الرابط المختصر :
الشيخ الغزالي والاستبداد السياسي
بقلم الأستاذ الدكتور:- رمضان خميس
يُعتبر الحديث عن الاستبداد بوجه عام من أبرز المحاور الفكرية والمعالم الأساسية في المشروع الفكري عند الشيخ محمد الغزالي، فأول ما فتح عينه على الحياة وجد في قريته هذا الاستبداد المالي؛ الظاهر في تركز الأراضي الزراعية الشاسعة في يد طائفة، وخلو أيدي الباقين من أي شيء، فرأى تتابع الظلم من هذه القسمة الضيزى. والاستبداد السياسي بوجه خاص معلم بارز من معالم هذا الاستبداد العام، فوقف الغزالي بكل ما يملك مندداً بالاستبداد بكل أنواعه وأشكاله، يوضح ذلك فيقول: «وأنا باسم الإسلام أحارب الاستبداد بكل ما لدي من طاقة، إن الكفاءات العلمية والعسكرية أهينت طويلاً في أمتنا وبطش الحكم الفردي بها دون رحمة»(1). ومن هذا المنطلق، أخذ الغزالي يجابه الاستبداد السياسي، الذي حَرم الأمة من ثمرات الشورى الإسلامية؛ فأعجزها عن مواجهة تبعات رسالتها، ومجابهة تحديات أعدائها فترات، يقدم في معالم مشروعة الفكري: «الإسلام والاستبداد السياسي، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وميثاق الأمم المتحدة»(2)، وغير ذلك من الكتب والدراسات حول هذا المحور من محاوره الفكرية. «الإسلام والاستبداد السياسي»، الذي يعتبر من بواكير عمله التأليفي، هو الكتاب الثالث من سلسلة كتبه، وهو من أخطر الكتب التي تناولت الاستبداد السياسي دراسة واقعية معاصرة جريئة امتزجت بالأسانيد الشرعية والمرويات التاريخية (3). والكتاب عبارة عن محاضرات ألقاها الشيخ الغزالي على رفقاء الطريق في معتقل «الطور» في محنة الإخوان المسلمين، ثم نشرت بعد ذلك بعشر سنين، وهو صيحة تحذير ونواقيس خطر تدق في أذهان الأمة؛ لتستيقظ وتدرك ما يمكن إدراكه، والكتاب أقلق الظالمين فصودر واستدعي صاحبه وناله من البلاء ما ناله، وكانت استجابة القدر لهذا الكتاب أسرع ما يتصور كثيرون، والشيخ الغزالي لم يضع الكتاب لفئة دون فئة، أو نظام دون نظام، بل لكل الأنظمة والعصور، وهو يتناول خصائص الحكم الفردي من الكبرياء والرياء والتبذير في قوت الشعب، ويتحدث عن قضية الشورى والاستبداد وطبيعته وضمانات الحرية، وذكر فيه أن الفرد يُحيي الإيمان في نفسه ويثبته، كما يتحدث عن قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن حتمية التناصر في وجه الظالم، واستعرض تاريخ الإسلام من الخلافة الراشدة والأسس التي قام عليها، وألقى باللوم على مَن وثبوا على أزِِِِمّة الحكم دون قدرة على قيادة الأمة. والكتاب بحق قذيفة من قذائف الحق التي عُرفت عن الشيخ الغزالي، يدفع بها حكم المستبدين على مر العصور، «وليست قوة الكتاب فيما احتوى من معلومات، وإنما في جرأة الغزالي البالغة في توجيه صفعة شديدة للطغيان، في وقت كان السجن والتنكيل مصير رائدي الأقلام الحرة والضمائر الحية، وكانت الرقابة على الصحف والكتب تودي بحياة الأحرار والشرفاء وتقصف بأقلامهم»(4). والكتاب يعتبر أشهر كتبه، وكان ذلك في أواخر الأربعينيات، ويقول الشيخ الغزالي عن ذلك: «كان هذا اليوم من أهم أيام حياتي، وأعتبره نقطة انطلاق لي، بمجرد أن نزل الكتاب، فوجئت بالحكومة كلها تهتز؛ حيث إن القصر الملكي انتفض بشدة، وقُبض عليّ وقُدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة، وخرجت من هذه القضية بدون أن يُثبت عليّ شيء»(5). الشرق والاستبداد السياسي في نظر الغزالي ويرى الشيخ الغزالي تنكباًً بين الحين والحين لهيجان الزلازل وثوران البراكين، وأن الأقطار الإسلامية تنكبت بهذا اللون من التحكم الفردي الثائر للرغبة والرهبة، والمالك لسلطات لا نظير لها في المشارق والمغارب(6). ويفرق الشيخ الغزالي بين أصحاب الحكم الفردي وأصحاب التدين المخلوط في سلك واحد هو سلك الفساد في الأرض فيذكر: «إن صنفين من الناس لن تذوق الأرض حلاوة السلم ما بقيا؛ أولهما: الرجال المفروضون على الدنيا يحكمونها بأمرهم، يسترقون البشر بسلطانهم. والصنف الثاني: الرجال المفروضون على الدين يحسبون أن مفاتيح الآخرة بأيديهم وحدهم، وأن الطريق إلى الله لا تسير إلا بإذنهم، فمن نأى عنهم فهو هالك»(7). ويوضح الغزالي أثر الاستبداد السياسي، وأنه طاعون يأكل الأخضر واليابس، ويهلك الحرث والنسل، وأن أحرار العالم يجب أن يتعاونوا ويتساندوا ليقضوا إلى هذا الوباء إذا ظهرت له جرثومة في قطر من الأقطار (8)، وفي موضع آخر يصفه الغزالي بأنه «الغول» الذي أكل ديننا ودنيانا(9)، والاستبداد ليس خاصاً بجزء من الأرض، بل لدغت به البشرية في أقطار فيحاء، وعلى آماد متطاولة.. ومن هنا يهيب الغزالي بالمسلمين أن ينتفعوا بما وضع غيرهم للنجاة من هذا الوحش الكاسر، وحش الاستبداد السياسي، خاصة بعد أن ذاقوا ويلاته؛ فعملوا منذ الفطرة على تحصين أنفسهم، وعلى وضع الدساتير التي تتضمن العِبَر المستخلصة من صراعهم مع الظالمين(10). والحق أن الاستبداد السياسي مرض عضال يخدم الأعداء، ويوطئ أكتاف الناس لهم؛ لأنه يربيهم على الجبن والاستخذاء وإعطاء الدنية في دينهم، يعبر الشيخ الغزالي عن هذه النظرة بقوله: «إنه يخيل إليّ أن اليهود لو كشفوا عن خباياهم لمنحوا بعض حكام العرب جوائز سخية؛ لأنهم هم الذين مهَّدوا لهم طريق الغزو، وأطفؤوا نار المقاومة، ودمَّروا روح الإيمان، وفرقوا أواصر الوحدة، وخلقوا أجيالاً متنكرة لدينها ولغتها وتقاليدها ومثلها، في الوقت الذي يبني فيه اليهود كيانهم على الدين واللغة والتقاليد والمثل العبرانية»(11). والشيخ الغزالي يوضح أن القضاء على الاستبداد طريق القضاء على الاستعمار فيقول: «نحن نعرف أن للاستعمار فكين حادّين يتركب منه فمه: الفساد الكامن في الداخل، ويقصد به الاستبداد وتوابعه. والعدوان الوافد من الخارج.. وبين الفكين تدار الرحى وتتهشم الضحايا، وضربة قاصمة لأحد الفكين تنقذ آلاف المعذبين، وقد كرسنا حياتنا لهذا المسعى الجليل»(12). ويرشد الشيخ الغزالي لطريق الحكم الصحيح، وكيف أن الحاكم المسلم ليس طاغية متمرداًً ولا جباراً متألّهاً، وإنما هو رجل من صميم الأمة، يجب أن يُعان على الحق، وأن يُمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجاً للمصالح العامة، لا مصيدة للمنافع الخاصة، ولا باباً إلى البطر والطغيان، وذلك هو أدب الإسلام الذي خط مصارع الجبابرة في الدنيا وحط منازلهم في الآخرة {تٌلًكّ پدَّارٍ الآخٌرّةٍ نّجًعّلٍهّا لٌلَّذٌينّ لا يٍرٌيدٍونّ عٍلٍوَْا فٌي الأّرًضٌ وّلا فّسّادْا وّالًعّاقٌبّةٍ لٌلًمٍتَّقٌينّ (83)}(القصص). الإسلام والاستبداد في نظر الغزالي والإسلام لا يرضى بالاستبداد، بل إن «الإسلام والاستبداد كما يقول الغزالي ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس لعبادة ربهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية عمياء»(13)، ولا يمكن أن يعيش الاستبداد هانئاً أو مستريحاً في بيئة ينتعش فيها الإسلام؛ لأن الثاني عدو الأول اللدود، وهل جاء الرسول [ إلا ليفك أغلال القرون الأولى، وما تركته في القلوب من زيغ وفساد، وما تركته في العقول من خرافة وضلال، وتلك كلها آثار الاستبداد الذي يشل العقل ويوقف الفكر، ويجعل المرء محصوراً في دائرة أضيق من دائرة حسه في الحياة، إن في الجو الصحو والأرض المشمسة – كما يقول الشيخ الغزالي – «تموت الديدان وتنقرض الأوبئة، ولكن الاسترقان السياسي عدو البشرية الأول، وسرطان الأمم المعذبة، وفي ليله الطويل لا تلمح العقول أشعة المعرفة، ولا تدري الطباع معنى الكرامة ولا تشرب النفوس حب الخير»(14). تلك المعاني التي عمل الإسلام على إنمائها في النفس، وغرسها في الفؤاد؛ فكان الإسلام يبني والاستبداد يهدم، وهذا الذي يجعل الأمة تحكم بهذا الكابوس.. كابوس الاستبداد ليل نهار نوماً وصحواً، فالناس يعرفون طرقاً سديدة لتولي الحكم والوصول إلى منصة القيادة، ولكن عندنا في الشرق يظهر أن الحكام كما يقول الشيخ الغزالي: «كالنبت الشيطاني لا تعرف كيف ظهر ولا مَن تعهده، وتنام الشعوب ليلها وتصحو نهارها وهي ترمق حكامها كما يرمق المحزون القدر الغالب، أو كما يحول المفجوع المصيبة الفادحة، وقلما تألفت حكومة ينظر إليها الشعب كما ينظر الإنسان إلى المرآة فيجد فيها صورته، حتى أصبح الشذوذ قاعدة، وحتى أصبح العامة يستغربون العدالة ويألفون الظالم»(15). وهذا النبت الشيطاني الذي يظهر فجأة بلا رعاية أو ترتيب هم الأئمة المضلون، الذين حذَّر منهم الرسول [ فقال: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين». أولئك كانوا وما زالوا الفرقة الموجعة الهابطة بقوى الشعوب، المستنزفة لدينها وحياتها، والمحطِّمة لكيانها ومقوماتها. والحق أن الإسلام أولى الأديان بمطاردة الاستبداد والاستعباد بكل معانيه، ومحاربته بكل ما في اليد من أداة، ولم تر في الحياة شريعة قاومت الاستبداد والاستعباد كما قاوم الإسلام، «ولا تعرف ديناً صبّ على الاستبداد سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم وأغرى الجماهير بمناوأتهم والانقضاض عليهم كالإسلام، ولا تعرف مُصلحاً أدّب رؤساء الدول وكبح جماحهم وقمع وساوس الكبرياء والاشتهار في نفوسهم كما فعل ذلك نبي الإسلام، لقد كسر القيود وحرر العبيد، ووضع التعاليم التي تجعل الحاكم يتحرى العدل والمحكوم يكره الضيم». ويرى الشيخ الغزالي أن تعاليم الإسلام التي ملأت كتاب الله وسنة رسوله [ كانت أقصى كفاح ضد لون من الحكم ساد بلاد الإسلام قروناً، لو بليت بقاع أخرى من الدنيا لما بقيت فيها مظاهر للحياة ولا معالم للعمران. ويصف مظاهر هذا الاستبداد السياسي بأن حكوماته كانت حرباً على الشعوب، وكانت حكومة الوالي لا تعني غير الغصب أو السرقة أو الظلم الفادح في أحلك صوره، والإسلام برئ من هذه التبعات التي ألصقت به، ونأى بها كاهله، ولو أن ديناً من الأديان أو مبدأً من المبادئ شد على كاهله هذه الأعباء لترنح في منتصف الطريق، ولكن الإسلام ما زال يجاهد بفئة صابرة ولا تزال ظاهرة على الحق لا يضرهم مَن خالفهم حتى يأتي أمر الله، ومن هنا يهيب الغزالي بهذه الفئة أن تستميت في الصبر، وأن تثبت مكانها لا تبرح الميدان على أن تعيش عيشة السعداء، أو تموت ميتة الشهداء، فيقول: «للحكم إغراء يزين لمتوليه أن يخفف رويداً رويداً من تبعات الفضيلة والعفاف، وما أكثر ما يذكر الحاكم نفسه وينسى أمته، وما أسرع أن ينسى مُثله العليا ويهبط عنها قليلاً قليلاً، وما أيسر أن يستخدم سلطانه الواسع في غير ما منح له، بيد أن دين الله إن حاف عليه الولاة الطاغون؛ فيجب أن ينتصب له في كل مكان وزمان مَن يزود عنه ويصونون شريعته، ولو تحملوا في سبيل ذلك الويل والثبور».