بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القرآن الكريم والتَّباطُؤ الزمنيّ
د. سيدأحمد هاشمي- عضو الاتحاد
يعود مفهوم التباطؤ الزمني (بالإنجليزية: Time dilation) إلی نظرية النسبية الخاصة (Special Theory of Relativity) التي نشرها العالم الألماني-الإمريكي ألبرت اينشتاين عام 1905، وتنقسم نظرية أينشتاين إلى النسبية الخاصة والنسبية العامة، وفي النسبية الخاصة لم يُفتَرض الزمن على أنه كيان منفرد يتدفق باستمرار، بل جزء من نظام أكثر تعقيداً مرتبطٌ بنظام الفضاء نفسه، يُدعَى ذلك بالزَّمَكَان (Space-Time). ولأن الزمن والمكان جانبان لكيان واحد، فمن المستحيل الانتقال في المكان دون أن يصاحبه انتقال في الزمان أيضاً، إذاً يُعدّ الزمن متغيراً بالنسبة لأي شيء متحرك. من النتائج المذهلة للنسبية الخاصة هو تباطؤ الزمن وانکماشه في ساعة متحركة بالنسبة لراصد ثابت.
وبعبارة أخری وبصورة مُبَسَّطة: «المدة الزمنية تختلف من شخص إلى آخر، حيث يمكننا القول إن الساعة التي يقضيها المترجل على الطريق، تكون أبطأ من الساعة التي يقضيها سائق السيارة على الطريق، وهذه الساعة تعد بدورها أبطأ بكثير من الساعة التي يقضيها سائق الطائرة في الجو وهكذا دواليك، وذلك نظرا لأن الحركة تختلف بينهم».
ماهي النتائج المترتبة على تباطؤ الزمن؟
من نتائج تباطؤ الزمن هي ما يدعى بمفارقة التوأم (Twin Paradox)، في هذه المفارقة يُفتَرض أن توأمين يولدان في نفس الوقت، أحدهما يبقی على الأرض ويُرسل الآخر بصاروخ إلى الفضاء بسرعة الضوء لمدّة سنة، وكنتيجة لهذه السرعة فإن جميع الساعات على متن صاروخه ومن ضمنها ساعته البيولوجية أيضاً ستتباطأ وفقاً لمبدأ أنّ الزمن في الساعات المتحركة يمضي على نحوٍ أبطأ. وحين يعود التوأم بنفس السّرعة مرة أخرى للأرض، سيجد أن توأمه وصل عمره إلى خمسين سنة وهو مازال بعمر سنتين. سبب ذلك هو تمدّد الزّمن لدى التّوأم المُسافر نتيجة تحركه بسرعة الضّوء.[[1]]
ويمكن أن يحدث ما هو أغرب من ذلك: إذا كانت الرحلة مثلاً إلى أحد الكواكب في مجرة المرأة المسلسلة (بالإنجليزية: Andromeda ) التي تبعد عنا نحو 2 مليون سنة ضوئية، فبافتراض نفس السرعة السابقة في أداء الرحلة، نجد أنه عند عودة المركبة الفضائية يكون قد مرت 4 مليون سنة علی التوأم الأرضي، بينما بالنسبة للتّوأم المسافر قد مرت عليه 56 سنة فقط.
مرور الزمن بعد الموت في القرآن الكريم
لستُ في هذا المقال بصدد إسقاط النظريات العلمية علی ما جاء في القرآن الكريم، فالنظريات العلمية من شأنها أن تخطئ وتصيب، والقرآن الكريم أجلُّ وأعلی من أن يُخضع للنظریات العلمية الخاضعة للتغيُّر والتبدُّل.
ولكني رأيت أن أستأنس بتلك النظرية لتفسیر وفهم بعض ما جاء في القرآن الكريم عن مرور الزمن بعد الموت أي بعد مفارقتنا لهذه الأرض.
إن المتأمل في القرآن الکريم یری بوضوح أن مفهوم الزمان والمکان في القرآن الکريم بعد الموت وخاصة في الحیاة الآخرة، يختلف اختلافاً جوهرياً عن ماهو في الحیاة الدنيا، رغم أننا لا نستطيع أن نقطع بطبيعة هذا الاختلاف، ولکن يبدو أن الزمان وبالتالي المکان مع سعته، ينکمشان في الدار الآخرة.
فقد نص القرآن الکريم في سورة ق، أن الله يکشف الغطاء والستار عن عيون الإنسان بعد الموت ویصبح بصره حادّاً نافذاً، قال تعالی: )لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( [ق:22] فالآية تشير أن حاسة البصر بعد الموت، تختلف اختلافاً کلياً مقارنة بالحياة الدنيا بحيث يستطیع الإنسان أن يری ما لم يکن يراه في الدنیا حال حیاته، ومن هذا المنطلق يتمنی الکافر الرجوع إلی الدنيا بعد الموت، لأنه یری کل شيء عين الیقين، قال تعالی:)حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ...(
کما أن حاسة السمع لاتتأثر ببعد المکان والمسافة في الدار الآخرة، فهذه القابلية بعد الموت تنشأ إما من قوة السمع والبصر، وإما من انکماش المکان، وإما من کليهما، وإلا فکیف نفسر الآيات التي تتحدث عن حوار أصحاب الجنة -وهُم في الجنة- مع أصحاب النار -وهُم في النار- و المسافة بینهم کالمسافة بين السماء والأرض؟
منها قوله تعالی: )وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) (
وقوله تعالی:)وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)(
وقوله تعالی:)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)(
وقوله تعالی:)كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)(
هذا عن المکان، فأما الزمان فقد تحدث القرآن الكريم عن مرور الزمان في سیاقين:
الأول: بعد الموت المؤقت (النوم)
الثاني: بعد الموت الحقیقي.
بالنسبة لمرور الزمن بعد الموت المؤقت(النوم)، فقد أشار القرآن الكريم في ذلک إلی واقعتين:
الواقعة الأولی: قصة الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ: ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) (
الواقعة الثانية: قصة أصحاب الكهف: )وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)(
والسؤال المصيري الذی يطرح نفسه هنا:لماذا قال الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ: «لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» وقال أصحاب الكهف:«لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ»؟
و عندما نراجع أقوال المفسرين في تفسیر الآیة الأولی نجد أنهم يذكرون السبب أنه مات الرجل أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال:{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}[[2]]
وقال بعضهم:«لأَنه لم يشاهد في نفسه، ولا في طعامه تغيُّراً، حتى يظن أنه مكث مدة طويلة. ولعله ظن أنه كان نائما فقدَّر زمنين متقاربين، من المحتمل أن يستغرق الإنسان أحدهما في نومه.»[[3]]
في تفسیر آیة الکهف يذكرون السبب أن دخولهم إلى الكهف كان في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا:{ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}[[4]]
وقال بعضهم: «كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أنّ المدة متطاولة، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله. ورُوىَ أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال، فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك.»[[5]]
وقال الآخر:«قول القائل:كَمْ لَبِثْتُمْ؟ يقتضي أنه هجس في خاطره طول نومهم، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني، لا تباين التي ناموا فيها، وأما أن يجدد الأمر جدا فبعيد»[[6]]
و هکذا يکون الأمر بالنسبة لمرور الزمن بعد الموت الحقیقي، فقد أشار القرآن الكريم إلی ذلک في عدة آیات:
- )وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ( [يونس:45]
- )يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا( [طه:102-104]
- )قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ114( [المؤمنون:112-114]
- )وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ( [الروم:55-56]
- )فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ( [الأحقاف:35]
- )كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا( [النازعات:46]
ما يلفت النظر في الآيات السابقة هو:
- إنَّ السمة المشترکة فيها أن المجرمين يستقلُّون المدة الزمنية في الحیاة الدنيا.
- المدة الزمنية التي قضوها في الدنيا تتراوح بین "الساعة"کالحدّ الأدنی و"اليوم" کالحدّ الأقصی.
- المدة الزمنية التي قضوها في الدنيا تختلف من آية وأخری وذلک حسب الأحوال والأشخاص.
تجدر الإشارة إلی أن الساعة في الآيات السابقة لیس بالمعنی المعهود عندنا والتي هی ستون دقيقة، بل المراد من الساعة، الساعة بالمعنی اللغوي، وهي جزءٌ مؤقّت من أَجْزاءِ اللَّيْل والنّهار.[[7]]
اختلف المفسرون في هذه الآيات في مسئلتين:
المسئلة الأولی: اختلف المفسرون في المراد بقوله: [إِنْ لَبِثْتُمْ] في أنّ السؤال عن أيّ لبث؟
القول الأول: فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك، وأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار، واحتجوا عليه بقوله تعالى: )قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ114( [المؤمنون:112-114]
القول الثاني: أن المراد منه اللبث في القبر لأنَّ قوله: «فِي الأَرْضِ» يفيد الكَوْن في الأَرض أي: في القبر، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض ويعضده قوله تعالى: )وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ( [الروم:55-56] وهذا ضعيف لقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [الأعراف:56]
القول الثالث: قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد بين النفختين الأولى والثانية، يُكَفُّ عنهم العذاب فينامون، مثل قوله في سورة يس:{مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [آية:52] وهم يعذبون من حين يموتون إلى النفخة الأولى، فعلى هذا القول ظنهم اللَّبْثَ القليل يعود إلى لُبْثهم بين النفختين.[[8]]
والذي يترجح عندی أن المراد به اللبث في الدنيا، ولیس اللبث في القبر بالقرينة الحالية واللفظية، فأما اللفظية فلقوله تعالى: )قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)(، فأما الحالية لأن لفظ "في" إذا اقترن بـ"الأرض" لايدل بالضرورة علی بطن الأرض، بل یدل کذلک علی ظهر الأرض بدليل قوله تعالی:{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [الأعراف:56]
المسئلة الثانية:في السبب الذی يستقلُّون مدة لبثهم، فذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوهاً:
الأول: قال أبو مسلم: لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ألبتة، فكان وجود ذلك العمر كالعدم.
الثاني: قال الأصم: قلَّ ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة، والإنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة.
الثالث: أنه قلَّ عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد.
الرابع: أنه قَلَّ عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر.
الخامس: المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا، وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف. [[9]]
لاشك أن هذه الأقوال والاستنتاجات كلها مجرد احتمالات، فلايمكن القطع بها والتعويل عليها، وهناك احتمال آخر في ظل ما توصل إليه البشر من النظریات، وهو أن الحساب الزمني بعد النوم أو الموت أبطأ من الحساب الزمني في الدنیا، فرغم أن الذي مرّ علی قرية قضی مائة سنة وأصحاب الکهف قضوا ثلاثمائة سنة في النوم، و رغم أن المجرمين قضو عشرات من السنين في الدنيا بالحساب الزمني عندنا، ولكن لأنهم عاشوا في عالم غير عالمنا، فیُخبروننا بالحساب الزمني عندهم، لا بالحساب الزمني عندنا، ولذلك عندما سُئِلوا عن مدة لبثهم أجابوا:( لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أي لبثتا يوما أو بعض يوم بالحساب الزمني في العالم الذي كنا فیه أو نحن فيه، وليس بالحساب الزمني في الحیاة الدنيا، لأن الزمان بعد الموت ينکمش وبالتالي یکون مرور الزمان بعد الموت أبطأ من مرور الزمان قبل الموت.
ولتقريب القضية إلى الأذهان يمكننا أن نوضحه بمثال في الدنيا: نفترض أننا في بلد في الشرق والساعة عندنا تشير إلی الثالثة ظهراً، ثم نجري اتصالاً هاتفيا مع صديق في القارة الأمريکية، فنسأله: کم الساعة الآن؟ فإذا لم تکن لدينا معرفة بفارق التوقیت بيننا وبينه، قد نُفاجأ بالجواب ونندهش عندما يقول صاحبنا: الساعة الآن السادسة صباحاً، وأما إذا کان لدينا معرفة بفارق التوقیت، فلا نندهش ولا نفاجأ، لأن صاحبنا یخبرنا بالتوقیت الزمني عنده ولیس بالتوقیت الزمنی عندنا.
والأمر کذلک بالنسبة لمن قدم إلينا من وراء هذا العالم، من عالم الموت أو عالم النوم، والدلیل علی ذلك أنهم عندما ناموا أو ماتوا، لم ينتقلوا إلی دار الفناء لنقول أنهم لم يشعروا بمرور الزمن، بل انتقل أرواحهم إلی عالم آخر يختلف كمّاً وكیفاً عن عالمنا، کما أن حرکة الأرواح أيضاً في عالم آخر، تختلف کماً ونوعاً عن حرکة الأبدان والأجسام في عالمنا، فالمفسرون عندما يفسرون:( لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ينظرون بمنظار من یعيش بجسمه و روحه علی هذه الأرض، وليس بمنظار من انتقل بروحه دون جسمه إلی عالم آخر وعاش برهة من الزمن في أجوائه ثم عاد إلیه مرة أخری، فالمفسرون يحدّثوننا من قُدّام الجدار، فأما هم فيحدّثوننا من وراء الجدار، فالمقاییس اختلفت والأمر بات نسبياً.
وقد ذهب نظام الدين القمي النيسابوري في تفسيره:"غرائب القرآن ورغائب الفرقان" إلی هذا الاحتمال حیث قال:«ويحتمل أن يكونوا قد سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه، فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض، فصحَّ أن يكون جوابهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عند أنفسنا»[[10]]
وقريباً من هذا قاله بن عادل الحنبلي في تفسیره "اللباب في علوم الكتاب"، حیث يقول:«وأرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة.»[[11]]
وهذا ما توصلت إليه من خلال دراستي للآيات السابقة والله تعالی أعلم.
- - ناصر منذر، "من النسبية الخاصة"، الجمعية الكونية السورية.
[2] - انظر علی سبیل النثال لا الحصر: تفسیر الطبری وتفسیر ابن کثیر،
[3] - مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية،ط/1، (1393 هـ = 1973 م) - (1414 هـ = 1993 م)، 1/442
[4] - انظر علی سبیل النثال لا الحصر: الطبری، ابن کثیر،
[5]- الزمخشري؛ أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، جار الله (ت: 538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي – بيروت، ط/3، 1407هـ ، 2/710
[6] - بن عطية، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542هـ)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية – بيروت، ط/1، 1422هـ، 3/505
[7] - الفراهيدي؛ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت: 170هـ)، كتاب العين، تحقیق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، 8/404
[8] - النيسابوري، أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (ت: 468هـ)، التَّفْسِيرُ البَسِيْط، عمادة البحث العلمي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط/1، 1430هـ، 13/364
[9]- انظر:الرازي، فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي (ت: 606هـ)، مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/3،1420هـ، 17/259
[10]- النيسابوري؛ نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (ت:850هـ)، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، تحقیق: الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلميه، بيروت، ط/1، 1416 هـ، 5/138
[11] - بن عادل الحنبلي؛ أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني (ت: 775هـ)، اللباب في علوم الكتاب، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت / لبنان، ط/1، 1419 هـ -1998م، 14/268