الرابط المختصر :
بسم الله الرحمـن الرحيم
دور المصارف الإسلامية في تحقيق الأمن الاقتصادي، وصدِّ تهديداته.
الدكتور أحمد بن محمد الإدريـــسي (عضو الاتحاد)
أستاذ وباحث في المالية والاقتصاد الإسلامي.
مقـدمـة:
يعتبر الأمن الاقتصادي من القضايا التي تشغل اهتمامات دول العالم؛ فهو المنفذ الأساس إلى الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وإلى حفظ التوازنات؛ و يهدف إلى توفير أسباب العيش الكريم ويلبي الضروريات والحاجيات، ويسهم في رفع مستوى الخدمات، وفي خلق فرص العمل، وتحسين ظروف المعيشة.
والمصارف الإسلامية بصيغها الشرعية لها دور فعال في حفظ هذه التوازنات وتحقيق الأمن الاقتصادي، لذاك فقد أخذت مكانها في الاقتصاديات المعاصرة وظهرت إيجابياتها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، خاصة عندما أظهرت عدة دراسات وإحصاءات أن هذه المصارف ساهمت بشكل كبير في الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، وأنه يمكن أن تكون منفذاً للخروج من أزمتي البطالة والفقر اللتين تعصفان بمناطق عديدة بالعالم، فأصبحت كيانا في الاقتصاد العالمي وأساً من أسسه، كما أضحى الاستثمار في المصارف الإسلامية يحظى بأهمية قصوى من قبل الاقتصاديين والمهتمين على جميع المستويات وفي جميع المجالات.
لذا سأتناول البحث في جهود المصارف الإسلامية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يتجلى دورها في تحقيق الأمن الاقتصادي، وفي صدِّ تهديدات الأمن الاقتصادي، وذلك في ثلاثة مباحث، وهي:
المبحث الأول: الأمن الاقتصادي وأثره على الفرد والمجتمع؛
المبحث الثاني: المصارف الإسلامية ودورها في تحقيق الأمن الاقتصادي.
المبحث الثالث: دور المصارف الإسلامية في صدِّ تهديدات الأمن الاقتصادي.
------------------------------------
المبحث الأول: الأمن الاقتصادي وأثره على الفرد والمجتمع؛
أولا: مفهوم الأمن الاقتصادي:
1- مفهوم الأمن:
* الأمن لغة: الأمن والأمان في اللغة مصدران بمعنى الطمأنينة وعدم الخوف؛ جاء في لسان العـرب لابن منظور: (الأمن نقيض الخوف، أمِن فلان يأْمَـن أمْـنا وأمَـنا.)
وفي القاموس المحيط: (الأمْـن والأمِـن كصاحب؛ ضد الخوف)،
وفي معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية: (الأمن في اللغة ضد الخوف، وهو: عدم توقع مكروه في الزمان الآتي، وفسر أيضا بالسلامة، تقول: "أمن فلان الأسد " أي سلم، وأصله: طمأنينة النفس وزوال الخوف).
* الأمن اصطلاحا: هو ضد الخوف، والخوف بالمفهوم الحديث يعني التهديد الشامل، سواء منه الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، الداخلي منه والخارجي، والقرآن الكريم ذكر نعمة الأمن من الخوف بجوار نعمة الإطعام من الجوع في عز من قائل: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ). وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمن وكسب القوت وعافية البدن، فقال عليه السلام: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)
وعموما فإن الأمن في الاصطلاح لا يخرج عن اطمئنان النفس وزوال الخوف.
2- مفهوم الأمن الاقتصادي:
هو شعور الناس بالأمن من توفر حاجتهم المعيشية وقناعتهم وطمأنينتهم بما يصل لهم وهذا يتحصل من خلال قدرة الدولة على تأمين حاجة الناس من جهة، وإشعار الناس بالقناعة بالعدل في توزيع الثروة من جهة أخرى.
وعلى ضوء المفهوم الشامل للأمن، فإنه يعني أيضا تهيئة الظروف المناسبة التي تكفل الحياة المستقرة، ومن هذه الأبعاد البعد الاقتصادي والذي يهدف إلى توفير أسباب العيش الكريم وتلبية الاحتياجات الأساسية، ورفع مستوى الخدمات، و تحسين ظروف المعيشة لأفراد المجتمع، وخلق فرص عمل لمن هو في سن في العمل مع الأخذ بعين الاعتبار تطوير القدرات والمهارات من خلال برامج التعليم والتأهيل والتدريب وفتح المجال لممارسة العمل الحر في إطار التشريعات والقوانين القادرة على مواكبة روح العصر ومتطلبات الحياة .
ويتكون الأمن الاقتصادي من عدة عناصر أهمها: الأمن الغذائي والأمن الصحي والتأمين، والرعاية الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، واستحداث مشاريع تنموية ومشاريع مكافحة الفقر والهشاشة.
ثانيا: أثر الأمن الاقتصادي على الفرد:
إن المتدبر للقرآن الكريم يرى أنه تتحدث عن نوعين من الأمن؛
الأول: الأمن على مستوى الفرد؛ ويتمثل في عامل الأمن النفسي.
والثاني: الأمن على المستوى الجماعي؛ ويتمثل في تحقيق الحماية لحقوق المجتمع.
يظهر الأمن على المستوى الفردي في تحقيق قدر من الطمأنينة والسكينة للفرد، من خلال حمايته من الأخطار التي تهدد حياته أو عرضه أو ماله أو حريته، كما أن الأمن الاقتصادي يجلب وفرة الرزق وكثرة الثروات والرفاه الاجتماعي للأفراد ويؤدي غيابه إلى الخوف والاضطراب الاجتماعي والحروب والمجاعة.
ثالثا: أثر الأمن الاقتصادي على المجتمع:
يتمثل الأمن على المستوى الجماعي في تحقيق الحماية لحقوق الجماعات المختلفة في المجتمع ورعاية مصالحها في المجالات المختلفة وتوفير النظم والمؤسسات التي تخدم هذه الجماعات، فالأمن الاقتصادي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال توفر الأمن للأفراد والجماعات المكونة للمجتمع، وهناك عدد من النظريات تحدثت عن علاقة الأمن الاقتصادي بالحاجات الأساسية للإنسان وهي ما يعرف بنظريات الحاجات الأساسية، يقول ابن خلدون رحمه الله: (اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها نهبها من أيديهم . وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله في جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته،... فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وأذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن الُقطر، وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد ضرورة).
فالإنسان في نظر علماء الاجتماع يبدأ بإشباع الحاجات الطبيعية ثم الحاجات الأمنية التي تليها الحاجات الاجتماعية ثم الحاجات النفسية وأخيراً تحقيق الذات، وحسب نظرية ماسلو فإن إشباع الحاجات الأمنية للإنسان تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، كما أشارت نظرية موري إلى الحاجات الأساسية للإنسان من منظور الدوافع الأساسية التي تحرك الإنسان وحددتها في عدد من الدوافع هي الجوع، والجنس وحب الاستطلاع، وبالتالي فإن هذه النظرية حاولت الربط بين الآثار المترتبة على انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي وأسبابه.
إذن هناك تكامل بين النوعين؛ فـإشباع الحاجات الأساسية على المستوى الفردي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق الأمن الاقتصادي للمجتمع والعكس صحيح في حالة عدم إشباع هذه الحاجات الأساسية فإن الأفراد يصبحون مهدداً اقتصادياً للمجتمع باعتبار إن الإنسان هو الذي يقوم بعمليات الإنتاج والتوزيع والإشراف عليها وهو المحرك الأساس للنشاط الاقتصادي.
المبحث الثاني: المصارف الإسلامية ودورها في تحقيق الأمن الاقتصادي.
أولا: أهمية المصارف الإسلامية في تحقيق التنمية الاقتصادية؛
أدخلت المصارف الإسلامية أسس للتعامل بين المصرف والمتعامل تعتمد علي المشاركة في الأرباح والخسائر بالإضافة إلي المشاركة في الجهد من قبل المصرف والمتعامل، مما يطمئن ويشجع المتعاملين على إيداع أموالهم في البنوك لتنميتها. كما أوجدت المصارف الإسلامية أنظمة للتعامل الاستثماري في جميع القطاعات الاقتصادية وهي صيغ الاستثمار الإسلامية كالمرابحة والمشاركة والمضاربة والاستصناع والتأجير وغيرها من الصيغ البديلة والتي تصلح للاستخدام في كافة الأنشطة.
وأجمل أهمية وجود المصارف الإسلامية فيما يلي :
1- قدرتها على تحقيق العدالة بين طرفي المعاملة، بحيث يحصل كل طرف على حقه، الأمر الذي يشجع على الاستثمار وترويج الأموال واستخدام التمويل المتاح في مشروعات تنموية.
2- أنها تتميز بتقديم مجموعة من الأنشطة لا تقدمها المصارف التقليدية؛ من قبيل تنمية القرض الحسن، والمساهمة في تنظيم صندوق الزكاة؛ جمعا واستثمارا وتوزيعاً، تنظيم الأنشطة الثقافية المصرفية.
3- الالتزام بالصفات الإيجابية التنموية، الاستثمارية، والتكافل الاجتماعي في معاملاتها الاستثمارية والمصرفية، مع ابتكار مجالات لتطبيق فقه المعاملات في الأنشطة المصرفية. إضافة إلى دورها التنموي والمتمثل فيما يلي:
- تحقيق معدل نمو: تنشأ المؤسسات بصفة عامة بهدف الاستمرار وخصوصا المصارف حيث تمثل عماد الاقتصاد لأي دولة, وحتى تستمر المصارف الإسلامية في السوق المصرفية لابد أن تضع في اعتبارها تحقيق معدل نمو , وذلك حتى يمكنها الاستمرار والمنافسة في الأسواق المصرفية .
- تحويل الأموال المجمدة إلى مشاريع ذات جدوى اقتصادية تعود على المجتمع بفوائد عديدة من خلال تمويل قطاع الصناعات الصغيرة الذي يؤدي إلي المساهمة المباشرة في حل مشكلات الاقتصاد وذلك بزيادة الدخل وتقليل معدلات البطالة والمساهمة في تخيف حدة الضغط على ميزان المدفوعات وتنشيط الاستهلاك الكلي المحفز للاستثمار.
- يمثل النظام المصرفي الإسلامي ميكانيكية هامة لجمع وحشد المدخرات الوطنية وتحويلها إلى استثمارات في الآلات والمعدات والأبنية والبنية التحتية والبضائع والخدمات إلى جانب عملها على جذب الاستثمارات الأجنبية وتوجيهها لتمويل المشاريع الأكثر كفاءة وإنتاجية وربحية. وقد ساعد هذا الدور المهم على فصل قرار الادخار عن قرار الاستثمار على المستوى الجزئي.
- تنمية الموارد البشرية: تعد الموارد البشرية العنصر الرئيسي لعملية تحقيق الأرباح في المصارف بصفة عامة، حيث أن الأموال لا تدر عائدا بنفسها دون استثمار، وحتى يحقق المصرف الإسلامي ذلك لابد من توافر العنصر البشري القادر علي استثمار هذه الأموال، ولابد أن تتوافر لديه الخبرة المصرفية ولا يتأتي ذلك إلا من خلال العمل علي تنمية مهارات أداء العنصر البشري بالمصارف الإسلامية عن طريق التدريب للوصول إلي أفضل مستوي أداء في العمل .
- تحويل الاستحقاق، حيث يتم تحويل ودائع العملاء قصيرة الأجل إلى قروض طويلة الأجل، موفقة بذلك بين رغبات المدخرين في حق سحب ودائعهم عند الحاجة إليها، ورغبات المقترضين في أن يحصلوا على قروض تتزامن مواعيد ردها ومواعيد تحقق العوائد من المشروع الممول.
- تسعير المنتجات المصرفية: تلعب المصارف دورا أكثر مسؤولية وأهمية في مجالات الإصـلاح والتحول الاقتصادي، ويشمل ذلك التسعير الدقيق للمنتجات المصرفية والتوسع في منح القروض طويلة الأجل.
- جلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة: وهو من العوامل الهامة في تحقيق التنمية الاقتصادية. ولا شك في أن عدم وجود نظام مصرفي متطور يؤدي إلى تردد تلك الاستثمارات في الدخول والمشاركة في النشاط الاقتصادي، حيث أن من أهم شروط نجاح هذه الاستثمارات وجود جهاز مصرفي قادر على التعامل بكل كفاءة مع احتياجاتها، سواء تلك المتعلقة بالاقتراض بأنواعه المختلفة أو تلك المتعلقة بعلاقاتها الخارجية.
ثانيا: دور المصارف الإسلامية في تحقيق الأمن الاقتصادي.
يعطي المجتمع الدولي اليوم اهتماماً متزايداً لموضوع الأمن الاقتصادي، لكثرة المشكلات والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية التي تحدث في أماكن متفرقة من العالم، خاصة تلك الأزمات التي تتخطى الحدود الوطنية إلى الإقليمية والدولية، التي تتطلب حلولاً على المستوى العالمي، كما توجد مناطق كثيرة في العالم تعاني من ندرة الموارد والغذاء أو انعدامه مما يتطلب ذلك اتخاذ التدابير المناسبة اقتصادياً لتأمين الحاجات الأساسية لحياة البشرية واستقرارها.
وأكدت عدة دراسات إلى أن التمويل الإسلامي مثل آلية للتعافي من الأزمة الاقتصادية العالمية، وأنه يمكن أن يكون وسيلة فعّالة للخروج العديد من الأزمات كالبطالة والفقر والهجرة التي تعاني منها العديد من مناطق بالعالم. وتتجلى أهمية آليات التمويل الإسلامي، في قدرتها على تحقيق العدالة بين طرفي المعاملة، بحيث يحصل كل طرف على حقه، الأمر الذي يشجع على الاستثمار وترويج الأموال واستخدام التمويل المتاح في مشروعات تنموية حقيقية تفيد المجتمع، كل ذلك يؤدي إلى تحقيق الاستقرار، والأمن الاقتصادي.
ولأن المصارف الإسلامية تعمل وفق النظرة الإسلامية لرأس المال لذلك تستطيع أن تحقق الأمن الاقتصادي، وأن تراعي مستويات المعيشة والمتغيرات، يقول الدكتور منصور التركي: (ومن مزايا النظرية الإسلامية لرأس المال أنها أكثر واقعية لأن إنتاجية رأس المال المعرضة للتغيير ترتبط فيها بواقع الإنتاج، الذي يفترض بأنه متحرك في الإطار الديناميكي للنمو ومراعاة جميع المتغيرات المؤثرة للسكان وعاداتهم وأذواقهم، ومستويات معيشتهم والاختراعات).
ومما يبعث على الاطمئنان والأمان على المال والنفس؛ أن المصارف الإسلامية تسعي لإيجاد الصيغ الشرعية، وتعمل على ابتكار وتطوير الخدمات المصرفية لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وتقديم العديد من التسهيلات للعملاء و"تعمل البنوك الإسلامية بشكل مستمر على استحداث أدوات مصرفية إسلامية جديدة سواء في مجالات الموارد والودائع أو مجالات التوظيف والائتمان أو الاستثمار وبالشكل الذي يغطي احتياجات الأفراد و يتوافق مع متطلبات ومتغيرات العصر". ولكي تؤدي المصارف الإسلامية دورها هذا لابد من مساعدتها على تخطيط السياسة المالية من أجل تحقيق الأمن الاقتصادي الذي تطمح إليه؛ يقول الدكتور سيد شوربحي عبد المولى: )كما لتخطيط السياسة المالية دور في الحد من مشكلة التهريب الضريبي والقضاء على البطالة وحسن استخدام وتوجيه الإنفاق العام ومعالجة مشكل الفقر.)
وأمر مهم يجلب الأمن والاستقرار هو البركة؛ فإذا كانت المعاملات المصرفية على أساس التقوى والتكافل، فإن الله تعالى وعد بالبركة في الرزق والأمن والأمان ، قال عز وجل: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". كما أن المودعين أحسوا بالأمن والأمان الذي توفره هذه المصارف.
المبحث الثالث: دور المصارف الإسلامية في صدِّ تهديدات الأمن الاقتصادي.
أولا: مهددات الأمن الاقتصادي.
عند تناول العوامل والأسباب والمتغيرات التي تؤدي إلى انعدام الأمن بصورة عامة والأمن الاقتصادي بصورة خاصة، لابد من الحديث عن علاقة الأمن الاقتصادي بالاستقرار الاجتماعي، لأن الاستقرار بمعناه الاقتصادي والأمني والسياسي، من أهم متطلبات البيئة المواتية التي تهدف تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، بل تعتبر بيئة الاستقرار شرطاً أساسياً لإحداث أي تحول اقتصادي أو اجتماعي.
ويمكن تلخيص تهديدات الأمن الاقتصادي فيما يلي:
1- الفقر: يمثل الفقر الخطر الأكبر للمجتمعات المعاصرة وذلك لأنه هو أحد مهددات الأمن الاقتصادي، وبانتشار الفقراء في المجتمع ينحرف سلوك الفرد؛ فتكثر الجرائم والسرقات وتنتشر الأمراض وسوء التغذية، يقول الدكتور روضة محمد بن ياسين في هذا الصدد: (قد يكون للحالة الاقتصادية التي تكتنف الفرد أثر بليغ في انحراف سلوكه، فقد أدرك الإسلام طبيعة الفقر وعلاقته بالانحراف السلوكي، فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر"، وكان أيضا يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أَظلم أو أُظلم"). لذلك ينظر لمشاريع مكافحة الفقر وكفاءتها في التدخل، بأنها عامل أساسي في تحقيق الأمن الاقتصادي، بل الأمن الشامل في المجتمع.
2- البطالة: يعتبر العمل مصدراً أساسياً في إشباع الحاجات الأساسية للإنسان ويعمل على تحويل الإنسان من حالة الفقر والجوع والخوف إلى حالة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، كما أنه هو الوسيلة والمدخل الفاعل في تحقيق القوة الاقتصادية والأمن الاقتصادي، ولذلك ينظر للمجتمع الذي تسود فيه معدلات مرتفعة من البطالة وغير الناشطين اقتصادياً بأنه مجتمع فقير أو غير نامي أو متأخر، أو غير منتج. كما أن ارتفاع معدلات السكان الناشطين اقتصادياً يعكس الوضع الاقتصادي للدولة المعينة ويعكس مدى قدرتها في تحقيق الأمن الاقتصادي.
3- انخفاض متوسط دخل الفرد: يعرف بأنه المستوى من الدخل في الدولة ما اللازم لضمان أدنى متطلبات الحياة للفرد ويختلف باختلاف دخل الدولة، ويلاحظ وجود شرائح كبيرة من المجتمع في عدد من الدول تعيش تحت خط الفقر.
إن عدم تساوى في الدخول بين أفراد المجتمع يعنى وجود طبقية اجتماعية تتركز بيدها معظم الثروة والسلطة وتهميش الطبقات الأخرى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، أي انعدام العدالة الاجتماعية، مما يؤدى إلى انتشار البطالة وعدم استقرار المجتمع سياسيا واجتماعيا لوجود صراع طبقي فيه من ناحية ومن ناحية أخرى سيؤدى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي إلى فقد الثقة في الاقتصاد الداخلي للدولة على حماية الاستثمارات.
4- نقص التمويل والتوزيع غير المتوازن له يعد من أهم أسباب انعدام الأمن الاقتصادي:
إن التوزيع غير المتوازن و نقص التمويل عند فئة عريضة من المجتمع يسبب في انعدام الأمن الاقتصادي، ومن أهم أسبابه تخوفهم من التعاملات الربوية، فالتعامل بالفائدة يهدد المدين، ويلحق به الضرر خاصة إذا لم يستطع سداد دينه في الأجل المحدد كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "ويعلو الدَّين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا.".
5- الهجرة والنزوح: يؤدي عدم الاستقرار الاجتماعي والصراعات والتدهور التنموي إلى إحداث الهجرات واللجوء والنزوح في المجتمع وربما أن هذه المتغيرات المذكورة تظهر نتيجة لغياب التوازن التنموي والعدالة في توزيع الثروات والخدمات . ولذلك فإن "غياب العدل يقتضي غياب الأمن، فإذا ساد الظلم سادت الفتنة وعمت الاضطرابات وزاد الخوف سواء كان ذلك خوف الأفراد من بعضهم البعض أو خوف الناس من ولاة الأمر"، والهجرة والنزوح واللجوء تعتبر آثار واضحة لانعدام الأمن الاقتصادي في المجتمع تؤدي إلى نتائج مخيمة، ومن أهمها:
* تفشي الجرائم الدخيلة على المجتمع .
* العمل السلبي للمنظمات الذي يشمل التنصير وتهديد الهوية .
* تفشي البطالة وسط الشباب والمتعلمين مما يدفعهم للانخراط في التمرد وفي أعمال النهب.
* أدى الانفراط الأمني واختلاله إلى زيادة الأسعار وانفراط النسيج الاجتماعي.
وكل ذلك له علاقة بعدم توفر الأمن الاقتصادي والطمأنينة وإشباع الحاجات الأساسية للإنسان.
6- سوء التدبير وضعف التخطيط: يؤدي التخطيط غير المعقلن وسوء التدبير الاستراتيجي إلى الاضطراب في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ويسبب في التراجع على جميع المستويات، وإلى فقدان ثقة المستثمرين بصلابة القرارات الاقتصادية وابتعاده عن المباشرة بأي أعمال استثمارية ذات طابع طويل الأجل.
7- التفكك الأسري وغياب الرعاية الاجتماعية: باعتبار الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع وهي مصدر القوى البشرية التي تحرك التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإنه تترتب على التفكك الأسري آثاراً خطيرة على الأسرة والمجتمع، وأهمها انعدام الأمن الاقتصادي واختلال السلوك في الأسرة وانهيار الوحدة الأسرية وانحلال بناء الأدوار الاجتماعية لأفراد الأسرة وهو ما يعرف بمفهوم التفكك الأسري، الذي يرجع لعدة أسباب أهمها الفقر والبطالة والهجر والطلاق، وغيرها.
كما يؤدي غياب الرعاية الاجتماعية للفئات الضعيفة في المجتمع وهم؛ الأطفال والعجزة والمعاقون والمسنون والنساء والأرامل والمطلقات والمرضى وغيرهم، إلى اضطراب الاجتماعي، وارتفاع حالات سوء التغذية وارتفاع معدلات الوفيات خاصة لدى الأطفال والنساء والعجزة.
ثانيا: دور المصارف الإسلامية في صدِّ تهديدات الأمن الاقتصادي.
رأينا في الفقرة السابقة المهددات الأساسة للأمن الاقتصادي، وأثرها السلبي على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وسنرى في هذه الفقرة كيف يمكن للمصارف الإسلامية أن تساهم في مواجهة هذه التهديدات، وإيجاد حلول عملية لتجازها.
- بالنسبة للفقر: لقد نصت البنوك الإسلامية قوانيـنها التأسيسية على تحقيق التنمية الاجتماعية، وما يتضمنه ذلك من مكافحة الفقر والبطالة؛ فمثلا جاء في النظام الأساسي للبنك الإسلامي للتنمية أن هدفه هو دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية مجتمعة ومنفردة وفقا لأحكام الشريعة.
كما أنها تعمل على إعداد وإنجاز دراسات ذات جدوى لإقامة مشروعات صغيرة مجمعة تحل محل الواردات، وتنمي الصادرات مع تنفيذ البنوك الإسلامية لتلك المشروعات، وتوفير ما تحتاجه من أصول إنتاجية، وتمليكها للفقراء الذين تستقدمهم للعمل في هذه المشروعات.
- بالنسبة للبطالة: إن الفئات القادرة على العمل والباحثة عنه في حاجة ماسة للأمن بشكل عام، والأمن الاقتصادي بشكل خاص، ويتحقق لهم ذلك من خلال الحصول على التمويل بالصيغ الإسلامية وبدأ الأنشطة الاقتصادية مما يعنى التخلص من مشكلة البطالة من جهة والحصول على دخل مما يعنى انحسار الفقر. وينبغي أن نعي أن قطاع التمويل الإسلامي هو وسيلة لمزاولة الأعمال بما يتوافق مع أحكام الشريعة، فهو بديل أخلاقي للاستثمار يتمتع بالنزاهة، والمسؤولية الاجتماعية، أضف إلى ذلك أنها وسيلة تساهم في تنويع محافظ المستثمرين، الشيء الذي يجعلهم يطمئنون أكثر على أموالهم، ويدفعهم لتنويع الاستثمارات.
- المساهمة في استقرار متوسط دخل الفرد: تعمد المصارف الإسلامية إلى استقرار وتحسين دخل الفرد عن طريق استثمار الأموال في الصالح العام؛ "مما يترب عليه كثرة الإنتاج، وبذلك تقـلّ نسبة البطالة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتحقق لدينا زيادة دخل الفرد فيعود ذلك على ارتفاع نسبة الأموال في مورد الزكاة، فضلا عن أن عقيدة الفرد الإسلامية تزيد تقواه وتجعله حريصا على ذل القربات، وذلك عن طريق الصدقات".
- معالجة نقص التمويل والتوزيع غير المتوازن؛ تنطلق البنوك الإسلامية من فلسفة أن المال ينبغي أن يفعل دوره في توفير الكفاية لجميع أفراد المجتمع انطلاقاً من قوله تعالى: "كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ"، ومن هنا ذهب الأصوليون إلى أن من مقاصد الشريعة الإسلامية في المال أن يدور بين أكثر عدد ممكن من الأيدي بوجه حق حتى يعم نفعه للجميع. والمصارف الإسلامية بديل أخلاقي للاستثمار يتمتع بالنزاهة، والمسؤولية الاجتماعية، وهي مؤسسات مالية ومصرفية لتجميع الأموال وتوظيفها بما يخدم بناء مجتمع التكافل الإسلامي وتحقيق عدالة التوزيع، ومن أهم أهدافها؛ "تحريك الطاقات الكامنة في المجتمع للوصول بها إلى أقصى إنتاجية ممكنة، بما يكفل التغير المنشود في الشرع، ولاشك أن تحريك الطاقات الكامنة في المجتمع أيا كان نوعها، وسواء كانت بشرية أو مادية أو غيرها، فإنه نوع من التغيير في المجتمع الذي تنشده البنوك الإسلامية كهدف من أهداف الشرع الإسلامي".
فنقص التمويل والتوزيع غير المتوازن من أهم أسباب انعدام الأمن الاقتصادي، لذلك فإنها تعمل على إعادة توزيع الدخول بين إفراد المجتمع مما يسهم في تقدم المجتمع ودعم قدرته الاقتصادية كما يقول الدكتور سيد شوربحي عبد المولى: )إن تقدم المجتمعات ودعم قدرتها الاقتصادية لا يعود كافيا إلا إذا اقترن بعدالة توزيع الدخول بين إفراد المجتمع ضماناً للاستقرار الاجتماعي وحمايةً لمكتسبات التنمية، وحتى يمكن استمرار جهود التنمية).
- بالنسبة للهجرة والنزوح: من أهم أسباب النزوح والهجرة من الأرياف ضعف التمويل الفلاحي والزراعي اللازمين للاستقرار في الريف، وفي ظل أحكام الشريعة الإسلامية يمكن للبنوك الإسلامية عموما وبنوك التنمية الزراعية خاصة مزاولة نشاطها التمويلي من خلال استخدام الصيغ الإسلامية المعروف كاستخدام نظام المرابحة بدلاً من نظام الفائدة المحرمة.
- توفير شبكات الأمان الاجتماعي: تساهم هذه المصارف في علاج مشكل التـفكك الأسري، وتوفير الأمن الاجتماعي للأفراد من خلال التخفيف من حدة الفقر الذي يؤدي إلى تشرد الأبناء أو مزاولتهم التسول في ضوء الحاجة المــادية أو العمل في سـن مبكــرة في أمـاكن خطرة، كالبيع بين السيارات وعند الإشـارات الضــوئية، أو في المدن الصناعية التي قد تستغل حداثة سنهم فيقعون في فخ الانحراف الاجتماعي، هذا فضلاً عن حرمانهم من فرصة التعليم.
- معالجة سوء التخطيط: يعمل قطاع التمويل الإسلامي بمختلف صيغه على معالجة سوء التخطيط، فهو يضبط. الخطط المستقبلية، لاستعادة ثقة المستثمرين، ولمعالجة المشاكل الناجمة عن سوء التدبير وضعف التخطيط؛ إذ "يساهم التخطيط في مكافحة جرائم النمو الاقتصادي حيث في الإمكان تخطيط السكان والهجرة والقوة العاملة، وتخطيط القطاع النقدي والمصرفي للقضاء على ظاهرة تقلبات القوة الشرائية والحد من التسهيلات الائتمانية وتهريب الأموال للخارج).
أما بالنسبة للفئات العاجزة عن العمل وهم العجزة، والمعاقون، والأطفال، والأشخاص الذين يعانون من وطأة الفقر المدقع، والعاطلون عن العمل بسبب من الأسباب الخارجة عن إرادتهم، فقد حث الإسلام جميع أفراد المجتمع على التعاون والتكافل معهم، لذلك أنشئت المؤسسات الاجتماعية التكافلية، والمصارف الإسلامية تساهم بدورها في تمويل مشروعات الرعاية الصحية والاجتماعية، وزيادة الوعي الادخاري لدى أفراد المجتمع، من خلال سهولة الوصول إلى الأوعية والأدوات الادخارية، والمساهمة في التأهيل العلمي والقضاء على الأمية، وزيادة الوعي المصرفي لأبناء المجتمع.
خــاتمـة:
الإسلام دين شامل لنواحي الحياة المختلفة، لذلك فهو يشمل نظاماً اقتصادياً فريداً يجمع بين الأمن الاقتصادي والضمان الاجتماعي في سياق متكامل، ورأينا أوضح مثال على ذلك ألا وهو المصارف الإسلامية التي تحقق هدفاً مزدوجاً يتجلى في تحقيق الأرباح، وفي توفير الأمن الاقتصادي للمجتمع. ولكي تمكن المصارف الإسلامية من الحافظ على وجودها بكفاءة وفعالية في السوق المصرفية لابد لها من مواكبة التطور المصرفي ولذلك فإنها تسعى إلى ابتكار صيغ للتمويل حتى يستطيع المصرف الإسلامي مواجهة المنافسة في اجتذاب المستثمرين، والاستمرار في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والأمن الاقتصادي.
ثم إن التطورات الاقتصادية والاجتماعية، تفرض على البنوك الإسلامية تحديات جديدة، لتحقيق الأمن الاقتصادي وعليها أن تواجه هذه التحديات بإرادة تجديدية وبوعي شامل، دون التخلي عن أصولها الفقهية والأخلاقية. كما نؤكد على ضرورة تبني البنوك الإسلامية منظومة متنوعة وشاملة من البرامج الاجتماعية في إطار إستراتيجية تؤسس وتعمق ثقافة المسؤولية الاجتماعية تتواكب وقضايا واحتياجات المجتمع وأفراده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.