁄1888 (2435).
[34] — رواه ابن ماجه 2⁄817 (2443) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ؛ وحسنه البوصيري في مصباح الزجاجة 2⁄52
[35] — رواه الطبراني في الصغير 1/43(34) ؛ وابن عساكر في تاريخ دمشق 53⁄49 ؛ وقال الهيثمي في المجمع 4⁄98: فيه شرقي بن قطامي، وهو ضعيف.
[36] — رواه البخاري 3⁄82 (2227)،90 (2270)
[37] — أي المماطلة في أداء الدين
[38] — رواه البخاري 3⁄94 (2287) ومواضع أخر؛ ومسلم 3⁄1197 (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
[39] — الواجد هو من يجد ما يسدد به دينه، وليُّه : التواؤه وتهربه من الوفاء بما عليه.
[40] — رواه أحمد 29⁄465 (17946) ومواضع أخر، وأبو داود 4⁄231 (3623)، والنسائي 7⁄316 (4689) (4690)، وابن ماجه 2⁄811 (2427)، وعلقه البخاري في صحيحه 3/118، كلهم من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه.