عطاءات الابتلاء!
الشيخ ونيس المبروك
أيها العاقل : تقييمُ النفسِ والناس من حولك، لا يمكن أن يتم ويكتمل في الوضع الطبيعي عند الرخاء، وفي حال السعة قبل الابتلاء ! لأن هذا ضربٌ من ضروب الوهم، وخداعٌ للعين بمرأى السراب
قد تظن في نفسك الشجاعة والكرم، حتى إذا ما جاء وقت التضحية والبذل ، تراجعت وبخلت .
قد تظن في نفسك الصدق والإنصاف ، حتى إذا ما تصادم ذلك مع مصلحة عاجلة، أو حقد قديم، كتمت حقا، وتزيدت في الكلام، وتنكرت لمحاسن الناس .
ما نمارسه في مجتمعاتنا من تلاطف ومجاملات لا يسمى صداقة أو أخوة، هو ذوق تقتضيه ضرورة الاجتماع البشري، أما الصداقةوالإخاء، فهما قيمتان كبيرتان خصهما القرآن بالذكر، والسنة بالبيان ، وهما [دعوى] تفتقر للدليل، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أنظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة"
وقيمة معادن الرجال لا تكّمُن في الجانب اللامع الذي يظهرعلى سطح المعدن، من تعبيرعن بالعواطف المتكلفة والابتسامات الباردة والإطراء الجميل ، فالدرهم يعرف بحكِّه لا بنقشه .
هذا في عالم السلوك المحسوس والمشاهد، أما في عالم الأفكار والأيدلوجيات، فحدث ولا حرج ، إذ أن الامتحان هناك أعمق، وأشد، وأعقد .
كان بعض الصحابة الكرام يعيشون حالة من النشوة والقناعة بأن قلوبهم تشبعت بحب الآخرة والزهد في الدنيا ، حتى جاءهم زلزال الأفكار والعقائد ، واختبرهم الله بلعاعة من الدنيا، فتكشفت لهم حقيقة أنفسهم عارية كما هي النفس البشرية " مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ" قال ابن مسعود رضي الله عنه : والله مااكنا نظن أن فينا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية !
قد يتكلف الرجلُ الشجاعةَ أو الكرمَ أو الحلمَ ، فنبينا صلى الله عليه وسلم يقول : الحلم بالتحلّم " ولكن لا يمكن أن تدعي رسوخ القيم والأفكار بمجرد قراءة كتاب أو مجالسة عالم، أو رفع شعار، لأن كل ذلك طلاء يحسنه كل أحد ، ثم تأتي عواصف المحن لتختبرإيمانك بتلك الفكرة ومدى قناعتك العقلية بها ،وقدرتك على الثبات عليها .
بحسب مطالعتي لأفكار الفرق والمذاهب ، فإني رأيت أن أهل السنة اختاروا أصعب الطرق وأشقّها على الإطلاقُ
ذلك أن الوسطية والاعتدال هي اصعب المسالك على النفس البشرية، لما تحتاجه من علم ، ومواظبة على محاسبة العقل والنفس عند كل منعطف ، أما التشدد و الغلو والتكفير والتفسيق والتبديع ،... فلا يحتاج كثيرَ جهدٍ معرفي أو تربوي، فعدته ومادته هي جهلٌ مركب ،وخلق أرعن ، ولسان سليط ، وميزان مختل .
قال سفيان الثوري : إنما العلم الرخصة من ثقة والشدة ( يجيدها كل أحد )
نحتاج لإحياء فقه الشدة، ووقفات تأمل عند قدومها - أعاذكم الله من كل كرب - لنكتشف ذواتنا كما هي دون قناع ،وبيوتنا دون خداع، ونختبرمن حولنا من الناس دون زيف، وما حولنا من افكاردون حَيف.