الرابط المختصر :
إشراق القلوب تضامنا مع ضحايا الحق المغصوب
أ.د. عبد الرزاق قسوم
عندما نُخضع، مقاصد العبادات في الإسلام للتأمل العميق، ونقرأ مفاهيمها وأبعادها بقلب حي، وضمير واع، وعقل دقيق –كما هو مطلوب منا – تتراءى لنا في ثنايا القراءة والتأمل، أنّ كلّ عبادة تنبض بحقائق فلسفية إنسانية سامية المعاني والقيم.
فلو أخذنا تجربة الصوم، التي نعيشها هذه الأيام، وهي التجربة التي وصفها بعض الحكماء المنصفين، بأنها مدرسة الثلاثين يوما، لو أخذناها كنموذج لعمق الدلالات في العبادات، لوجدنا أنها هي التي تفجر فينا ينابيع الحب الإنساني والتضامن الاجتماعي.
ذلك أنّ الصوم يأتي ليوقظ قلوبنا من سبات سنوي طويل: فالصوم عبادة، تميز الإنسانية بها، بين روحين:
– روح ران عليها الصدأ والغفلة، فإذا هي ساقطة في مستنقع النكران والعدوان، فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة.
– وروح أخرى مرهفة الشعور، غسل الإيمان كلّ ما فيها من أدران، فإذا هي نورانية تقتبس من الشمس أشعة نورها، ومن القمر سمو ضيائها وظهورها، فإذا بهذه الروح، كالجدول الرقراق، ماؤها حلو المذاق، وفيضها مليء بالأرزاق.
هكذا يتم بالإيمان التمييز بين النّفس الشيطانية، التي خاصيتها الظلم، والإفساد والعدوان، ومن أعراضها الوجه العبوس، والقمع اللبوس، وقطع الرؤوس، وقتل النفوس.
وبالمقابل هناك الروح الإنسانية الاجتماعية، المنفتحة على العلم، والمتميزة بحسن الفهم، والكافرة بكل ألوان الظلم.
ذلك -إذن – هو الصراع الذي يميز واقعنا العربي الإسلامي على الخصوص والذي يتجلى على شاشة الأحداث عندنا، على شكل صراع بين الحق والباطل، وبين الظالم والعادل، وبين الخائن للوطن المستسلم الخاذل والمقاوم الوطني الباسل.
وإذ يحل علينا، الشهر الفضيل بآلامه وآماله، وفي غمرة الوباء الفتاك، تتراءى لنا صور من المعذبين في أرضنا الطيبة، فهناك الذين أضناهم الوباء، فهم يتجرعون محنة الداء، وهناك المعوزون الذين فقدوا الغذاء، والكساء، فهم يتطلعون بأعينهم نحو السماء، وهناك القابعون في سجون الأعداء والأشقاء، بسبب الظلم والابتلاء، يشتاقون إلى خيط نور من الضياء.
فعندما تجلس، يا أخي الصائم، على مائدة الإفطار، مع الأهل والأبناء، تذكر أنّ هناك من تقطعت بهم السبل، إمّا بسبب الداء، أو الابتلاء، أو الاعتداء؛ وهم أشقاء أعزاء، فلنتضامن معهم بتقديم الدواء، أو الغذاء، أو الدعاء.
فلا عذر لنا، إذا كان الصائم منا يبيت شبعانا، وبجانبه أخ جوعان.
ولا كان الصوم الذي لا يذكّرنا بقيمة التضامن مع المرضى، وضحايا الأوبئة على اختلاف أنواعها.
وبئس الصوم الذي لا يوقظ ضمائرنا، ولا يلهمنا التسامح مع من نختلف معهم في الرأي، فهم قابعون في السجون، لا لجرم اقترفوه ولا لمال سرقوه، ولا لبريء قتلوه، وإنما كل «جرمهم» أنهم اختلفوا في الفكر مع سجانيهم، أو أنهم يطالبون بحق مغتصب.
وإذا كانت الرحمة، تنشأ من الألم كما يقول الأديب الكبير، مصطفى صادق الرافعي، فإن آلام المواطن البريء، الذي اعتُدى على حقه في الحياة، وحقه في التعبير، وحقه في التديّن الصحيح، إن هذه الآلام من المظلوم، من شأنها أن تجلب الرحمة من قلب المعتدي، خصوصا في شهر الغفران والرحمة، والوطن يتسع للجميع، فالوطن ينبغي أن يكون رحيما بأبنائه، لاسيما الذين لم يظلموه، ولم يخونوه، ولم يعتدوا عليه.
وليذكر الجميع قول الله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾[سورة البروج، الآيات 8-9-10-11].
إنّ فضاعة الإجرام تزداد شناعة عندما يكون الضحايا، القابعين في السجون هم علماء، ودعاة، وشباب نشأ في عبادة الله تعالى، وهم ضمير الأمة وبوصلتها.
يحدث كلّ هذا في عالم صدّع أسماعنا بالكلمات المظلومة، والشعارات الملغومة، كحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحرية المعتقد.. الخ.
فكيف إذا اجتمعت العولمية الوضعية والعالمية الإسلامية، وكلها تنادي بحماية الإنسان، من الظلم، والتعسف، والمساس بكرامته، وحياته؟.
إنّ دعاة القلم في وطننا العربي، هم متهمون بالقوة، وبالفعل، فالقلم كما يقول الشاعر أحمد مطر، هو يد وفم:
جس الطبيب خافقي وقال لي
هل هاهنا الألم ؟ قلت له نعم
فشق بالمشرط جيب معطفي
وأخرج القلم
هز الطبيب رأسه.. ومال وابتسم
وقال لي
ليس سوى قلم
فقلت لا سيدي ! هذا يد.. وفم
رصاصة ودم، وتهمة سافرة
تمشي بلا قدم
فيا أيها الإخوة الصائمون!
تذكروا -في صومكم، وأثناء فطركم – الصائمين المعذبين، بمختلف أنواع البلاء والداء، دمهم ينزف، وجسمهم يرجف، وألمهم يزحف.
أفلا يكون الصوم واعظا لنا، كي نسعفهم بالدواء، ونوفر لهم الغذاء، ونمكنهم من حرية الفضاء، والدعاء، وحياة الشرف والإباء؟
إنّ الله سميع الدعاء.