نكبة الدهر .. ولعنة العصر
أ. د. عبد الرزاق قسوم
ما أشأم العرب والمسلمين على أنفسهم وما أشأمهم على التاريخ، فقد هانوا على أنفسهم، وعلى الناس، فتفرقوا شيعا وأحزابا، وتقطعت بهم الأسباب، حتى صار يلعن بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وبذلك استخفهم أعداؤهم.
فكيف تحول العرب والمسلمون، من خير أمة أخرجت للناس، إلى أقوام يسومهم الأعداء الخسف والهوان، وصاروا أذل من الأوتاد؟
إن ذلك هو ما جرّأ الأعداء عليهم، منذ وعد بلفور، الذي أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحق، إلى نكبة الدهر، وصفعة العهر، التي سميت بصفقة العصر.
وصفقة العصر هذه، هي النكبة الحضارية الثانية، التي أنجزت، بعد نكبة فلسطين الأولى، التي أخرج فيها الفلسطينيون من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين.
فكيف تجرأ، الرئيس الأمريكي ترامب الذي اهتزت شرعيته في بلاده، وحليفه الصهيوني نتنياهو، الذي هو مهدد في عقر داره، بالمحاكمة والسجن، كيف تجرأ هؤلاء على الشرعية الدولية الثابتة بالحق والقانون والتاريخ؟
وكيف سوّلت لهم أنفسهم، رفع خسيستهم، بالشرف الفلسطيني، والعز الإسلامي، من جاكرطة إلى طنجة، ليقدموا على هذه الجريمة النكراء التي لا يقرها قانون، ولا يسندها خلق؟
إن لعنة العصر، هذه، التي تقضي على مرأى ومسمع من الضمير الإنساني على المبدأ التاريخي للعرب في فلسطين، وعلى الحق الإلهي الثابت للمسلمين في القدس الشريف، لتمثل عدوانا، على الفلسطيني، وعلى العربي وعلى المسلم، وهم عصبة، لصالح الصهاينة وهم عصابة، ألا ساء ما يحكمون!
والحقيقة، هي أن القضية، وما فيها، أن العرب والمسلمين، أصيبوا اليوم بالغثائية، فهم كثر ولكنهم كغثاء السيل، نزع الله مهابتهم من قلوب أعدائهم، وقذف في قلوبهم الوهن، فصار الألف منهم كأف.
فبعد أن كان العرب والمسلمون ينازعون مبدأ التقسيم، وهو التقسيم الجائر، ويطالبون بكل فلسطين، وهو الحق الثابت المسلّم به في كل الدوائر، يحميه المقاوم الثائر ويستشهد من أجله الشهيد القاهر، والأسير الصابر المثابر.
ها هي الموازين تنقلب، بزعزعة الحدود، وتعديل البنود، ووضع القيود، ونكث المواثيق والعهود.
فما الذي تغير بهذا المشروع المحيّر؟
“لقد استضعفوك أيها العربي المسلم فوصفوك”، وبصفقة العصر صفعوك، ومن أصلك التاريخي اقتلعوك، وبدعم من إخوانك المتواطئين
“يا أيها الفلسطيني” من أرضك طردوك.
وما كانت صفعة العصر لتتم لولا أموال عربية أنفقت، ودعائم دبلوماسية أسندت، وضمانات سياسية ضمنت وقدمت.
فهل كان يخطر بالبال، أن يأتي على القضية الفلسطينية، زمان، يغتصب فيه الشرف العربي، والإسلامي على مرأى الجميع، وبحضور الجميع؟
وهل كان يتصور، أن يقدم حاكم عربي على هذا الترويع والتطبيع؟ والتشنيع والتمييع؟ والتفريط والتضييع؟
فالضفة الغربية نهبت، والقدس ابتلعت، وحقوق عودة اللاجئين أجهضت، ومعالم الدولة الفلسطينية، نسفت وسحقت.
نحن –إذن- نعيش عصر الجزر العربي، حيث تفتقد الساحة إلى زعيم عربي، شهم حر، أبيّ، يعيد الحق إلى أصحابه، ويسل السيف من جرابه، ويعود إلى دخول القدس الشريف، من أوسع أبوابه.
وما الحيلة؟ وما هي الوسيلة؟ وكيف الخلاص من هذه الرذيلة؟
إن عصر الظلم والظالمين، قد تولى، وإن عهد ذوي الحقوق الصابرين المثابرين هو الذي سيتجلى على أنقاض، الجور، والفساد، فيعمل على إثبات الوجود، وإعادة رفع الخافقات البنود، للعلا في صعود، فالفلسطينيون قبل غيرهم، مدعوون إلى إعادة وحدة الصف والهدف، فهم وحدهم المؤتمنون بالمقاومة على حماية الثغور، وإذاقة الأعداء، الويل والثبور، والاستعداد لمرحلة الفتح والنشور.
والجماهير المسلمة، مطالبة، بتوفير الدعم، للصامدين، وذلك بتقديم الزاد والعتاد، ومقاومة كل أنواع التطبيع والفساد، وإنقاذ الأوطان من كل أشكال الظلم والاستبداد، وعلى العلماء، والعقلاء، والحكماء، القيام بدور التوعية لإنهاض الجماهير الدهماء، حتى تنخرط في معركة الخلاص، والتحرير، والإنماء.
إن “صفعة العصر” هذه، ستكون المعيار الذي به نقيس مدى الالتزام، ومدى عمق الانتماء، فالموقف في “صفقة العصر” للحاكم والمحكوم، هو الذي سيجدد وطنية الملوك والرؤساء، وبقدر الولاء للحق الفلسطيني الثابت، يكون الحكم على أي حاكم عربي في التضحية والابتلاء.
فإذا كان الكيان الصهيوني، يعلن بتبجح على أن إعلان “صفقة القرن” هو بمثابة العيد الوطني لإسرائيل، بعد إعلان ميلاد كيانها الصهيوني عام 1948م، فإننا نقول بأن هذا الحدث، يجب أن يتحول عند العرب والمسلمين، إلى المنبه للضمائر، والمنقذ من الضلال والمجدد للعزائم والإرادات والبشائر.
كما أن على القوة الحية الواعية في وطننا العربي، وأمتنا الإسلامية أن تتجند، بالوعي للقضاء على النزاعات حيثما وجدت، لرأب الصدع، وإعادة اللحمة، وإصلاح ذات البين، فهذه الأنواع من الخلل، هي التي تسلل إلينا منها الأعداء، فلنفوت الفرصة عليهم، ولنرتفع فوق جراحاتنا، ولنتجاوز خلافاتنا ونزاعاتنا، فإذا ضاعت فلسطين، والقدس اليوم فالدور سيكون على مكة والمدينة غدا والبقية تأتي، “فليع إخواننا خطورة الوضع، وليكونوا في مستوى ما تعلقه الأمة من آمال وما تعلنه من طموحات”.
فأيا كان مصير الحرب في اليمن، وفي سوريا وفي ليبيا، فإن الضامن لحل هذه الحروب سينطلق حتما من فلسطين وعاصمتها القدس.
ألا إنني أعلنت وأسررت، اللهم فاشهد إني قد بلغت.