البرامج السّاخرة.. رؤية شرعيّة (1)
المقال الأوّل: السّخرية من الأعداء والحكّام المستبدّين
الشيخ محمد خير موسى (عضو الاتحاد)
السُّخرية هي النّاطق الرسميّ باسم الغالبيّة المقهورة حين يتوارى الجدّ خلف ستار الصّمت والخوف والقلق، وهي عند الشّعوب المطحونة السّبيلَ لتقديم الحقائق المرّة والمعاناة العلقم مرتدية ثوب الحلوى من التعابير والضّحكات.
فالسّخرية هي "الملاذُ الأخير لشعبٍ متواضعٍ وبسيطٍ" كما قال تيودور دوستويفسكي، وهي كما قال فولتير: "سلاحُ الأعزلِ المغلوبِ على أمرِه".
والسّخرية ضاربة الجذور في التّاريخ البشري؛ لكنّها بوصفها حالة ممنهجة برزت مع تبلور الأدب والفنون بأشكالها المختلفة، غير أنّ ما صار يتعارف عليه باسم البرامج الساخرة قد ظهر جليّا في العالم العربيّ مع انطلاقة الرّبيع العربي، وهو امتدادٌ للفنّ والأدب السّاخر الذي سبقَ هذه البرامج بعقود.
ولأنّ هذه البرامج في غالبِها غدَت جزءا من الحالة الثّوريّة، ولكون السّخرية من القضايا ذات الحساسية الفائقة أخلاقيا واجتماعيا، فكان لا بُدّ من وضعها في إطارٍ ناظم؛ وهذا الإطار ينبغي أن يكون الموقف والحكم الشّرعيّ الذي يعدّ الإطار النّاظم لحركة الإنسان في هذا الكون، وهو الضّامن له بأن تكون حركته هذه جزءا من إحقاق الحق وإعمار الكون.
الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره
القاعدة الشرعيّة تقول "الحكمُ على الشّيء فرعٌ عن تصوّره"، فحتى يكون الحكم دقيقا وسليما فلا بدَّ من أن يكون التّصور عن المسألة محلّ البحث دقيقا ومتكاملا أيضا.
البرامج السّاخرة التي نقصد الحديث عنها هي جزء من برامج "التّوك شو" وبرامج "المذيع النّجم"، وتتم مخاطبة الجمهور فيها بطريقة تثير سخريته من شخصٍ أو كيانٍ أو فكرة.
وعادة ما يكون الهدف من هذه البرامج اغتيال الشخصيات والكيانات معنويّا، وتحطيم الأفكار والتابوهات، وإعادة تشكيل قناعات الجمهور السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية.
ولهذه البرامج سماتٌ أهمّها:
1- برامج تناهضُ الظّلم والاستبداد السّياسي وتهاجم الحكّام المستبدّين والأعداء، فتوجّه سهام السّخرية إلى هذه الأنظمة وأركانها ورموزها.
2- تستهدفُ هذه البرامج أعوانَ الظّلمة والمستبدّين بالسّخرية والاستهزاء من الإعلاميين والفنّانين والدّعاة الذين يساندون هؤلاء المستبدّين أو الطّغاة.
3- تستهدفُ هذه البرامج العادات والتّقاليد الاجتماعية بالسّخرية والاستهزاء بهدف إسقاطها معنويا وتشويهها وكسر مكانتها في نفوس معتنقيها.
4- بعض هذه البرامج تستهدف الخصومَ السّياسيين والمقصود هنا الخصوم السياسيين من داخل التيار نفسه، كالخصوم داخل التيار الثوري من كيان أو جماعة أو حزب آخر على سبيل المثال.
5- بعضُ هذه البرامج تستهدف المعتقدات الدّينية، سواء أكانت هذه المعتقدات إسلامية أو معتقدات لأتباع ديانات أخرى، أو سخرية من شعائر ورموز دينيّة مثل الحجاب أو اللّحية أو غير ذلك.
مفهوم السّخرية وحكمها الأصليّ
هذه البرامج ترتكز على السّخرية من الآخر سواء كان هذا الآخر شخصا أو كيانا أو فكرة أو معتقدا أو كانت هذه السّخرية بحقّ أم باطل، وهذا يفرض علينا أن نحرّر مفهوم السّخرية ابتداء.
أوّلا: مفهوم السّخرية
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللّغة: "سخر: السين والخاء والراء أصل ٌ يدلُّ على احتقار واستذلال".
ويفهم من هذا أن السخرية هي: الذمّ المؤذي للمسخور منه، والاستهزاء والتحقير والانتقاص منه، وفضح عيوبه بطريقة تثير ضحك الناس. والسّخرية تكون بالقول والفعل أو الإشارة والإيماء.
وقد عبّر ابن تيمية عن هذا المعنى فقال: "الاستهزاءُ هو السّخرية؛ وهو حملُ الأقوال والأفعال على الهزل واللّعب لا على الجد والحقيقة، فالذي يسخر بالناس هو الذي يذمُّ صفاتهم وأفعالهم ذمّا يخرجها عن درجة الاعتبار".
ثانيا: الحكم الأصلي للسّخرية
عدَّ القرآنُ الكريم السخرية من حيث المبدأ والأصل من المحرّمات الكبيرة سواء كانت بحق أفراد أو جماعات، وذلك في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُوا خَيْرا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْرا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ? بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ? وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الحجرات: 11).
وقد بيّن القرآن الكريم بأنَّ من يمارسُ السّخرية يخرجُ عن وصف الإيمان ليدخلَ في وصف الفسوق، ويكون ظالما إن لم يسارع الى التدارك والتوبة.
ولكن هذا الحكم العام لا ينطبق على سائر أفراده؛ ففيه استثناءاتٌ عديدةٌ نذكرها بناء على التّصور لحقيقة دوافع البرامج الساخرة.
وسنقوم بشكل متتابع بإذن الله تعالى بالبحث التّفصيليّ في كلّ صورة من صور السّخرية التي تنطوي عليها هذه البرامج عادة، والبداية مع السّخرية من الأعداء والحكّام المستبدّين..
السّخرية من الأعداء المعتدين والحكام المستبدّين وأعوانِهم
بين يدي بيان الحكم في هذه المسألة على وجه التّحديد لا بدّ من بيان القاعدة الأصوليّة التي تمثّل الإطار العالم لهذه القضيّة.
للوسائل حكم المقاصد
هذه القاعدة الأصوليّة ترسم إطارا عامَّا للحكم الشرعي المتعلق بالسخرية، وذلك أنّه يقصد منها الأذيّة والاحتقار والإذلال والتّحطيم والاغتيال المعنوي.
ولما كانت هذه الصفات في أصل التّعامل الإنساني محرّمة كانت الوسيلة المؤدية إليها وهي السّخرية محرمة أيضا، ولكن هذه المقاصد ليست محرمة على الإطلاق بل تكون أحيانا واجبة ومطلوبة.
وإنّ مهاجمة الأعداء المعتدين والحكام المستبدين المجرمين من المقاصد المشروعة في الإسلام، والتّسبب بالأذى الماديّ والمعنويّ لهم، وإذلالهم وتحقيق النّكاية بهم والإغاظة لهم؛ من المقاصد العظيمة والأفعال المحمودة، فكانت الوسيلة لتحقيق هذه المقاصد، وهي السخرية، مشروعة ومطلوبة؛ بل تصل إلى درجة الجهاد المبرور.
والسّخرية من الأعداء والطّغاة تندرج تحت "الهجاء"، وهو في الشّعر الذّم والتهجم والسخرية، وهو في أصله محرّم لأنّه يثير العداوة والبغضاء بين الناس.
غيرَ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم أمر بهجاء المشركين المعتدين، بل إنّه صلى الله عليه وسلم نصب منبرا لحسان بن ثابت رضي الله عنه في المسجد ليكون وسيلة إعلاميّة مؤثّرة في هذا العدوّ، وبيّن له أنّ معه مساندة من جبريل عليه السلام في صنيعه هذا؛ فقال له كما في الصحيحين: "اهجُهم أو هاجِهم وروحُ القدس معك".
والذين يقومون في برامجهم الساخرة بهجاء الأعداء المعتدين، والطغاة المستبدّين، والقتلة المجرمين هم على نهج حسّان بن ثابت، ويمارسون الدّور نفسه في الجهاد بالكلمة والمقارعة باللّسان.
وعندما رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بدرٍ منتصرا جاءته الوفود لتهنّئه، فقال لهم سَلَمَة بن سلامة ساخرا: ما الذي تهنّئوننا به؟! فوالله إنْ لَقِينا إلّا عجائزَ صُلْعا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "يا ابن أخي أولئك الملأ".
فتبسُّمُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إقرارٌ على السّخرية من هؤلاء الأعداء بل على السّرور بها، وقولُه: "أولئك الملأ" أي الأشراف والسّادة لبيان قيمة النّصر وأنّه كان على سادة القوم وأشرافهم مع الإقرار بالسّخرية منهم.
ويندرج تحت جواز السّخرية من الطّغاة المشركين السخرية ممن يعينهم على ظلمهم وفجورهم، ويجاهر بذلك بالقول والفعل من الإعلاميين والفنانين وعلماء السلاطين فهؤلاء حكمهم في السّخرية منهم كحكم سادتهم وكبرائهم.
على أنَّ هذا الجواز ينبغي أن ينضبط بضوابط شرعيّة نفرد لها بإذن الله تعالى مقالا خاصا؛ كونها ضوابط تنطبق على حالات الجواز كلّها.