نبي الله يونس ودعاؤه في تفريج الكروب: دروس وعبر
بقلم: أبو نوفل حسن يشو (عضو الاتحاد)
انطلاقا من قوله تعالى:
(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87- 88].
د. حسن يشو –لطف الله به-
لله در الشاعر أبي إسحاق إبراهيم بن مسعود الإلبيري الأندلسي قوله:
وسلْ من ربِّك التوفيقَ فيها *** وأخلِص في السؤال إذا سألتَ
ونادِ إذا سجدتَ له اعترافًا *** بما ناداه ذو النُّون بن متَّى
ولازِم بابَه قرعًا عساهُ*** سيفتَحُ بابَه لك إن قرعتَ
وأكثِر ذكرَه في الأرض دأبًا*** لتُذكَر في السماء إذا ذكرتَ
تمهيد:
إن حالة الوباء التي سيطرت على الاهتمام العالمي؛ جعلت الناس يعيشون في غمّة لا نظير لها يوما بعد يوم وخصوصا عند تمديد الحظر ومدة الحجر المنزلي فبات الإنسان عالميا يعيش في كهف لا عهد له به؛ فانفجرت طاقات، ومواهب، وعواطف، واكتأب الذين زاد عندهم إفرازُ هرمون الخوف والهلع؛ وبات الحل أن يلجأ العبد الفقير إلى مولاه جل في علاه، وأن يستمد منه القوة النفسية، والمدد الروحي، حتى يرفع الله عنا وعن أمتنا هذا الوباء والبلاء؛ فعشنا جميعًا في كروب تترى متلاحقة بسبب هذا الفيروس كورونا كوفيد 19، وقد تذكرت قصة سيدنا يونس بن متى؛ حين التقمه الحوت وعاش في ظلمات ثلاث، فكان مفتاحُ فرجه مناداته: (أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ففرج الله عنه غمته، وكشف ظلمته، ورفع عنه هذا الضيق والضنك، وخلّد قصته في القرآن الكريم، وكذا كربته، ودعاءه الذي لم يكن مقصورا عليه، بل ما زال ساري المفعول لكل إنسان مغبون، أو عبد مقهور، أو مضطر مظلوم، حين يتخبط في ظلمات وعتمات، فلا بد أن يلوذ بهذا الدعاء الذي يقلل من شأن الدنيا، ويوحد الله سبحانه، ويجعل الإنسان عبدا فقيرا ضعيفا، معترفا بذنوبه، يبوء بها ويستغفر ويرجو النجاة والخلاص؛ كل ذلك حملني على أن أحمل يراعي لأختط كلمات بين يدي مناداة ذي النون عليه السلام في الظلمات وقد جاءه الفرج وإجابة الدعاء دون تأخير، والله من وراء القصد!
وظيفة القصص القرآني:
إن كل ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأنبياء والأمم الغابرة هو من أجمل القصص وأوثقه على الإطلاق؛ قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف: 3].
وإن المقصد من سوقها هو القصد إلى التفكر فيها؛ حيث إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس ما أوحي إليه؛ من أجل التفكر؛ فقال سبحانه: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176].
ثم إن من مقاصد القرآن الكريم توضيح الحقائق وإزالة الشبه التي اختلفت فيها الأولون، وتضاربت فيها الروايات الإسرائيلية والأساطير، واكتفى القرآن بما يصلح للناس ولم يخض في التفاصيل؛ قال تعالى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل 76].
والأساس في هذا كله هو الالتفات إلى الدروس والعبر والعظات فيها؛ قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
هذا وإن القصص في كتاب الله تعالى يحقق تثبيت القلوب وطمأنتها وانشراحها؛ وكان بعض السلف إذا كلت أنفس طلابها قطع الدرس وأخذ في الحكاية عن الأنبياء والأولياء والصلحاء؛ لقوله تعالى: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
وقلبي يلهج بما درج عليه العارفون بالله: "بذكر الصالحين تتنزل الرحمات" فما بالك بالأنبياء!؟
صورة المشهد بإجمال:
هي قصة رحلة نبي الله يونس بن متى في دعوته مع قومه الذين كانوا مشركين؛ فعاندوا وأنكروا عليه التوحيد، فتوعدهم بعذاب من الله، فلم يبالوا؛ ولما اقترب أجل الوعيد وبدت علامات العذاب؛ خرج ولم يصبر على حالهم، وبدأت رحلته التي لم يتوقعها في السفينة، ومنها على متن بطن الحوت، إلى أن كتب الله أن يلقى على الشاطئ بسلام، وهيأ له المكان بمواصفات عجيبة وهو سقيم، كل ذلك بسبب ذكره الخارق (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فاستجاب له ربه وفرج عنه الكربة التي ألمّت به، وأضاء له في الظلمات التي أسدلت خيوطها عليه؛ ليعود إلى قومه فوجدهم قد آمنوا لما رأوا العذاب رأي العين ينزل أو أوشك على النزول فهرعوا إلى الله في غيبة نبيهم وجأروا إليه بالدعاء وتضرعوا ففرج الله عنهم؛ لأنها حالة اضطرار أخلصوا فيها فاستجاب لهم!
فضل يونس بن متى:
- ذكر الله سيدنا يونس بن متى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم نوردها تباعا.
- وقد أفرد الله سورة من سور القرآن باسم يونس.
- روى أبو هريرة قال: قالَ يهوديٌّ في سوقِ المدينةِ، لا والَّذي اصطَفى موسَى على البشَرِ قال فرفعَ رجلٌ منَ الأنصارِ يدَهُ فصكَّ بِها وجهَهُ، قالَ: تقولُ هذا وفينا نبيُّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، فأَكونُ أوَّلَ من رفعَ رأسَهُ، فإذا موسَى آخذٌ بقائمةٍ مِن قوائمِ العَرشِ، فلا أدري أرفعَ رأسَهُ قبلي، أم كانَ مِمَّنِ استَثنى اللَّهُ، ومَن قالَ: أَنا خيرٌ من يونسَ بنِ متَّى فقد كذَبَ"[1].
- وروى عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى. وَنَسَبَهُ إلى أَبِيهِ، وَذَكَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ به، فَقالَ: مُوسَى آدَمُ، طُوَالٌ، كَأنَّهُ مِن رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَقالَ: عِيسَى جَعْدٌ مَرْبُوعٌ وَذَكَرَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَذَكَرَ الدَّجَّالَ"[2].
هل فعلا يونس أفضل من خاتم المرسلين؟
وفاقا للأحاديث التي أسلفت ذكرها يتبادر إلى الذهن أن النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يقال إنه خير وأفضل من يونس بن متى! وهذا كان محل توجيه لدى بعض العلماء على رأسهم الإمام النووي حيث قال: "قال العلماء: هذه الأحاديث تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: "أنا سيد ولد آدم"[3]، ولم يقل هنا: إن يونس أفضل منه، أو من غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرًا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حطِّ مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته، قال العلماء: وما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من النبوة مثقال ذرة"[4].
حال قوم يونس:
إنّه يونس بن متّى، الذي يتصل نسبه بنسل بنيامين شقيق يوسف عليه السلام، بُعث يونس عليه السلام إلى نينوى –وهي في محافظة الموصل بالعراق، والتي تقع على نهر دجلة أو قريبا منه- إلى قومٍ انتشر الشرك بينهم؛ فكانوا يعبدون الأصنام، فأوحى إليهم سيدنا يونس وأرشدهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، إلا أنّهم كذّبوه، وكفروا برسالته، وأصرّوا على عبادة أصنامهم وأوثانهم، وكان من بينها صنم أكبر يُدعى: "عشتار"، وقد قيل: إنّ دعوة يونس عليه السلام لقومه استمرت ثلاثًا وثلاثين سنة، إلّا أنّه لم يؤمن معه سوى رجلين؛ ولذلك شعر يونس عليه السلام باليأس من قومه، فتركهم وخرج من بلدتهم؛ لتبدأ رحلة أخرى.
سبب خروج يونس بن متى:
خرج يونس عليه السلام من نينوى، وظنّ أنّ الله تعالى لن يؤاخذه بهذا الخروج؛ لأنّه قدّم كلّ ما عليه في سبيل دعوة قومه، ولم يستجب أحد، وحين خرج بدأ يحلّ على قومه بوادر العذاب الذي توعّدهم به في الأيام المعلومة، فهلّت السُّحب السوداء، وغشيهم دخانها، واسودّت سطوحهم، فأيقن القوم أنّ عذاب الله تعالى آتٍ لا مفرّ منه، فخافوا ووجِلوا، وبحثوا عن يونس عليه السلام؛ ليهديهم طريقة التوبة والإنابة فلم يجدوه، فأتوا رجلًا شيخًا فسألوه عمّا يجب فعله، فأرشدهم إلى طريق التوبة إلى الله تعالى، فجمعوا كبيرهم وصغيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وحيواناتهم جميعًا، ثمّ جعلوا على رؤوسهم الرماد، ولبسوا المسوح من اللباس؛ تواضعًا لله سبحانه، ثمّ أقبلوا عليه في هذا الحال في مشهدٍ عظيمٍ، ضارعين له أن يصرف عنهم العذاب، ويتوب عليهم، فتاب الله تعالى عليهم، وقبل إيمانهم بعد كلّ هذا الكفر والعِناد، ولم يشهد يونس عليه السلام هذا الحال منهم.
لماذا سمي ذا النون؟
النون في اللغة هو الحوت، سمي به سيدنا يونس بن متى لابتلاع الحوت له؛ فقوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا..) أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو: يونس، أي: صاحب النون، وهي الحوت.
وقوله: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا..) ورد بالذكر الجميل، والثناء الحسن، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم، فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم[5].
ويسمى عند أهل الكتاب: "يونان بن أمتاي". قالوا: ويونس عليه السلام من بني إسرائيل، ويتصل نسبه بـ (بنيامين).
يونس نسب إلى أمه:
يعرف سيدنا نبي الله بيونس بن متّى؛ وقد ذكر ابن الأثير وغيره: أن: "مَتَّى" اسم والدته، وأن الأنبياء لم ينسب أحد منهم لأمه إلا يونس وعيسى ابن مريم.
مواضعها من القرآن الكريم:
أولا: من سورة النساء:
قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [النساء: 163].
والنص القرآني هنا اكتفى بذكر يونس عليه السلام ضمن سلسلة من الأنبياء والرسل الموحى إليهم؛ وقد سيق (يونس) بين نبي الله أيوب، ونبي الله هارون.
ثانيا: من سورة الأنعام:
قال تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 85].
وها هنا ذكره الله تعالى ضمن باقة الأنبياء والمرسلين عموما؛ وقد جعله رب العزة بين نبي الله اليسع ونبي الله لوط، وبين سبحانه أنه ضمن من فضل الله على العالمين.
وتأمل السياق والسباق واللحاق في النص القرآني الجليل الذي ورد فيه ذكر سيدنا يونس عليه السلام؛ قال سبحانه: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ) [الأنعام: 83- 90].
ثالثا: من سورة القلم:
قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم: 48- 50].
الخطاب ها هنا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، على أن يصبر على قومه، ويتحمل أذاهم، ويكابد المعاناة معهم، ويستمر على دعوتهم، وتصحيح مفاهيمهم، فهو يدعوهم إلى التوحيد وهم يشركون، ويدعوهم إلى العدل وهم يظلمون، ويدعوهم إلى نصرة الحق وهو في غيهم يعمهون، فاصبر يا محمد الصبر الجميل، فإن الله لا محالة سيحكم لك عليهم، إن عاجلا أم آجلا، وستكون العاقبة للتقوى وللمؤمنين، لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي: لما حكم به شرعًا وقدرًا، فالحكم القدري، يصبر على المؤذي منه، ولا يتلقى بالسخط والجزع، والحكم الشرعي، يقابل بالقبول والتسليم، والانقياد التام لأمره[6].
ولا تكن يا محمد كصاحب الحوت ذي النون يونس بن متى، ولا تشابهه في الحال، التي أوصلته، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه الصبر المطلوب منه إذ ذهب مغاضبا، ولم يصبر حتى يؤذن له؛ ووقع له ما وقع في أعماق البحر؛ (إذ نادى وهو مكظوم) أي وهو في بطنها قد كظمت عليه، وهو مغموم ومكروب ومهموم؛ فقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فاستجاب الله له، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو سقيم، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين. (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ) أي: لطرح في العراء، وهي الأرض الخالية (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ولكن الله تغمده برحمته فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى.
رابعا: من سورة الصافات:
قال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) [الصافات: [139- 147].
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)
وهذا ثناء منه تعالى، على عبده ورسوله، يونس بن متى، كما أثنى على إخوانه المرسلين من قبل، بالنبوة والرسالة، والدعوة إلى اللّه، وذكر تعالى عنه أنه ابتلاه ابتلاء دنيويا، ثم أنجاه منها بسبب إيمانه وأعماله الصالحة.
لماذا لم يذكر الله ذنبه؟
ولم يذكر اللّه ما غاضب عليه، ولا ذنبه الذي ارتكبه؛ لعدم فائدتنا بذكره، وإنما فائدتنا بما ذُكِّرنا عنه أنه أذنب، وعاقبه اللّه مع كونه من الرسل الكرام، وأنه نجاه بعد ذلك، وأزال عنه الملام، وقيض له ما هو سبب صلاحه[7].
حسنات الأبرار سيئات المقربين:
يقول العارفون بالله: "إن حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ فتأمل فرار سيدنا يونس عليه السلام من قريته التي كذبته وجحدت دعوته ورسالته، وعاندت في كفرها وشركها؛ نقول: هب لو صدر هذا التصرف من أي إنسان صالح غير نبي الله يونس؛ لكان ذلك منه حسنة يثاب عليها؛ فهو –حينئذ- يكون قد فر بدينه من قوم أعداء ومجرمين.
ولكن الأمر حين يتعلق بنبي الله يونس بن متى الذي أناط الله بعنقه رسالته يبلغها ويصبر على تبليغها، ولا يعبأ بمن عارض واستنكف وليراهن على الأجيال المقبلة؛ فلعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله ولا يشرك به شيئا، فليس عليه إلا البلاغ!
ولما كان خروج سيدنا يونس من القرية؛ فهو في ميزان الأنبياء أمر يستوجب تعليم الله تعالى له ومعاتبته وتمحيصه وعقابه.
(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي من المُصَلِّينَ لله قبل البلاء الذي ابتُلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت، وكان طويل الصلاة في الرّخاء، وكان له عمل صالح فيما خلا أي في خلواته وأيامه السابقة في الرخاء، وقيل: كان ذلك تسبيحا لا صلاة.
كما أن تسبيحه أو صلواته كانت من قبل، كانت أيام الشدة والمحنة في بطن الحوت.
(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي: لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، يوم يبعث الله فيه خلقه محبوسا، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجَّاه.
آهٍ بما يفعله التسبيح والمناجاة بصاحبه حتى وإن كان في عنق الزجاجة يختنق؛ لولا عظمة التسبيح لكان بطن الحوت مقبرته، ولكن ولله الحمد والمنة؛ بسبب تسبيحه وعبادته للّه، نجاه اللّه تعالى، وكذلك ينجي اللّه المؤمنين، عند وقوعهم في الشدائد.
معنى لطيف:
وهنا معنى لطيف للعبرة؛ حيث إن الله نجاه بسبب تسبيحه وقربه من مولاه؛ فمن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة؛ كان عليه السلام كثير الصَّلاةِ في الرّخاء، فنجَّاه الله بذلك؛ ويشهد له:
- قال الحبيب: "تَعَرفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"[8].
- وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك"[9].
- وفي الحكمة: "إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عَثَر، فإذا صُرع وجد متكئا".
علاوة على أن التسبيح في زمن الفتن والشدائد والجوائح، والكروب يكون سببًا للفرج والخلاص.
كم لبث يونس في بطن الحوت؟
سؤال طرحه المفسرون، والمترجمون لحياة سيدنا يونس في قصص الأنبياء، وفي الإسرائيليات؛ غير أن ملخص الأقوال؛ إن الله أوحى للحوت أن لا يخدش ليونس لحمًا ولا يكسر له عظمًا؛ واختلفوا في مدة بقاء يونس في بطن الحوت، فمنهم من قال إن الحوت التقمه عند الضحى، وأخرجه عند العشاء. ومنهم من قال إنه لبث في بطنه ثلاثة أيام، ومنهم من قال سبعة، ومنهم من قال أربعين ليلة.. إلخ.
لكن لو كانت فيه فائدة لذكرها الله عز وجل، أو بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي لا فائدة من المدة؛ فنمسك عنها إلى أغراض القصة الهادفة والتي نحللها في هذا البحث.
هل الحوت الذي التقم يونس ما زال حيًّا؟
زعم بعض الناس بأن الحوت الذي التقم سيدنا يونس عليه السلام لا يزال حيا؛ لقوله تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؛ وهذا الاستدلال في غير محله؛ لوجوه:
- لا علاقة لهذا الزعم بالآية المستدل بها البتة؛ ولا يوجد فيها ما يدل على حياة الحوت أو موته، ثم إن ذلكم التقدير المفترض بعيد لم يحصل!
- إن المكث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون لا يلزم منه أن لا يزال الحوت حيا إلى يوم القيامة!
- هذا وغير ممتنع البتة أن يموت الحوت ويموت الإنسان في بطن الحوت، ثم يمكث في بطنه إلى يوم البعث، كما يمكث الميت في قبره إلى يوم البعث.
- "لولا" حرف امتناع لوجود، أي امتناع تحقيق جوابها، لوجود شرطها، يعني إذا وجد الشرط امتنع تحقق الجواب.
- فلما كان يونس عليه السلام من المسبحين، امتنع أن يلبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.
- وهو نظير قوله تعالى: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 68]. فامتنع وقوع العذاب، لما سبق في الكتاب.
- وقوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء: 74]؛ فامتنع ركونه صلى الله عليه وسلم للمشركين لحصول تثبيت الله له.
(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يقول: حين فرّ إلى الفُلك، وهو السفينة، المشحون: وهو المملوء من الحمولة المُوقَر؛ فركب مع الركاب وفجأة تقع الكارثة التي كادت أن تهلك الجميع؛ فأخذوا يتخففون بإلقاء أمتعتهم في البحر، ومع ذلك اضطروا إلى التخفيف عنها بإلقاء أحد الركاب؛ فلجأوا إلى القرعة وكانت من نصيب سيدنا يونس الذي نراه ينتقل من ليل إلى ليل، ومن كربة إلى كربة!
لماذا وقعت القرعة؟
فعلا كان الفلك مشحونًا بالركاب والأمتعة، فلما ركب سيدنا يونس مع غيره، والفلك شاحن، ثقلت السفينة، فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركبان، وكأنهم لم يجدوا لأحد مزية في ذلك، فاقترعوا على أن من قرع وغلب، ألقي في البحر عدلا من أهل السفينة، وإذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه؛ (فَسَاهَمَ) أي: فَقَارَعَ. (فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) يعني: فكان من المسهومين المغلوبين المقروعين، يقال منه: أدحض الله حجة فلان فدحضت: أي أبطلها فبطلت، والدَّحْض: أصله الزلق في الماء والطين، وقد ذُكر عنهم: دَحَض الله حجته، وهي قليلة.
(وَهُوَ مُلِيمٌ) قيل: مذنب، أو في صنعه، فاعل ما يلام عليه، وهو مغاضبته لربه.
وقيل: فاعل ما يلام عليه، والظاهر أن عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، ظن أن الله لا يقدر عليه، أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى، ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه لا يستقر، ولا يستمر عليه[10].
(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ) يقول: فقذفناه بالفضاء من الأرض، حيث لا يواريه شيء من شجر ولا غيره، أي: ألقيناه بالساحل، بأرض ليس فيها شيء ولا نبات.
(وَهُوَ سَقِيمٌ) أي: وهو كهيئة الصبي المنفوس: لحم نِيء؛ حيث لم ينقص من خلقه شيء. حتى صار مثل الفرخ الممعوط من البيضة.
(وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وقد أنبت الله عليه شجرة من يقطين التي هي القرع المعلوم نظرا لفوائده؛ إذ تظله بظلها الظليل؛ لأنها بادرة باردة الظلال، ولا يسقط عليها ذباب، وهذا من لطفه به، وبره.
أو كل شجر لا ساق له، أو النبات الذي يموت من عامه مثل الدلاح (الشمام) والدُّباء والبِطِّيخ والحَنْظَل ونحو ذلك؛ لأنه انتفع بورقه عن الشمس لسعته، وسترا لعورته، وانتفاعا بثمره غير المكلف، ونظرا لسرعة امتداده!
والراجح أن اليقطين هو القرع؛ وقال ابن كثير: "وذكر بعضهم في القرع فوائد، منها: سرعة نباته، وتظليلُ ورقه لكبره، ونعومته، وأنه لا يقربه الذباب، وجودة أغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضًا. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحِبّ الدُّبَّاء، ويتتبعه من حَوَاشي الصَّحْفة"[11].
﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ قيل: هو إرسال جديد غير الأول، وقيل الأول؛ قال ابن كثير: ولا مانع من أن يكون هؤلاء هم الذين أرسل إليهم أولًا، أُمر بالعودة إليهم بعد خروجه من بطن الحوت، فصدقوه كلهم، وآمنوا به. وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من بطن الحوت، كانوا مائة ألف أو يزيدون.
هل (أو) هنا تحمل على الشك؟
لكن يوجد معنى آخر هو أنها بمعنى (بل) أي: بل يزيدون عن المئة ألف؛ ونظائر ذلك في كتاب الله منه:
- قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [سورة البقرة:74].
- وقوله: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [سورة النساء:77].
- وقوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [سورة النجم:9] أن المراد ليس أنقص من ذلك، بل أزيد.
(فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ)
وقوله (فَآمَنُوا) يقول: فوحدوا الله الذي أرسل إليهم يونس، وصدقوا بحقيقة ما جاءهم به يونس من عند الله.
وقوله (فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) يقول: فأخرنا عنهم العذاب، ومتعناهم إلى حين بحياتهم إلى بلوغ آجالهم من الموت.
تتمة القصة:
إنهم حين عادوا إلى ضلالهم وكفرهم مجدّدًا نزل فيهم عذاب الله تعالى فأخذهم جميعًا، ودمّر مدينتهم، فأصبحوا عبرةً لمن خلفهم، وقيل بعد ذلك في وفاة يونس -عليه السلام- أنّه دُفن قبل ساحل صيدا.
ملخص رسالته في قومه:
والمختصر المفيد أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى أهل قرية "نينوى"، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) [يونس: 98][12].
قال القاسمي ما حاصله: وما يرويه بعض المفسرين من أن العذاب نزل عليهم، وجعل يدور على رؤوسهم، ونحو هذا، ليس له أصل لا في القرآن ولا في السنة.
لماذا الاستثناء بـ (إلا قوم يونس)؟
لماذا استثنى الله قوم يونس في الآية: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ) [سورة يونس:98]؟
وهذا يحتاج إلى شيء من البيان؛ حيث خرج منهم وهو ينتظر نزول العذاب في الوقت المحدد فلما كانوا يرقبونه ويقولون: إن خرج فإن العذاب نازل بكم وقد صدقكم، فلما رأوه قد خرج خرجوا هم أيضا وفرقوا بين النساء والصبيان والرجال والنساء، واجتمعوا يتضرعون إلى الله عز وجل ويجأرون إليه بالدعاء، ويبتهلون ويناجون ويبكون؛ في حالة يرثى لها من التذلل والانكسار والخضوع والاعتراف بالذنب؛ فذلك قوله تبارك وتعالى كما يقولون: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ) [سورة يونس:98]، فكانت هذه حالة تعتبر استثناء في الأمم أن عذاب الله عز وجل إذا نزل فإنه لا مرد له، فهؤلاء رفع الله عنهم العذاب بعدما رأوا أمارات العذاب، يقولون: فلما لم ينزل بهم العذاب خشي أن يكون هؤلاء قد كذّبوه، أنه لم ينزل بهم العذاب الذي وعدهم بنزوله وأنه قال: إنه لا يرجع إليهم، فيكون مكذَّبًا عندهم.
قصته في البحر:
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا. فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضا، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا، قال الله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات: 141]، أي: وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى، من البحر الأخضر -فيما قاله ابن مسعود- حوتا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحما، ولا تهشم له عظما؛ فإن يونس ليس لك رزقا، وإنما بطنك له يكون سجنا[13].
خامسا: من سورة الأنبياء:
(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87- 88].
لماذا غضب يونس؟
حين قال سبحانه: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا) ليس معناه أنه استشاط غضبا لنفسه، وشخصه، ومآربه الذاتية، ومصالحه الآنية، وإنما ذهب مغاضبا من أجل ربه تعالى، وقد حمله الغضب لله أن خرج وهاجر، ولم يغضب على الله، ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم! غضب على قومه من أجل كفرهم بربه.
وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارًّا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ).
وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل.
فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا؛ فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد.
وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة
وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم[14].
دلالة فظن أن لن نقدر عليه!
قوله تعالى: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ) قيل: معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر! وليس مختارا في التفسير بناء على أصول العقيدة المتينة لدى الأنبياء!
وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. قال الحسن: هو من قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد: 26]، أي يضيق. وكذا قوله: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7]. من قُدر عليه رزقه: أي ضيق وصار في عسرة.
وقال عطية العوفي: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)، أي: نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول: قدر وقدر بمعنى واحد، وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن، فلك الأمر
ومنه قوله تعالى: (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر: 12]، أي: قدّر.
هل كان عقوبة؟
وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا[15].
وما أجمل الأدب مع الله ومع الأنبياء فعوض العقوبة التمحيص كلام من ذهب!
أهمية دعوة سيدنا يونس:
- قيل: إنه اسم الله الأعظم[16].
- في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه وينجيه كما أنجاه.
- هو من الأذكار التي تفرج بها الكروب.
- وعد من الأدعية؛ لأنه يتوسل به أثناء طلب الحاجات والسؤال.
دعوة ذي النون مستجابة:
إن دعوة ذي النون يونس بن متى عليه السلام مستجابة بالكتاب والسنة.
- قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88]. أي استجاب دعوته ونجّاه من الغمّ والأمر مطرد على غيره.
- ومن السنة عَنْ سَعْد بن أبي وقاص، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ"[17].
ما المقصود بالظلمات:
إنها ظلمات ثلاث هي:
- ظلمة الليل.
- ظلمة البحر.
- وظلمة بطن الحوت.
هل دعوة ذي النون مقتصرة عليه؟
إن دعوة ذي النون لم تكن مقتصرة عليه؛ بل كان قدوة لنا، علمنا هذا الدعاء، وهذه المناجاة في عزّ الأزمة، وكانت النتيجة أن فرج الله كربته في ظلمات ثلاث؛ والدليل على أنها دعوة متعدية وليست لازمة له وقاصرة عليه؛ ما أردف الله به القصة في قوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88]. أي حقق الله سؤله وأمله، وقال (وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي في كل مكان وفي كل زمان، وفي كل كربة وشدة، وكل ابتلاء وعناء، وفي كل بلاء ووباء، فما أحوجنا إلى هذا الدعاء في زمن جائحة الكورونا!
لذا قال العلامة السعدي: "وهذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم؛ أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف؛ لإيمانه، كما فعل بـ "يونس" عليه السلام"[18].
هل يذكر المكروب حاجته؟
إن أرباب السلوك درجوا على قولهم: "يا رب علمك بحالي يغني عن سؤالي" وعليه؛ فإن سيدنا يونس عليه السلام في نص القرآن الكريم؛ لم يذكر حاجته التي ألمت به، فقط رفع رأسه إلى السماء وتوجه إلى ربه، وسأل مولاه وسيده، بهذا الدعاء العام؛ فاستجاب الله له سؤاله، وكشف غمته، وفرج كربته!
وكذلك في ظاهر نص الحديث ولفظه على الرغم من أن هذا الذكر معلوم سماه الحبيب صلى الله عليه وسلم دعاء؛ فهو متضمن في طياته، لذا ارفع –يا أخيّا- رأسك واخشع وتضرع واجأر إلى الله في مناجاتك بكل تذلل وانكسار؛ فسيستجيب الله دعوتك لا محالة؛ بحيث إن نص الحديث لم يرشد إلى ذكر الحاجة ولا إلى تسمية الكرب والهم.
فنادى في تلك الظلمات: (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فأقر لله تعالى بكمال الألوهية، ونزهه عن كل نقص، وعيب وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته هذا على الجملة وعند التفصيل:
دلالات (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ):
كلمة التوحيد التي بها ندخل إلى الإسلام، وهي كلمة التوحيد الخالص، وهي أعظم فريضة فرضها الله على عباده، وهي من الدين بمنزلة الرأس من الجسد.
قال صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفَةَ وخيرُ ما قلْتُ أنا والنبيونَ من قبلي لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ"[19].
عن عبد الله بن عمر قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى عليكَ لِباسَ مَن لا يعقِلُ. ثمَّ قالَ: إنَّ نبيَّ اللهِ نوحًا صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ لما حَضرتْهُ الوَفاةُ، قال لابنِه: إنِّي قاصٌّ عليكَ الوصيَّةَ، آمُرُك باثنَتينِ، وأنهاكَ عَن اثنَتَينِ: آمُرُك بلا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ السَّماواتِ السَّبعِ والأرَضينَ السَّبعَ، لَو وُضِعَتْ في كفَّةٍ، ووُضِعَتْ لا إلهَ إلَّا اللهُ في كفَّةٍ، لرجَحت بهنَّ، ولَو أنَّ السَّماواتِ السَّبعَ، والأرضينَ السَّبعَ، كُنَّ حلقةً مُبهمةً لقَصمَتْهُنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وسُبحان اللهِ وبحمدِه؛ فإنَّها صَلاةُ كلِّ شيءٍ، وبها يُرْزَقُ كلُّ شيءٍ. وأنهاكَ عن الشِّركِ والكِبرِ. فقُلتُ أو قيلَ يا رسولَ اللهِ! هَذا الشِّركُ قد عَرَفناه، فما الكِبْرُ؛ هوَ أن يكونَ لأحدِنا حُلَّةً يلبَسُها؟ قال: لا، قال: فهوَ أن يكونَ لأحدِنا نَعلانِ حسَنتانِ لهما شِراكانِ حَسنانِ؟ قال: لا، قال: فَهوَ أن يكون لأحدِنا دابَّةٌ يركبُها؟ قال: لا، قال: فَهوَ أن يكونَ لأحدِنا أصحابٌ يجلِسون إليهِ؟ قال: لا، قالَ: يا رسولَ اللهِ! فما الكِبْرُ؟ قال: سَفَهُ الحقِّ، وغَمْصُ النَّاسِ"[20].
وقد اشترط العلماء في كلمة التوحيد شروطا أساسية؛ جمعت في بيتين:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ** محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما ** سوى الإله من الأشياء قد ألها
وهي:
- العلم بمعناها:
وذلك بأن يعلم الناطق بها معنى هذه الكلمة وما تضمنته من نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له سبحانه، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلأ اللَّهُ) [محمد: 19].
- اليقين بها:
بمعنى ألا يقع في قلب قائلها شك فيها أو فيما تضمنته، لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات: 15] وقال صلى الله عليه وسلم: "أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسولُ اللهِ، لا يَلْقَى اللَّهَ بهِما عَبْدٌ غيرَ شاكٍّ، فيُحْجَبَ عَنِ الجَنَّةِ"[21].
- القبول لها:
لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه: والمراد بالقبول هنا هو المعنى المضاد للرد والاستكبار، ذلك أن الله أخبرنا عن أقوام رفضوا قول لا إله إلا الله، فكان ذلك سبب عذابهم، قال تعالى: (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات: 34- 35].
- الانقياد لها:
بمعنى أن يكون العبد عاملً بمقتضاها أي ممتثلا ما أمره الله به، منتهيا عما نهاه الله عنه، قال تعالى: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأَمُورِ) [لقمان: 22]، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "العروة الوثقى هي لا إله إلا الله".
- الصدق فيها:
ومعناه أن يقولها صادقًا من قلبه، يوافق قلبه لسانه قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 8- 9].
- الإخلاص فيها:
وهو إرادة وجه الله تعالى بهذه الكلمة، قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) [البينة: 5].
- المحبة لها:
لهذه الكلمة ولأهلها العاملين بها الملتزمين بشروطها، وبُغض ما ناقضها، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ) [البقرة: 165].
- البراء بما يناقضها:
بمعنى البراء والكفران بما يعبد من دون الله كما قال سبحانه: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256].
دلالات (سُبْحَانَكَ):
وهذا تنزيه للذات الإلهية عن كل نقص أو قصور أو عيب.
قال ابن مسعود، وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها، حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ) فقد ألهمه تسبيح الحصى في قعر البحر، وما أحوجنا أن تلهمنا صنعة الخالق وإحكام ملكه وكل شيء من الذرة إلى المجرة يدل على الله ويدعو إلى اللجأ إليه والاعتصام به والاحتكام لشرعه وحكمه.
التسبيح سر الأسرار:
قال الله تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وهذا الذي بينه الله كان السر وراء كشف الغم؛ فقال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، أي الشدة التي وقع فيها.
حين تحس بالنعمة لا تماطل في شكر المنعم:
لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يا رب، اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد.
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يوما[22].
دلالات (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ):
وهذا فيه اعتراف بالذنب والتقصير في جنب الله، وحقوق العباد، ونفي للكبرياء والجبروت، وعدم منازعة الله في صفاته وأسمائه العظمى كالجبار والمتكبر والقهار.
نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.
سر سيد الاستغفار:
سر هذا الاستغفار الذي جعله سيد الاستغفار هو ذلكم الاعتراف بين يدي الله بالظلم والذنب والتقصير؛ عن أوس بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلَهَ إلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا علَى عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي، فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ قالَ: ومَن قالَها مِنَ النَّهارِ مُوقِنًا بها، فَماتَ مِن يَومِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ، ومَن قالَها مِنَ اللَّيْلِ وهو مُوقِنٌ بها، فَماتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ"[23].
ناصيتي بيدك:
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما قال عبدٌ قطُّ إذا أصابَه همٌّ وحُزنٌ: اللهم إني عبدُك وابنُ عبدك وابن أمَتِك، ناصيَتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآن العظيم ربيعَ قلبي، ونُورَ صدري، وجلاء حُزني، وذهابَ همِّي؛ إلا أذهبَ الله عز وجل همَّه، وأبدلَه مكانَ حُزنِه فرحًا"[24]. وفي لفظٍ: "فرَجًا".
قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلَّم هؤلاء الكلمات؟ قال: "ينبغي لمن سمِعَهنَّ أن يتعلَّمهنَّ". وتعلُّمُها يشملُ حفظَها، وفهمَها، والدعاءَ بها.
لا إله إلا أنت العليم الحليم:
عن عبد الله بن عباس قال: "كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ عِنْدَ الكَرْبِ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ العَلِيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ"[25].
يا حي يا قيوم برحمة أستغيث:
عن أنس بن مالك قال: "كان إذا كربَهُ أمرٌ قال: يا حيٌّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيثُ"[26].
كيف يسمى هذا دعاء وليس فيه من معنى الدعاء شيء؟
قد يتساءل العقلاء عند قراءة النص القرآني أن الله اعتبره دعاء حين قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) والاستجابة تكون للسؤال والدعاء وكذا الكشف والتنجية من الغم!
وكذا النبي صلى الله عليه وسلم سماه دعاء حين قال: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ"!
والظاهر لدى من يظنن أنه ليس دعاء وإنما هو تعظيم لله تعالى، وثناء عليه فحسب!
والحق إن هذا يسمى دعاء لوجهين:
أحدهما: أنه يستفتح به الدعاء، ومن بعده يدعو. وقد ورد في بعض طرقه: "ثم يدعو".
وثانيهما: إن ابن عيينة قال -وقد سُئِل عن هذا-: أما علمت أن الله تعالى يقول: "إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
وقد قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضك الثناء
قلت: وهذا الكلام حسن، وتتميمه أن ذلك إنما كان لنكتتين:
إحداهما: كرم المُثنَى عليه، فإنه إذا اكتفى بالثناء عن السؤال، دل ذلك على سهولة البذل عليه، والمبالغة في كرم الحق.
وثانيهما: أن المثني لما آثر الثناء، الذي هو حق المثنَى عليه، على حق نفسه الذي هو حاجته؛ بودر إلى قضاء حاجته، من غير إحواج إلى إظهار مذلة السؤال؛ مجازاة له على ذلك الإيثار، والله تعالى أعلم.
ومما قد جاء منصوصا عليه وسمي دعاء، وإن لم يكن فيه دعاء ولا طلب، ما أخرجه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوة ذي النون.."[27].
هل يكتفى به في الدعاء أم يلزم ذكر الحاجة؟
ذكرت أن هذا الذكر سماه الحبيب صلى الله عليه وسلم دعاء وهو دعوة سيدنا يونس بن متى عليه السلام، فإن كان العبد متلبسا بكربه مغرقا في حاجته، ورفع أكف الضراعة بانكسار وتضرع وقال: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فقد جاء على أصل الآية والحديث!
ويمكن أن يجعل من الذكر المسمى بدعوة سيدنا نوح مفتتحا لذكر الحاجة والغمة فهو أفضل ويستحسن؛ لأن الدعاء بالحاجة مشروع؛ والاستكثار من الأدعية والجمع بينها وارد جدا، وأن الأصل فيه المشروعية بلا خلاف؛ وهذا توجيه حسن وتخريج سديد للذكر الوارد في معنى الدعاء!
قال الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى: "فإن قيل: هذا ذكر لا دعاء! قلنا: هو ذكر يفتح به الدعاء ثم يدعو بما شاء"[28].
لماذا ناسب حال ذي النون صيغة الوصف دون الطلب؟
إن صاحب الحوت ومن أشبهه، لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟
لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي، فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر، والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة؛ لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني؛ بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول، إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل في الحال، قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة، وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته، وأبلغ ما ينال به: رفع سببه، فجاء بما يحصل مقصوده[29].
أمن قريةِ الرَّجلِ الصَّالحِ يونسَ بنِ متَّى؟
جاء في كتب السيرة بعد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على بني ثقيف من أهل الطائف، وما تعرض له من سوء معاملة؛ قال: "اللَّهمَّ إليكَ أشكو ضَعفَ قوَّتي، وقلَّةَ حيلَتي، وَهَواني علَى النَّاسِ .. أنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ، أنتَ ربُّ المستضعفينَ، وأنتَ ربِّي. . . إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجَهَّمُني أَمْ إلى عدُوٍّ ملَّكتَهُ أمري. إن لم يَكُن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هيَ أوسعُ لي .. أعوذُ بنورِ وجهِكَ الَّذي أشرَقت لهُ الظُّلماتُ، وصلُحَ علَيهِ أمرُ الدُّنيا والآخرةِ، أن يحلَّ عليَّ غضبُكَ، أو أن ينزلَ بي سخطُكَ. لَكَ العُتبى حتَّى تَرضى، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بِكَ.. وتحرَّكت عاطفةُ القرابةِ في قلوبِ ابني ربيعةَ فدعَوا غلامًا لهُما نصرانيًّا، يدعى عدَّاسًا وقال لهُ: خُذ قِطفًا منَ العنَبِ، واذهب بهِ إلى الرَّجلِ. فلمَّا وضعَهُ بينَ يدَي رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ مدَّ يدَهُ إليه قائلًا: باسمِ اللَّهِ ثمَّ أكلَ. فقال عدَّاسُ إنَّ هذا الكلامَ ما يقولُهُ أَهْلُ هذِهِ البلدةِ قال لهُ النَّبيُّ: مِن أيِّ البلادِ أنتَ قال أَنا نصرانيٌّ من نينَوى فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: أمنَ قريةِ الرَّجلِ الصَّالحِ يونسَ بنِ متَّى؟ قال لهُ: وما يُدريكَ ما يونسُ؟ قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ذلكَ أخي، كانَ نبيًّا وأَنا نبيٌّ. فأَكَبَّ عدَّاسٌ علَى يدَي رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ورجليهِ يقبِّلُهُما. فقال ابنا ربيعةَ أحدُهُما للآخرِ. أمَّا غلامُكَ فقد أفسدَهُ عليكَ فلمَّا جاءَ عدَّاسُ قال لهُ: ويحَكَ ما هذا؟ قال: ما في الأرضِ خيرٌ مِن هذا الرَّجلِ"[30].
عود على بدء: دروس وعبر:
يمكن من خلال هذا العرض والتحليل أن نستلهم جملة من الدروس والعبر تهم الدعاة إلى الله وكافة المسلمين الذين يتخذون من قصص أنبيائهم عبرة؛ وإليكم الدروس والعظات بإيجاز واقتضاب:
- إن دراسة قصص الأنبياء ينبغي أن لا يطغى عليها الجانب الروائي السردي دون تأملها واستلهام الدروس والعظات؛ قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
- بل إن في قصص الأنبياء تثبيتا للقلوب، وإزالة للكلل، وتنشيطا للعبد على حسن الطاعة وحيوية العبادة؛ قال سبحانه: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
- إن شرع من قبلنا هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يعارضه ويناقضه؛ وفي قصة يونس الشيء الكثير من تلكم الحِكَم والعبر والأحكام، لكن إذا ورد ما يتعارض مع أصول شرعنا فلا يكون شرعا لنا على غرار إلقاء سيدنا يونس في البحر؛ وهي لنبي كريم كانت معجزة له، وبالنسبة لنا فلا يجوز الإلقاء بالقرعة في البحر!
- عظمة الخالق المصور الملك الجبار ذي الأسماء الحسنى والصفات العليا؛ وأنه قد أحاط بكل شيء علما، كيف علم بنبيه في ظلمات ثلاث، وكيف سمع نداءه ودعاءه (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وحِلمه أن غمره بلطفه، أن لا يعذب في رحلته على متن بطن الحوت، وحتى خروجه، وأنبت عليه شجرة من يقطين لا غيرها من الأشجار المؤذية وذات الشوك؛ حتى عاد سالما غانما.
- فيما تعرضنا له من آيات في مواضع من القرآن الكريم أكدت جميعها إثبات نبوة سيدنا يونس ورسالته عليه السلام إلى مئة ألف أو يزيدون. وعليه؛ فهو من الرسل الذين أرسلهم الله بعد سليمان وقبل عيسى عليه السلام، وقد ذكره الله في عداد مجموعة الرسل. وقال عزّ شأنه: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 139].
- إن حالة الاضطرار التي مر بها سيدنا يونس عليه السلام كانت كافية لاستجابة دعائه، وكشف ما هو فيه من غم وهم وكربة؛ قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62]. وأن الاضطرار يحمل على إخلاص الدعاء حتى من غير المؤمنين؛ فيستجيب لهم، فما بالك بالمؤمنين إذا تضرعوا وجأروا وابتهلوا وتذللوا[31]؟!
- اعلم أنّ الله تعالى يقبل التوبة النّصوح من عبده، ويفرج كربته، تمامًا مثلما قبل توبة يونس عليه السلام وأخرجه من ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَلَّهُ أفْرَحُ بِتوبةِ أحدِكمْ من أحدِكمْ بِضالَّتِه إذا وجدَها"[32].
- نبذ الاستعجال في الدعوة إلى الله وعدم التسرع في قطف الثمرة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشَجِّ عبدِ القَيسِ: "إنَّ فيك خَلَّتيْنِ يُحِبُّهما اللهُ عزَّ وجلَّ: الحِلمُ، والأَناةُ"[33]. وفي الآيات التي مرت معنا إشارة واضحة إلى سيدنا يونس عليه السلام حيث كان عليه ألّا يستعجل فيترك قومه لوحدهم، بل أن يبقى معهم، مُذكّرًا، موجّهًا لأبعد حدّ، ولا ينتظر منهم القبول، والإيمان بسرعةٍ.
- نبذ الغضب ما أمكن؛ قال سبحانه: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) ذكر الله هنا وصف الغضب لمعنى، ولم يسق جزافًا، بل للدرس والعظة، حيث خروج سيدنا يونس عليه السلام من قومه كان غضبًا عليهم، وعلى حالهم، جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: علِّمْني شيئًا ولا تُكثِرْ عليَّ لعلِّي أحفظُ، قال: "لا تغضَبْ"، ثمَّ أتاه فأعاد عليه فقال: "لا تغضَبْ"[34]. وقال سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 97- 99].
- الصبر حين يتحلى به الدعاة والمصلحون فهو طريق صحيح لتحقيق مقاصد الدعوة، لذلك ذكر (الصبر) في القرآن نيِّفًا وتسعين مرة؛ لأهميته، وهو سنة الأنبياء عند تكذيبهم؛ وأنه مصدر النصر؛ قال سبحانه: (ولقد كُذِبتْ رسلٌ مِن قبْـلِك فصبروا على ما كُذبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرُنا ولا مبدِّلَ لكلماتِ اللهِ ولقد جاءَكَ من نبأِ المرسلين) [الأنعام: 33- 34]. وجاء في الأثر: "الصبرُ مِفتاحُ الفَرَجِ، والزُهدُ غِنَى الأبَدِ"[35] وفي الحديث: "النَّصْرُ مع الصَّبْرِ، والفَرَجُ مع الكَرْبِ، وإِنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا، وإِنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا"[36].
- بعد أن محص الله سبحانه سيدنا يونس عليه السلام، لا يجوز الازدراء به البتة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"[37]. وقال صلى الله عليه وسلم: "ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى"[38]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب"[39].
- إظهار فضل التسبيح والدعاء في تفريج الكربات، إذ إنّ يونس عليه السلام اجتهد في التسبيح والابتهال والدعاء حتى فرج الله كربه، وكان تسبيحه سببًا لنجاته؛ وما أحوجنا إلى اللجأ إلى مولانا والتضرع له بالدعاء والتسبيح على اختلاف صيغه الواردة في القرآن والسنة؛ ومنها: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"، و"سبحان الله والحمد لله"، و"سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"، و"سبوح قدوس رب الملائكة والروح".
- الاستمساك بصيغة التسبيح وكامل حروفها الواردة في قصة يونس عليه السلام، وهي: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)؛ لأنها سر النجاة والخلاص عند الكروب والشدائد؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: "دَعْوةُ ذي النُّونِ إذ دَعا وهو في بطْنِ الحُوتِ: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)؛ لم يَدْعُ بها رجُلٌ مُسْلِمٌ في شَيءٍ إلا اسْتجاب اللهُ لَهُ"[40].
- وفي قصة سيدنا يونس بتتبع الآيات إثبات أن قومه قد تعرضوا بسبب مخالفتهم له لعذاب الخزي في الحياة الدنيا، وبدت بوادر العقوبة إلا أن الله كشف عنهم هذا العذاب لمَّا آمنوا، ومتعهم إلى حين؛ وأنه المصير المحتوم لكل المناوئين الجاحدين؛ وأن سبيل الخلاص واضح لذا قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
- النَّفَس الدعوي الطويل الذي لا يستعجل النتائج، ولا ييأس من تأخر الثمرات، بل يؤدي ما عليه؛ لأن الله يسأله ماذا قدم وماذا أخر، ولا يسأله عن النتائج؟ فلو أن الدعاة إلى الله التفتوا إلى جودة العمل وإحكام الأساليب وإحكام تنوعها، لجاءت الثمرات والعزائم على قدر أهل الهمة والعزم.
- النظرة المقاصدية للأشياء باتت ضرورية وعدم حرق المراحل، وأن سنن الله الشرعية والكونية جارية لا تحابي أحدا، وأن الدعوة لها مراحل بعيدة وقريبة، ويجب أن يمتد النظر، ولا يكون قاصرا! وأن تدقق حسابات الدعوة في الرخاء والشدة.
- قال تعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19]. وهو الذي حصل مع سيدنا يونس عليه السلام إذ خرج مغاضبا من قومه ولم يصبر عليه، لكنهم بعد مغادرته وبدت مظاهر العذاب، جأروا إلى الله وتابوا ورجعت الأمور إلى نصابها، وقد كان ذلك في غيبة ذي النون، ولو صبر لكان خيرا له.
- ولا يخفى أن الله يحفظ أولياءه مهما كانت الظروف وضروب الابتلاء حفظ الله لأوليائه وعباده الصالحين حتى في أوقات ابتلائهم؛ قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: 30- 31]. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ"[41].
- إن الله سبحانه لا يريد تعذيبهم، ولكنهم بذنوبهم يصلون إلى عذابه؛ إذ إن عادة الله جرت على أن لا يعذب أحدًا إذا تاب ورجع، وهذا يحملنا مسؤولية شكر الله على نعمه تترى التي أسبغها علينا ظاهرة وباطنة؛ قال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147].
- وفي شرع من قبلنا جواز مساهمة يونس ومشاركته في الاقتراع على جواز استعمال القرعة؛ ولا سيما عند الأمور المشكلة والمتساوية التي لا يوجد ترجيح لبعضها على بعض، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد سفرًا أو غزوًا أيتهن خرج سهمها كانت معه[42].
- إن المؤمن متناغم مع الكون كله جوه وبره وبحره؛ وقد سمعت الكائنات البحرية تسبيح يونس في بطن الحوت فبدأت تسبح معه.. وقد سمع تسبيح جميع الكائنات البحرية حوله فعلم أنه ابتلع نبيًا، فبدأ يسبح معهم وهو يشعر بالخوف قائلًا: "أنا لم أصنع إلا ما أمرني الله تعالى به ولن أفعل شيئًا إلا بأمر الله"..
عليك السلام يا نبي الله يونس بن متى .. وعلى نبينا محمد ازكى الصلاة والسلام
والحمد لله رب العالمين.
وكتبه: أبو نوفل حسن يشو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
قسم الفقه والأصول/ كلية الشريعة
جامعة قطر
[1] أخرجه البخاري برقم (3414، 3415)، ومسلم برقم (2373)، وأحمد برقم (7586)، والترمذي برقم (3245)، وابن ماجه برقم (4274).
[2] أخرجه البخاري برقم (3395).
[3] خرجه الترمذي برقم (3615)، وابن ماجه برقم (4308)، وأحمد برقم (10987)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي وصحيح الترغيب والترهيب.
[4] شرح النووي على مسلم: 15/ 132.
[5] تفسير السعدي.
[6] تفسير السعدي.
[7] تفسير السعدي.
[8] أخرجه أحمد في المسند، برقم (2803)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (2961).
[9] ونصه: قال ابن عباس: "كنتُ خلْفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا فقال: "يا غلامُ إني أُعلِّمُك كلماتٍ: "احفَظِ اللهَ يَحفظْكَ احفَظِ اللهَ تَجدْهُ تُجاهَك، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلَمْ: أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَتْ على أنْ يَنْفَعوكَ بشَيءٍ، لم يَنْفَعوكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ لك، وإنِ اجْتمعوا على أنْ يَضُروكَ بشَيءٍ، لم يَضُروكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ". وفي روايَةٍ: "احفَظِ اللهَ تَجدْهُ أمامَكَ، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ ما أخْطأَكَ لم يكنْ ليُصيبَكَ، وما أصابكَ لم يكنْ لِيُخْطِئَكَ، واعلَمْ أنَّ النصرَ مع الصبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا". أخرجه الترمذي برقم (2516)، وأحمد برقم (2803). وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند: 4/ 233، وصححه شعيب برقم (2803).
[10] تفسير السعدي.
[11] تفسير ابن كثير.
[12] تفسير ابن كثير.
[13] تفسير ابن كثير.
[14] انظر تفسير القرطبي.
[15] تفسير القرطبي.
[16] تفسير القرطبي.
[17] أخرجه الترمذي برقم (3505)، والإمام أحمد في المسند: 3 / 65، وحسنه محققو المسند، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2 / 282.
[18] تفسير السعدي: 529.
[19] أخرجه الترمذي برقم (3585).
[20] انظر صحيح الأدب المفرد برقم (426).
[21] أخرجه مسلم برقم (27).
[22] تفسير ابن كثير.
[23] أخرجه البخاري برقم (6306).
[24] أخرجه أحمد برقم (4318)، وابن أبي شيبة برقم (29930)، والبزار برقم (1994).
[25] أخرجه البخاري برقم (7426).
[26] أخرجه الترمذي برقم (3524)، وابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (337) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 7/ 557.
[27] انظر المفهم: 7/ 56- 57.
[28] انظر التنوير: 6/ 98.
[29] مجموع الفتاوى: 10/ 247- 248.
[30] انظر كتب السيرة النبوية.
[31] انظر بحثا عن "حالة الاضطرار" منشور على موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين؛ فهو مستفيض في بابه.
[32] أخرجه مسلم برقم (2675)، والترمذي برقم (3538)، وابن ماجه برقم (4247).
[33] أخرجه مسلم برقم (18)، وابن ماجه برقم (4187)، وأحمد برقم (11175).
[34] أخرجه البخاري برقم (6116)، والترمذي برقم (2020)، وأحمد برقم (10012).
[35] أخرجه الديلمي في مسند الفردوس برقم (3844).
[36] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد: 10/ 287، والديلمي في الفردوس برقم (6935).
[37] أخرجه البخاري برقم (3395).
[38] أخرجه البخاري برقم (3414، 3415)، ومسلم برقم (2373).
[39] أخرجه البخاري برقم (3414، 3415)، ومسلم برقم (2373)، وأحمد برقم (7586)، والترمذي برقم (3245)، وابن ماجه برقم (4274).
[40] أخرجه الترمذي برقم (3505)، والإمام أحمد في المسند: 3 / 65، وحسنه محققو المسند، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2 / 282.
[41] أخرجه البخاري برقم (6502).
[42] ونص الحديث كاملا في الصحيحين: كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بيْنَ نِسَائِهِ فَطَارَتِ القُرْعَةُ علَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَخَرَجَتَا معهُ جَمِيعًا، وَكانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا كانَ باللَّيْلِ، سَارَ مع عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ معهَا، فَقالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ، فَتَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ؟ قالَتْ: بَلَى، فَرَكِبَتْ عَائِشَةُ علَى بَعِيرِ حَفْصَةَ، وَرَكِبَتْ حَفْصَةُ علَى بَعِيرِ عَائِشَةَ، فَجَاءَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إلى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعليه حَفْصَةُ، فَسَلَّمَ ثُمَّ سَارَ معهَا، حتَّى نَزَلُوا، فَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَغَارَتْ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ تَجْعَلُ رِجْلَهَا بيْنَ الإذْخِرِ وَتَقُولُ يا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا، أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي رَسولُكَ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ له شيئًا". أخرجه البخاري برقم (5211)، ومسلم برقم (2445).