البحث

التفاصيل

فريضة التفكير الصحيح

الرابط المختصر :

فريضة التفكير الصحيح

انطلاقا من قوله تعالى:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46].

تمهيد:

لله در الشاعر محمد إقبال رحمه الله في قصيدته المشهورة (شكوى)، أو (جواب شكوى) قال فيها:

أرى التفكير أدركه خمول ** ولم تعد العزائم في اشتعال

وأصبح وعظكم من غير سحر ** ولا نور يطل من المقال

وعند الناس فلسفة وعلم ** ولكن أين تفكير الغزالي

وجلجلة الأذان بكل صوت ** ولكن أين صوت من بلال

مآذنكم علت في كل حي ** ومسجدكم من العباد خال

لقد ميز الله تعالى هذا الإنسان بالعقل والقدرة على التفكير؛ هذا الإنسان الذي أناط بعنقه الأمانة فقال سبحانه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]؛ وقد ميزه سبحانه بالعقل وهو مركز التفكير؛ وبه يختلف عن باقي الكائنات الحية والمخلوقات في الأرض، فلعل من العيب أن يعطل الإنسان قدرته على التفكير، لأن التفكير جزء من التكليف، وديننا الحنيف فرض علينا التفكير كما فرض علينا الإيمان والصلاة والصيام والزكاة والوفاء بالعقود.. إلخ، ولعباس محمود العقاد كتاب نفيس تحت عنوان "التفكير فريضة إسلامية" والآية التي بين أيدينا نص في ذلك ولله الحمد والمنة، وقد كانت للقرآن لغة خاصة به، واستدلالات تجاوزت الخطابة والمنطق، وكان البرهان فيها واضحا؛ "والبرهان هو: النظر المفضي بصاحبه إلى عين مطلوبه"[1]. وقد حقق القرآن مطلوبه في هذه الآية التي بين أيدينا.

وقد شرف الله العلم وأهله؛ حتى في عالم الحيوان لاحظ أيها القارئ الكريم كيف أن الكلب المعلّم يحل صيده إذا أمسكه، بينما لا يحل صيد الكلب الجاهل غير المعلم؛ قال سبحانه: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 4].

ولقد خلق الله في الإنسان قوة التفكير، لكن –لست أدري- لماذا الناس يعطلونها؟ إن العقل كالأُسّ، والشرع كالبناء، ولن يغني أسٌّ ما لم يكن بناءٌ، ولن يثبت بناءٌ ما لم يكن أسٌّ.

ويا كم ذمَّ الله جل جلاله المُعرِضين عن التفكُّر، والتفكير؛ فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: 105]. وقد كانت من عقوباتِ الله: صَرفُ آياتِه عن المُستكبِرين، قال سبحانه: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ [الأعراف: 146]. وقال الحسنُ البصريُّ رحمه الله: "أمنَعَهم التفكُّر فيها" والله المستعان!

وهذا ما نعالجه في هذه الورقة، بين يدي الآية الكريمة من سورة سبأ؛ نبين معانيها السامية، ومراميها البعيدة، كاشفين عن أسرارها، مع التعريج على التفكير الصحيح وأهميته، وعوائقه، والله من وراء القصد.

الصورة بإجمال:

 لقد اتهم كفار قريش -حسدا من عند أنفسهم- نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ورموه بالسحر والكذب والجنون؛ بغرض أن يصدوا أتباعه المتزايدين والركب اللاحقين به، لكنها تظل تلفيقات وأراجيف تلقى على عواهنها دون روية ولا تفكير أو تدبر في عاقبتها؛ وهم أسرى شهواتهم وتقليد آبائهم وهم لا يعقلون. وقد دحض الله هذه الإشاعات بمنطق حاكَمهم إليه؛ ولم يكثر عليهم؛ فهي موعظة واحدة؛ على أن يقوموا لله بإخلاص وتجرد ونزاهة وشفافية في طلب الحق، ويراجعوا أنفسهم في خلواتهم يصدقونها القول، أو مثنى في حوار مشترك، ثم ليجتهدوا ويتفكروا ويتفاكروا فيما يقوله هؤلاء الكفار، وليجيبوا على الشبهة وليتأكدوا تماما أن النتيجة هي: ﴿مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ﴾. وبالتالي: كل ما جاء به صحيح وصدق! وأهم شيء في هذه الآية فريضة التفكير الصحيح!

لماذا الدعوة إلى التفكير؟

إن التفكير فريضة إسلامية، تفجر موهبة العقل ولا تشله، فيحمل على الإبداع، وعلى عدم تلقي الأشياء كما هي دون مساءلة ونقد وحسن اختيار، ولا سيما في زمن الفتن والشدائد، حيث يعطل الناس عقولهم، ويسترسلون مع الأخبار بعُجرها وبُجرها، والتحليلات بغثها وسمينها، ويبقى متفرجا متلقيا وربما كان رجع صدى الإعلام، كالببغاء يردد الموجود على علّاته، بله الشائعات، ونحن في زمن الانفجار المعلوماتي، وتقارب الزمان، وطي المسافات، ينبغي أن نمتلك مهارة التفكير الراسخ، والناضج، بحيث نقيس ونختبر ولا نتقبل كل شيء؛ وأتصور تعليل السؤال أعلاه فيما يأتي:

  • نحتاج إلى التفكير الصحيح لإعادة النظر في المناهج المعتمدة في التعليم والتلقين والتدريس؛ لأنها لم تقم على التفكير الناقد والإبداعي المكين.
  • معظم المدارس والمناهج تلقن معلومات للطالب ربما تتجاوز نسبة 80%، وتعلمهم التفكير في أقل من 20%؛ والأصل أن يزيد منسوب التفكير؛ والمثال الصيني يقول: "لا تعطيني سمكة، ولكن علمني كيف أصطادها".
  • لا غرابة أن تقوم بعض المعاهد الدينية والمؤسسات الشرعية على التلقين والحفظ؛ وهي مزية ضرورية حين ترتبط بالقرآن والسنة والشعر والقواعد وبعض المتون، لكن أن تتبخر مسألة التفكير وطرائقه، لا يخرج فقيها مطلقا وإنما يخرج حافظا مليئا، ربما يكون معنيًا في قوله صلى الله عليه وسلم: "نضَّرَ اللهُ امرَئًا سمِعَ منَّا حَديثًا، فحَفِظَه حتى يُبلِّغَه غيرَه؛ فإنَّه رُبَّ حاملِ فِقهٍ ليس بفَقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه"[2].
  • ونظرا لتكوثر مصادر المعرفة عبر الشبكة العنكبوتية، فيصاب المرء بالحيرة هل يكون ضحية إحدى هذه القنوات، والمصادر، بثقة مطلقة وعمياء، أم يحكم عقله، ويعمل قوته التفكيرية المخبوءة بين جنبيه!؟
  • هناك ذوو ملكات التفكير الموهوبة من رب العالمين؛ حيث يظهر على أصحابها النبوغ المبكر من غير تلقي دورات، أو تلقن مهارات وحضور ورش وبدون تدريب ولا تمارين، لكنها محدودة جدا، وتبقى مهارات التفكير الإبداعي متوقفة على نظرية الكسب بالدربة والتمرس، ثم إن التفكير لما كان مهارة، ومن ثمّ فإنه قابل للتعلم؛ وهو ما نلمع إليه في هذه الورقات ونسهم في تنميتها والتحريض عليها.
  • لم يعد زماننا هذا كالزمن الذي سبق؛ فهو متألق جدا يعتمد على التفكير والإبداع، ولا محل فيه للبطالين والخاملين، وأن الزمن القادم سيطردهم، ويفتح بابه على مصراعيه للقادرين دون العاجزين، وذلك لأجل المشاركة الإيجابية، والمواكبة والملاءمة للمستجدات، والحضور القوي والنافع بحل المشكلات وتقديم البدائل المتاحة ونقد ما لا يصلح!
  • نريد التفكير العلمي الذي يراعي القيم ومنظومة الأخلاق وينتج أفكارا رائدة ومشاريع النهوض، وقومة راشدة تنهض بالدنيا في ضوء القيم وتعاليم الدين، ويرشد الحياة السياسية ويخلّق الحالة الاقتصادية، ويضفي رونقه الغائي على النظام الاجتماعي.
  • قال برناردشو: "إن بعض الناس يفكر في العام مرتين أو ثلاثا فقط". فما الذي أعاق هؤلاء عن التفكير؟ ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الاستفزازات على التفكير!
  •   تكثر لدى الإنسان الإخفاقات والإحباطات، والفشل في المشاريع، وانتشار الاكتئاب وأن الحياة لا تسير على خطى السعادة المنشودة؛ لأنه لو غير هذا الإنسان طريقة التفكير لتغيرت حياته قولا واحدا.
  • لم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به بغير برهان، بل رفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات بمعنى الإيمان مع العلم أفضل من الإيمان وحده؛ قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
  • ولم يطلب الله تعالى من خلقه أن يسلكوا سبيلًا مغامرة ومخاطرة على العمياء وهم لا يشعرون، بل إنه سبحانه علل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم؛ وهذا حسب ابن القيم بالآلاف في كتاب الله!

التفكر في خلق الله:

عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفكَّرُوا فِي خَلْقِ اللهِ، ولَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ"[3]. وفي رواية: "تفكروْا في الخلقِ ولا تفكروْا في الخالقِ فإنه لا تُحِيطُ به الفكْرةُ"[4]. وفي رواية: "تفكّرُوا في آلاءِ اللهِ، ولا تفَكّروا في اللهِ"[5].

وقد دلت الأحاديث في الباب على توجه التفكير في فضاء الكون والخلق والإنسان ومصيره وأحواله وصفاته المتقلبة، وأن يبتعد عن التفكير في ذات الله؛ لأنا لا نقدره، ولا نستطيع أن نحيط به، فنكتفي بما ورد من الوحي عن ذاته وصفاته ونتلقاها بالسمع والطاعة أدركنا الحكمة أو لم ندركها. وقد جاءت النصوص المستفيضة الحاثة في التفكير في الخلق؛ منها:

  • قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ: 46].
  • وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191].
  •  وقال تعالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية: 21].
  •  وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ [محمد: 10].
  • قال سبحانه: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21].

الإنسان حيوان مفكر:

لا جرم أن الإنسان مركب من جسم مدركه البصر، ونفس مدركها البصيرة، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]، فالروح هي النفس، وإن في إضافتها إلى الله تعالى تشريفًا لها[6].

وقد أبدع الأستاذ الكبير محمد قطب رحمه الله في بيان ماهية الإنسان وتكريمه في أغلب كتبه وعلى رأس قائمتها باكورة مؤلفاته الموسوم بـ (الإنسان بين المادية والإسلام).

والإنسان أفضل من سائر الحيوان بالعقل والعلم والحكمة والتدبير والرأي، وإن كل ما أوجد في هذا العالم فمن أجل الإنسان[7]، وهو يعنى أن تخصيص الإنسان بالعقل يجعله قادرًا على التمييز بين الخير والشر، وقد ارتقى إلى درجة الكمال ببعثة الأنبياء[8].

كانت أول آية مؤذنة بأهمية التفكير:

كان أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وهو في غار حراء في عبادة الفكر والتفكر والخلوة لصفاء الذهن والتأمل في الكون وقومه؛ كانت يد الله تعده بلطف لتحمل الرسال؛ ولم يكن عبثًا أن تنزل أول آية لتقرع سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهي تدعو إلى العلم والتفكير؛ وهذا كافٍ على أهمية التعلم والتفكير في ديننا الحنيف؛ قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1 - 5].

وترك الإنسان منفتحا على العلم والتفكر في كل لحظة؛ فقال سبحانه: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].

ماهية العقل مصدر التفكير:

وردت مادة ﴿العقل﴾ في القرآن الكريم بمشتقاتِهِ الفعليةَ وفق الآتي:

  • ﴿تَعْقِلُونَ﴾ 23 مرة،
  •  ﴿يَعْقِلُونَ﴾ 22 مرة،
  •  ﴿عَقَلُوهُ﴾ مرة واحدة،
  •  ﴿يَعْقِلُهَا﴾ مرة واحدة،
  •  ﴿نَعْقِلُ﴾ مرة واحدة.

العقل في اللغة: من مادة (عقل) وهو الإمساك والاستمساك، وحَبْسَةٌ في الشيء؛ كَـ: عَقَلَ البعيرَ بالعقال، وعَقَلَ الدواءُ البطنَ، وعَقَلَتِ المرأةُ شعرَها، وعَقَلَ لسانَه: كَفَّه[9]، وفي حديث محمود بن الربيع: "عَقَلْتُ من النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو"[10]، وعرَّفه الأنصاري بالمنع[11]. ومنه قوله أنس بن مالك: قالَ رجُلٌ: يا رسولَ اللَّه أعقِلُها وأتوَكَّلُ أو أطلِقُها وأتوَكَّلُ؟ قالَ: "اعقِلها وتوَكَّلْ". يعني النَّاقَةَ[12].

واصطلاحًا: هو "ما يقع به التمييز، ويمكن الاستدلال به على ما وراء المحسوس"[13].

وعند استقراء النصوص القرآنية عهدنا بها الحث على النظر والتفكر والتأمل والتدبر، وإعمال العقل؛ حيث ورد القرآن الكريم بالأمر بالتعقل والتدبر، وإطلاق عنان التفكر وتأمل الآيات الكونية، في أكثر من سبعمائة وخمسين آية، بينما نجد آيات الأحكام الصريحة لا تزيد على مائة وخمسين آية.

وإن الله سبحانه لم يجعل حياة المسلم قائمة على الجهاد والانغماس في الابتلاء بأداء الواجبات ومختلف الطاعات فقط، وكأن التفكير والتدبر والتفقه في الكون المنظور والكتاب المسطور على الهامش؛ بل هو جزء من المسؤولية، إذ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، وكذلك إشارة القرآن الكريم إلى رحلة موسى عليه السلام إلى الخضر في طلب العلم: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ [الكهف: 60- 62].

أودع الله في الإنسان القدرة على التفكير:

حين نستقرئ النصوص القرآنية نجدها حافلة بذكر ما أودعه الله في هذا الإنسان من مواهب وقدرات وطاقة لو وظفها لانتهى إلى التفكير الصحيح وحقق إنسانيته؛ لأنه حيوان ناطق –أي: عاقل ومفكر-؛ وهذه بعض بصائر القرآن في الموضوع:

  1.  يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 78 - 79].
  2. قال سبحانه: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: 22].
  3. وقال: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [الأنعام: 36].
  4. وقال سبحانه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: 46].
  5. وقال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: 100].
  6. وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].

الإنسان لا يعد إنسانا ما لم يتخصص بالقرآن:

وهذه القاعدة تحتاج إلى إقامة البرهان عليها من خلال تدبر النص القرآني؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ﴾ [الرحمن: 1- 4].

ونحن انطلاقا من تفكيرنا الساذج والسطحي نتساءل: لماذا قُدِّم القرآنُ عن الإنسان وعن البيان؟ كأننا نرى المناسب أن يقول سبحانه: "الرحمن خلق الإنسان- علمه البيان- علمه القرآن" بمعنى أن خلق الإنسان أولا، ويليه خلق البيان في الإنسان، ثم تعليمه القرآن؛ حتى يكون الترتيب وفق مرادنا سليما لا وفق مراد الله، فلله العليم الحكيم ترتيب آخر؛ وهو الذي نحاول أن نستطلع منه الأسرار العميقة، واللطائف العزيزة، والحِكَم البالغة. وأحاول أن أمر على كتب التفسير التي اعتنت بالمسألة؛ لأرى أسرار الآية:

  • قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله:

"ولما عدّد نعمه تعالى، بدأ مِن نِعَمه بما هو أعلى رتبها، وهو تعليم القرآن، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به. ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلَّم، ذكره بعد في قوله: ﴿خَلَقَ الإنْسَانَ﴾، ليُعلم أنه المقصود بالتعليم"[14].

  • وقال الألوسي رحمه الله:

"ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسَانَ﴾؛ لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل: لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان، وهو كماله في قوة العلم، والغاية متقدمة على ذي الغاية ذِهْنًا، وإن كان الأمر بالعكس خارجا"[15].

  • وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

"وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان، وإلا من المعلوم أن خلق الإنسان سابقٌ على تعليم القرآن، لكن لما كان تعليم القرآن أعظمَ مِنَّةٍ من الله عز وجل على العبد قدمه على خلقه"[16].

  • قال الراغب الأصفهاني:

وأجود ما اطلعت عليه ما انتبه إليه الراغب الأصفهاني ونبه عليه لا في مفردات القرآن بل في "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" وهو بصدد الحديث عن شر الدواب قال: ".. ونبه تعالى بنكتة لطيفة على أن الإنسان لا يكون إنسانًا إلاَّ بالدين ولا ذا بيان إلا بقدرته على الإتيان بالحقائق الدينية فقال تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ﴾ فابتدأ بتعليم القرآن ثم بخلق الإنسان ثم بتعليم البيان، ولم يدخل الواو فيما بينهما وكان الوجه على متعارف الناس أن يقول: "خلق الإنسان وعلمه البيان وعلمه القرآن"، فإن إيجاد الإنسان بحسب نظرنا مقدم على تعليم البيان، وتعليم البيان مقدم على تعليم القرآن، لكن لما لم يُعَد الإنسان إنسانا ما لم يتخصص بالقرآن ابتدأ بالقرآن، ثم قال خَلق الإنسان تنبيهًا على أن بتعليم القرآن جعله إنسانًا على الحقيقة، ثم قال علمه البيان تنبيهًا على أن البيان الحقيقي المختص بالإنسان"[17].

توافق العقل الصريح مع النقل الصحيح:

لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه كتاب نفيس: "درء تعارض العقل والنقل" أو "موافقة صريح العقول لصحيح المنقول"؛ زبدته أن النقل الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع العقل الصريح، فلو وجد ثمة تعارض وتضارب فهو يرجع لما يأتي:

  1. إما أن النقل ليس صحيحا، وما أكثر الموضوعات التي تتناقض مع العقل!
  2. وإما لأن العقل ليس صريحا، وما أكثر ما يتبجح الناس بالعقلانية وهي أبعد ما تكون عن العقل عند تعارضها مع النقل؛ بسبب قيامها على الأهواء والشهوات والشبهات!
  3. وإما لأن النقل ليس صحيحا والعقل ليس صريحا فيقع التخبط والتناقض!

ومعنى هذا أن النقل الصحيح في كتاب الله تعالى وسنن المصطفى الصحيحة لا يمكن مطلقا أن تتعارض مع العقل الصريح!

لذلك كانت عبارة الشاطبي في معيارية المقاصد والمصالح بما لو عرض على العقول لتلقتها بالقبول!

والعقل مظنة التكليف كما يقول الأصوليون؛ لأن المجانين والمعتوهين ومن تبخر منسوب العقل عندهم ليسوا مكلفين!

وللغزالي والراغب الأصفهاني تمثيل وتشبيه رائع بين الشرع والعقل؛ نقتنص منه[18]:

العقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر؛ لهذا قال الله تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15 - 16].

والعقل كالسراج، والشرع كالزيت الذي يمده، فإن لم يكن زيت، لم يحصل السراج، وما لم يكن سراج، لم يضئ الزيت؛ قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ [النور: 35].

الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان.

إملاءات المشوشين عائق في التفكير:

توجد فئة في المجتمع خاملة محسوبة على البطالين الذين لا شأن لهم سوى ترويج الأكاذيب، ونقل الأخبار، ويعدون أبواقا للموروث المشؤوم من عادات الآباء والأجداد؛ وهم الذين عناهم الله في الآية الرئيسة التي نعالجها في هذا البحث؛ حيث إنهم قالوا: ﴿مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سبأ: 43]؛ وعليه؛ فهم ضحية وسائل الإعلام والدعاية والأخبار بعجرها وبجرها، ولم يمتلكوا عقلا يميز بين الصحيح والرديء، ولم يطلقوا عنان التفكير الصحيح؛ ليصلوا إلى الحقيقة؛ وقد دعاهم الله إليها لكن بإعمال التفكير على اختلاف ظروفه ومراتبه؛ ما يلقننا درسا بالابتعاد عن هذه الفئة الاجتماعية المضللة والمشوشة فطالما هي موجودة فقد تكون حجابا دون انفتاح القلوب وتحرر العقول وانطلاقة التفكير!

دلالات ﴿قُلْ﴾:

أي: قل يا أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين المعاندين، المتصدين لرد الحق وتكذيبه، والقدح بمن جاء به، قل لهم قولا بليغا، تكتنفه الحجة والعقل والبرهان؛ لكن فما سر ابتداء افتتاح الله تعالى الكلام بـ ﴿قل﴾؟

لابن عاشور كلام بديع يقول فيه: "افتتح الله تعالى هذه الآية بالأمر بالقول هنا وفي الجمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه .. وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين؛ لأن الله تعالى يقول في الآيات التي قبلها: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ  وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [سبأ: 43 – 45].. وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد ووصف صدودهم ومكابرتهم إلى دعوتهم للإنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها، استقصاء لهم في الحجة وإعذارا لهم في المجادلة ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42]. ولذلك اجتلبت صيغة الحصر بـ ﴿إنما﴾، أي ما أعظكم إلا بواحدة، طيًّا لبساط المناظرة وإرساء على الخلاصة من المجادلات الماضية، وتقريبًا لشقة الخلاف بيننا وبينكم. وهو قصر إضافي، أي لا بغيرها من المواعظ المفصلة .. أي إن استكثرتم الحجج وضجرتم من الردود والمطاعن فأنا أختصر المجادلة في كلمة واحدة، فقد كانوا يتذمرون من القرآن لأبي طالب: أما ينتهي ابن أخيك عن شتم آلهتنا وآبائنا. وهذا كما يقول المناظر والجدلي بعد بسط الأدلة فيقول: والخلاصة أو والفذلكة كذا.

وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره، فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهموا الإقبال على هذا النظر الذي عقدوا نياتهم على رفضه، فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهدًا … ولا يضيع عليهم زمنًا … فليتأملوا فيه قليلًا ثم يقضوا قضاءهم.

والكلام على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يخاطبهم به"[19].

دلالات ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ﴾:

والوعظ: كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده؛ يقول تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: 145].

أي: بخصلة واحدة، أشير عليكم بها، وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف، لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي، ولا إلى ترك قولكم، من دون موجب لذلك.

يقول سيد قطب: "وهي «بواحدة» .. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق. القيام لله.. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون"[20].

«واحدة» صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو: بخصلة، أو بقضية، أو بكلمة. والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريبًا للأفهام، واختصارًا في الاستدلال، وإيجازًا في نظم الكلام، واستنزالًا لطائر نفورهم وإعراضهم. وبنيت هذه الواحدة بقوله: ﴿أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ﴾؛ فالمصدر المنسبك من ﴿أن والفعل﴾ في موضع البدل من «واحدة»، أو قل: عطف بيان، فإن عطف البيان هو البدل المطابق. وإنما اختلف التعبير عنه عند المتقدمين فلا تخض في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا[21].

دلالات ﴿أَن تَقُومُوا لِلَّهِ﴾:

والقيام في قوله: ﴿أَن تَقُومُوا لِلَّهِ﴾: مراد به المعنى المجازي، وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 127].

واللام للتعليل، أي لأجل الله ولذاته، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة، وهذا عكس قوله تعالى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [العنكبوت: 25]، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته[22].

ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا؛ أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى: ﴿وأن تقوموا لليتامى بالقسط﴾[23].

ومعنى ﴿أَن تَقُومُوا﴾ أي لوجه الله خالصة لا لحمية ولا لعصبية بل لطلب الحق.

وفيه من النصح وتحاشي الهوى: مما ورد في معاني الآية إنما أعظكم بواحدة، وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى[24].

القيام من غير عصبية: أي: تقوموا قياما خالصا لله، من غير هوى ولا عصبية، فيسأل بعضكم بعضا: هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضا[25].

وفيها التجرد من كل مصلحة: يقول سيد قطب: إنها دعوة إلى القيام لله. بعيدا عن الهوى. بعيدا عن المصلحة. بعيدا عن ملابسات الأرض. بعيدا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله. بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة. والمؤثرات الشائعة في الجماعة.

دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها.

دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيدا عن الضجيج والخلط واللبس والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة.

وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات. وعلى مراقبة الله وتقواه[26].

دلالات ﴿مَثْنَى﴾:

يقول: يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان على المناظرة: هل علمتم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جنونًا قطُّ؟ ثم ينفرد كل واحد منكم، فيتفكر ويعتبر فردًا هل كان ذلك به؟ فتعلموا حينئذٍ أنه نذير لكم[27].

وكلمة ﴿مَثْنَى﴾ معدول بها عن قولهم: اثنين اثنين، بتكرير كلمة اثنين تكريرًا يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يعد بعدد اثنين منه مرصفًا على نحو عدده[28].

وهذا يجعلنا نتحدث عن الجانب المناظراتي في التفاكر والتفكير والحوار والحلقات النقاشية وكلها تصب في التعاون للوصول إلى الحق.

يقول سيد قطب: "مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء.. وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق"[29].

دلالات ﴿وَفُرَادَىٰ﴾:

وكلمة ﴿وَفُرَادَىٰ﴾ معدول بها عن قولهم: فردًا فردًا تكريرًا يفيد معنى الترصيف كذلك. وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3].

لماذا ﴿أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾؟

مثنى وفرادى أي وحدانا ومجتمعين.

وقيل: منفردا برأيه ومشاورا لغيره.

قال القتبي: مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه.

ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل؛ لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد.

وقيل: إنما قال: مثنى وفرادى لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد؛ والله أعلم[30].

أي: تنهضوا بهمة، ونشاط، وقصد لاتباع الصواب، وإخلاص للّه، مجتمعين، ومتباحثين في ذلك، ومتناظرين، وفرادى، كل واحد يخاطب نفسه بذلك.

فإذا قمتم للّه، مثنى وفرادى، استعملتم فكركم، وأجلتموه، وتدبرتم أحوال رسولكم، هل هو مجنون، فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته، وصفته؟ أم هو نبي صادق، منذر لكم ما يضركم، مما أمامكم من العذاب الشديد؟

فلو قبلوا هذه الموعظة، واستعملوها، لتبين لهم أكثر من غيرهم، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ليس بمجنون، لأن هيئاته ليست كهيئات المجانين، في خنقهم، واختلاجهم، ونظرهم، بل هيئته أحسن الهيئات، وحركاته أجل الحركات، وهو أكمل الخلق، أدبا، وسكينة، وتواضعا، ووقارا، لا يكون إلا لأرزن الرجال عقلا.

ثم إذا تأملوا كلامه الفصيح، ولفظه المليح، وكلماته التي تملأ القلوب، أمنا، وإيمانا، وتزكى النفوس، وتطهر القلوب، وتبعث على مكارم الأخلاق، وتحث على محاسن الشيم، وترهب عن مساوئ الأخلاق ورذائلها، إذا تكلم رمقته العيون، هيبة وإجلالا وتعظيما.

فهل هذا يشبه هذيان المجانين، وعربدتهم، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم؟"

فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلام هل هو رسول اللّه أم لا؟ سواء تفكر وحده، أو مع غيره، جزم بأنه رسول اللّه حقا، ونبيه صدقا، خصوصا المخاطبين، الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره[31].

أي تتفكروا في أمر محمد وما جاء به، أما الاثنان فيتفكران يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق. وكذلك الفرد يتفكر مع نفسه بعدل وإنصاف وبعرض فكره على عقله. ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أنّ الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر ويمنع الروية ويقلل الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب[32].

لماذا قدم مثنى على فرادى؟

وقدم ﴿مثنى﴾ لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوى ولا شبهة ولا يخشى فيه الناظر تشنيعًا ولا سمعة، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع، وهؤلاء- بما يلازم نواياهم من الخبث- تصحبهم جرأة لا تترك فيهم وازعا عن الباطل ولا صدًا عن الاختلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأ، ولا حياء يهذب من حدتهم في الخصام والأذى، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة.

فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا مثنى وفرادى فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرض لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه[33].

﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ﴾

وحرف ﴿ثم﴾ للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبيء صلى الله عليه وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبونه. والتفكر: تكلف الفكر وهو العلم، وتقدم عند قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50][34].

ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على ثم تتفكروا. وقيل: ليس هو بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة[35].

يقول سيد: "فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة. وما يقول شيئا يدعو إلى التظنن بعقله ورشده. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين"[36].

وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين، فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنصدق هل رأينا بهذا الرجل من جنة أي جنون أو جربنا عليه كذبًا ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه وليتفكر ولينظر. فإن في ذلك ما يدل على أن محمدًا –صلى الله عليه وسلم- صادق وأنه رسول من عند الله - عز وجل- وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون[37].

ولابن عاشور لفتات مفيدة جاء فيها: وقوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ [سبأ: 46] نفي يعلق فعل تتفكروا عن العمل لأجل حرف النفي.

والمعنى: ثم تعلموا نفي الجنون عن صاحبكم، أي تعلموا مضمون هذا. فجملة ما بصاحبكم من جنة معمولة ل تتفكروا. ومن وقف على تتفكروا لم يتقن التفكر.

والمراد بالصاحب: المخالط مطلقا بالموافقة وبالمخاصمة، وهو كناية عن التبصر في خلقه كقول الحجاج في خطبته للخوارج «ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر» يعني فلا تخفى على مقاصدكم. كما تقدم في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: 184][38].

لماذا التعبير بِصَاحِبِهِمْ؟

والتعبير بصاحبكم إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: ما بي من جنة إذ الكلام جار على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفا. وفائدته التنبيه على أن حاله معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تذر للجهالة مجالا فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 16][39].

لماذا الاقتصار في التفكر على انتفاء الجن عن النبي؟

والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجنة عن النبيء صلى الله عليه وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كاذب.

فابتدئ في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجنة عنه حتى إذا أذعنوا إلى أنه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن، قال تعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: 2] في السورة الثانية نزولًا. وقال: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ في السورة السابعة [التكوير: 22] وذلك هو الذي استمروا عليه قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ [الدخان: 14] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قالت عاد لهود: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ [هود: 54]، وقالت ثمود لصالح: ﴿قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾ [هود: 62].

فبقيت دعواهم أنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب ﴿حاشاه﴾.

فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما، فأما انتفاء السحر فبين لأنه يحتاج إلى معالجة تعلم ومزاولة طويلة والنبيء صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم لا يخفى عليهم أمره، وأما الشعر فمسحته منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة، فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله، وهذا يزيفه قوله: بصاحبكم فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذبا كما قال النضر بن الحارث: فلما رأيتم الشيب في صدغيه قلتم شاعر، ووالله ما هو بأولئكم. وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله: هل جربتم عليه كذبًا قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. قال: فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.

ومن أجل هذا التدرج الذي طوي تحت جملة: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ أعقب ذلك بحصر أمره في النذارة بقرب عذاب واقع، أي في النذارة والرسالة الصادقة[40].

دعوى لا يتصدى لها إلا مجنون أو عاقل:

قال الزمخشري: "أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلا رجلان: إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وإما عاقل راجح والعقل لا يدعي مثله إلا بعد صحته بالحجة وإلا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمد صلى الله عليه وسلم ما به من جنة بل علمتموه أرجح قريش عقلا وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا وأصدقهم قولا وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن يظنوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب"[41]ـ.

دلالات ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾:

فالقصر المستفاد من: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها. ومعنى: ﴿بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ﴾ القرب، أي قرب الحصول فيقتضي القبلية، أي قبل عذاب، وقد تقدم آنفا في هذه السورة، والمراد عذاب الآخرة[42].

"لمسة تصور العذاب الشديد وشيكا أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة لينقذ من يستمع. كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق. وهو تصوير- فوق أنه صادق- بارع موح مثير[43].

عن ابن عباس: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] ورَهْطَكَ منهمُ المُخْلَصِينَ، خَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حتَّى صَعِدَ الصَّفا، فَهَتَفَ: يا صَباحاهْ، فقالوا: مَن هذا الذي يَهْتِفُ؟ قالوا: مُحَمَّدٌ، فاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فقالَ: يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي عبدِ مَنافٍ، يا بَنِي عبدِ المُطَّلِبِ، فاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فقالَ: أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بسَفْحِ هذا الجَبَلِ، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: ما جَرَّبْنا عَلَيْكَ كَذِبًا، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ، قالَ: فقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لكَ أما جَمَعْتَنا إلَّا لِهذا، ثُمَّ قامَ فَنَزَلَتْ هذِه السُّورَةُ: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وقدْ تَبَّ﴾[44].

قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي:

قصة عجيبة أن جاء إلى مكة ومنعته قريش من الاقتراب من النبي صلى الله عليه وسلم؛ خوفا عليه من أن يسحره ببيانه، فيصبأ ويترك دينه ودين آبائه، وجعل في أذنيه شيئا حتى لا ينفذ إليهما شيء من كلام المصطفى حين يلقاه أو يحاذيه بالطواف؛ فحصل وهو يطوف بالبيت بالرغم من كونه شاعرا يعرف جيد الكلام من رديه كيف مورس عليه العنف في حريته وتفكيره؛ ولكن الله لطف به؛ فانبرى يستمع فاهتدى وهذه قصته كما يرويها ابن كثير في البداية والنهاية:

الطفيلِ بنِ عمرو الدوسيِّ وكان سيدًا مطاعًا شريفًا في دوسٍ وكان قد قدم مكةَ فاجتمع بهِ أشرافُ قريشٍ وحذَّروهُ من رسولِ اللهِ ونهُوهُ أن يجتمعَ بهِ أو يسمعَ كلامَه قال فواللهِ ما زالوا بي حتى أجمعتُ أن لا أسمع منهُ شيئًا ولا أُكلِّمُه حتى حشوتُ أذني حينَ غدوتُ إلى المسجدِ كُرْسُفًا فرقًا من أن يَبلغني شيٌء من قولِه وأنا لا أريدُ أن أسمعَه قال فغدوتُ إلى المسجدِ فإذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قائمٌ يصلي عند الكعبةِ قال فقمتُ منهُ قريبًا فأبى اللهُ إلا أن يُسمعني بعض قولِه قال فسمعتُ كلامًا حسنًا قال فقلتُ في نفسي واثكُل أمي واللهِ إني لرجلٌ لبيبٌ شاعرٌ ما يَخفى عليَّ الحسنُ من القبيحِ فما يمنعني أن أسمعَ من هذا الرجلِ ما يقول فإن كان الذي يأتي بهِ حسنًا قبلتُه وإن كان قبيحًا تركتُه قال فمكثتُ حتى انصرفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى بيتِه دخلتُ عليهِ فقلتُ يا محمدُ إنَّ قومكَ قالوا لي كذا وكذا الذي قالوا قال فواللهِ ما برحوا بي يُخوِّفونني أمركَ حتى سددتُ أذني بكُرْسُفٍ لئلا أسمعَ قولكَ ثم أبى اللهُ إلا أن يسمعني قولك فسمعتُ قولًا حسنًا فأعْرِضْ عليَّ أمركَ قال فعرض عليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الإسلامَ وتلا عليَّ القرآنَ فلا واللهِ ما سمعتُ قولًا قط أحسنَ منهُ ولا أمرًا أعدلَ منهُ قال فأسلمتُ وشهدتُ شهادةَ الحقِّ وقلتُ يا نبيَّ اللهِ إني امرؤٌ مطاعٌ في قومي وإني راجعٌ إليهم وداعيهم إلى الإسلامِ فادعُ اللهَ أن يجعلَ لي آيةً تكونُ لي عونًا عليهم فيما أدعوهم إليهِ قال فقال اللهم اجعل لهُ آيةً.."[45].

 ديدن القرآن القياس والبرهان:

حين تقرأ النصوص القرآنية على اختلاف مواضعها، وتنوع ظروفها وملابساتها، حين تصف وتحاجج تعتمد البرهان والحجاج العقلي، واستعمال القياس، والرهان على الفطرة والعقل؛ بل صارت للقرآن لغته الخاصة ومنطقه المختلف عن المنطق البشري؛ يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "في الحق إن أسلوب القرآن أسمى من الخطابة، وأسمى من المنطق، فبينما تراه قد اعتمد في مسالكه على الأمر المحسوس، أو الأمور البديهية التي لا يماري فيها عاقل، ولا يشك فيها إنسان، تراه قد تحلل من بعض قيود المنطق التي تتعلق بالأقيسة وأنماطها، والقضايا وأشكالها، من غير أن يخل ذلك بدقة التصوير، وإحكام التحقيق، وصدق كل ما اشتمل عليه من مقدمات ونتائج في أحكام العقل وثمرات المنطق؛ ولهذا نحن لا نعد أسلوب القرآن الكريم منطقًا، وإن كان فيه صدقه وتحقيقه"[46].

وهذه أنموذجات منفصلة توحي بعظمة هذا القرآن وجلال آياته:

  • قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22].
  •  وقوله تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: 91].
  • قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 75 - 79].
  • قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: 77- 82].
  • وقوه تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]. وقال في حقه: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 83].
  • وقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
  • قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: 30- 33].
  • قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف: 194- 195].
  • وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [القصص: 71- 74].

ذوو التفكير قدوات كبار:

لا يخفى أن العلماء وذوي التفكير السليم قدوات كبار في المجتمع والدولة والأمة والإنسانية فإليهم المهيع والمفزع، يسترشد بهم الناس عند الملمات ويستشيرون معهم عند الحاجة؛ فقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

وقد جعل الله العلم والتفكير علامة فارقة ومميزة لصنع القادة؛ فقال: ﴿قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: 247]. وهو السر في طلب سيدنا يوسف أن يكون مسؤولا كبيرا في الدولة؛ فقال: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55].

 وإن الأنبياء والمرسلين في أغلب الأعم وصفوا بالعلم والتفكير السديد والفهم الدقيق؛ ومن ذلك: ﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر: 53]، ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 74]، ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 79]، وفي موسى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [القصص: 14].

ما مهمة المفكر؟

قال الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله: "وأنا لست من محترفي السياسة الحزبية، ولكن ديني علمني أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

والذي يهمني في القضية –بصفة أساسية- هو الجانب الفكري فيها.

ولهذا فإني أتحدث هنا من زاوية السياسة والتاريخ. والذي يعنيني أولا هو مناقشة الأفكار وتصحيحها قبل أن يعنيني سرد الوقائع وتصنيفها.

إن مهمة الفكر في القضية أن يعمق الوعي بها، ويزيح الضباب والقتام من حولها، ويجليها للعقول والبصائر كما هي بلا مغالطة ولا تزييف ولا غلو ولا تحيز.

مهمة المفكر أن يعرفنا: من نحن؟ وما رسالتنا؟ وما دورنا؟ ومن عدونا وما حقيقته؟ وماذا يملك؟ حتى نكون على بينة من أمرنا.

مهمة الفكر أن ينظر إلى الغد البعيد، ولا يخطف بصره الحاضر القريب، إنما يستفيد من درس الأمس، وآلام البوم، لآمال الغد.

مهمة الفكر أن يوضح لنا الهدف ويرسم لنا الطريق، ويضع أيدينا على العقبات والمعوقات.

هذه هي مهمة الفكر ودوره. وهذا ما يجب أن يقوم به وخاصة في ديار الإسلام. فهل أدى الفكر دوره في ذلك؟"[47].

اضغط على زناد التفكير:

إننا حين نمتلك إرادة التفكير يكفي أن نضغط على زر الانطلاق، وزناد التفكير؛ لتنطلق شرارته بسرعة وسنجد أثر ذلك لا محالة؛ وهي سنة الله في الكون؛ وهذه بعض الأمثلة:

  • بالتفكير حاسوب يعوض الكتاب المدرسي بماليزيا.
  • نيوتن لو لم يملك التفكير الإبداعي لما اكتشف قانون الجاذبية بسقوط تفاحة عليه.
  • باسكال اخترع الآلة الحاسبة بامتلاكه للتفكير.
  • بالتفكير تستقيم الحياة السياسية وعلاقة الحاكم بالرعية.
  • بالتفكير السليم نحقق التنمية الاقتصادية.
  • بالتفكير الصحيح نحل المشكلات الاجتماعية.
  • بالتفكير نرقى ونسمو ونسعد.
  • بالتفكير العلمي نبني حضارة.
  • بالتفكير نستشرف المستقبل المشرق.
  • بالتفكير نتجاوز الأزمة مهما استحكمت حلقاتها.

طالب القرآن حين ينيخ في المحراب:

وأعجب من حملة القرآن والمتون الفقهية واللغوية كالأجرومية وألفية ابن مالك، وغيرها من نفائس التراث؛ فيبدؤون الطلب والدراسات بحماسة منقطعة النظير، ولكن بمجرد أن يجد وظيفة بإمامة مسجد من المساجد يوفر له منزل ويتزوج، يخلد الطالب توًّا للدعة والخمول، يصلي بالناس، ويعزم على موائدهم، ويأنس للجيرة ومرتادي مسجده، وفي كل مناسبة عقيقة أو زواج، أو عزاء؛ فهو المقدم والمكرم على كل حال، فأعدّه –مهما كانت ظروفه- قد اعتقل في المحراب إذ يكتفي بشيء مألوف وإن قل زاده ويؤثره على شيء متلوف وإن غلا ثمنه، فيقطع الأمل، ويتمثل نهاية التاريخ لفوكوياما!

حين يصير الزواج ثلاجة:

الطالب الذي ينقطع عن النشاط العلمي بمجرد زواجه؛ فكأنما كان يدرس لأجل تحقيق نزوته، وتلبية شهوته، من أجل التحصين والعفة والإحصان، وقد كان يلهب بالحماسة الحارقة، وكله تضحية وتطلع لما في العلياء، ولا يرضى بما دون النجوم، فإذا به حين يتزوج كأنما دخل ثلاجة جمّدت حرارة نشاطه، وصيرت جمرة الاجتهاد والتحصيل قطعة من جليد الخمول والكسل والعجز!

حين تعتقل الوظيفة صاحبها:

الطالب الذي تخمد جذوته العلمية بمجرد الوظيفة ليس على شيء، وكان المعول على أن تقدح شرارة البحث والتفكير بعد توفر شروط الحياة وعصب الحياة، لا أن نحط الرحال عندها، وتختفي شرارة البحث، وتخمد جذوة التفكير، ويختزل في أمور بيتية صرفة على الرتابة والروتين اليوميين وهناك أكبر همه مبلغ علمه ومنتهى أمله.

الزهد شيء جميل إلا في العلم:

إن الزهد مطلب شرعي؛ لتكون الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، وحتى لا يغتر الإنسان بوسائل الإغراء الزائلة؛ لأن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، والزهد والورع من سمات السالكين درب الهدى، وفيهما الاقتصاد والإحجام، لكن على مستوى العلم واستعمال العقل، والتفكير فلا ينفع الزهد، بل يجب الطمع والطموح وتفجير المواهب، وإطلاق سراح الفكر والابتكار والإبداع والعصف الذهني، وإنتاج الثقافة والوعي والخبرة والتجربة؛ بما يستقيم حال الأمة ومستقبل الإنسانية.

فليس زاهدا من يتفرغ للعبادة ويعطل مواهبه التفكيرية، ويعزف عن القراءة والتحليل والإضافة والابتكار وحل المشكلات والإسهام في نهضة الأمة!

كالطبيب تماما الذي يوجد في العناية المركز وغرفة الإنعاش ولديه مرضى يتساقطون واحدا تلو الآخر وهو متفرغ لورده وصلاة الضحى ثمان ركعات والتراويح بالليل .. فورده حينئذ وهو واجب الوقت العناية بالمرضى وإسعافهم ومعالجتهم!

التفكير الاستراتيجي:

لا يدرك بعض المتفاكرين أن التخطيط وعلم الإحصاء والاستراتيجية من فروض الكفاية، وإن أي تخلف لهذه العلوم والمهارات يعد شرخًا في التفكير الفردي والجماعي المؤسسي، وأزمتنا اليوم مركبة بين غياب الفكر الاستراتيجي من ناحية، والعجز عن التنفيذ لهذه الأهداف والرؤية والرسالة من ناحية أخرى!

فقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "احصوا لي كم يلفظ بالإسلام" وفي رواية للبخاري أنه قال: "اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس" قال حذيفة: فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل"[48].

وتأمل موقفه r في هجرته ففيها يتجلى التخطيط والتوكل الإيماني جنبا إلى جنب:

  • لقد أعد r من جانبه كل ما يستطيع البشر إعداده من الوسائل والاحتياطات.
  • ولقد اطمأن إلى المهجر الذي سينتقل إليه، بعد أن بايع المؤمنين من الأوس والخزرج بيعة العقبة الأولى والثانية، واشترط لنفسه أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم.
  • واطمأن إلى الرفيق الذي سيصحبه في رحلته الجاهدة بما فيها من أخطار، وما تحمله من مفاجآت ولم يكن هناك أفضل من أبي بكر رفيقا.
  • واطمأن إلى الفدائي الذي سبيت مكانه، معرضا نفسه لاحتمالات الخطر، وغدرات المتربصين، ولم يكن ثم أفضل من علي ابن عمه أبي طالب فارس الإسلام لهذه المهمة.
  • ورتب الدليل الخرّيت الذي يدله على الطريق، وما فيه من منعطفات ومخابئ يمكن أن تضلل عنه أعين الطالبين، فكان مشركا أمينا هو عبد الله بن أريقيط. وهو ما أخذ منها الفقهاء جواز الاستعانة بالخبرة الفنية غير الإسلامية مع الاطمئنان والأمان.
  • وهيأ الرواحل التي سيمتطيها هو وصاحبه ودليله في سفرهم الطويل، واتفقوا على المكان الموعود الذي يستقلون به الركائب.
  • وتخير المخبأ الذي يختفي فيه أياما معدودة حتى تخف حدة الطلب، ويتملك القوم اليأس، واختاره في غير طريق المدينة، زيادة في التعمية على القوم فكان غار ثور.
  • وأعد فريق الخدمة الذي يأتي بالزاد، والأنباء خلال أيام الاختفاء، فكانت أسماء وعبد الله بن أبي بكر، ومن بعدهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يأتي بغنمه فيحلبون منها ويعفّي على آثار أسماء وعبد الله.

خطة محكمة الحلقات، متقنة التدبير، ولم تترك فيها فجوة دون أن تملأ، ولا ثغرة دون أن تسد، ووضع فيها كل جندي في دوره المناسب لظروفه وقدراته، فدور أبي بكر، غير دور علي، غير دور أسماء، وكل في موقعه الصحيح[49].

التفكير الناقد:

من السهل جدا إصدار الحكم -دون تمحيص- على الأشياء بأنها سيئة أو جيدة، لكن من الصعب في أغلب الأعم بيان السبب في تصنيفنا للأشياء إن سيئا أو جيدا؛ من هنا فإن التفكير الناقد يساعد الفرد على تعليل وجهة نظره وجعلها مسوغة لدى العقلاء، مع ذكر الأسباب الحاكمة.

فالتفكير الناقد هو اعتماد معايير صحيحة يفحص في ضوئها المنتج الثقافي والفكري، والآراء والمعتقدات والاستدلالات، من أجل الوصول إلى نتائج وأحكام صحيحة.

والتعود على التفكير الناقد السليم يستفز فينا تساؤلات ذكية، ويضطرنا للبحث عن إجابات مقنعة ومعقولة؛ ويجنبنا الوقوع في مغبة الشبهات والإشاعات والأفكار الهدامة ويلهب فينا حس عدم قبول كل ما ينشر ويذاع؛ ويعمل –هذا التفكير- عبر جهد ذهني على خلخلتها وتنقيتها، ويوصف بالتحرر والاستقلال، وترسخ لدى الناقد ملكة النقد البناء؛ ولا يتقبل الأفكار على علاتها دون ميزان أو منخال، ولا يسلم بعجرها وبجرها ابتداء، ويفكر عميقا سابرا الأغوار بمنأى عن التسطيح للقضايا المطروحة، وإذا بحث أو ناقش أو ناظر يحدد محل النزاع ولا يضرب في غير عدو، أو يشتط خروجا عن جوهر الموضوع، والتشظي في جزئيات تقطع الوصل بمتين القضية، ويلتزم بوحدة الموضوع دون استطرادات مخلة، ويعين إشكالية البحث، ويطرح أسئلته بموضوعية، ويسعى لإيجاد الحلول المعقولة، ولا يتحيز تحيزا مفرطا للأشخاص على حساب الأفكار، ويتسم بالصدق والشفافية في طروحاته، وينصف المخالف حين يصيب كبد الحق.

ضعف النقد الذاتي:

أول ما يشكو منه ذوو البصائر داخل الحركات الإسلامية بمعناها الواسع أن النقد الذاتي فيها ضعيف إن لم يكن غائبا في بعض الأحيان.. وسيد قطب غيّر من مواقفه الفكرية خلال مراحل حياته الحافلة، وانتقل من مجرد أديب ناقد مبهور ببلاغة القرآن: مرحلة "التصوير الفني" و"مشاهد القيامة في القرآن" إلى كاتب إسلامي يدعو إلى عدالة الإسلام ونظامه للحياة: مرحلة "العدالة الاجتماعية" و"السلام العالمي في الإسلام" ثم إلى داعية حركي له أفكاره الخاصة في منهج التغيير والنظرة إلى المجتمع، والدعوة إلى العقيدة بدل الدعوة إلى النظام: مرحلة "معالم في الطريق" و"الطبعة الثانية من الظلال".

وقد ذكر ذلك من نفسه لعض تلاميذه، فقال له أحدهم: إذن أنت لك مذهبان: قديم وجديد كالشافعي، فقال له: نعم، ولكن الشافعي غيّر في الفروع، وأنا غيرتُ في الأصول[50].

نظرية المؤامرة أم القابلية للاستعمار:

ما أيسر على الإنسان أن يفسر كل الظواهر بفعل المؤامرة؛ فيلقي باللائمة على الاستعمار والصهيونية وأصحاب الأيديولوجيات المناوئة، وهو في الوقت نفسه يبرئ جانبه ويلمع شخصيته وأنه براء من التخلف والانحطاط والواقع البئيس والاهتراء؛ والله تعالى هو القائل: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165]. حيث كانت فيه محاولة للتملص من المسؤولية فردهم القرآن إلى مصدر المصيبة؛ وهي الذات!

والأمر نفسه حين وقع لقوم ربطوا الأزمة الاقتصادية والقحط والمجاعة بدخول الأنبياء والرسل الثلاثة لإصلاحهم فتشاءموا وزعموا أنهم مصدر هذا الشؤم والتطير؛ حيث: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يس: 18].

لكن القرآن رد شؤمهم على أنه معهم وأسبابه داخلية وليس قادما من الخارج؛ فانبرى أنبياء لبيان مشكلاتهم وحقيقة أزمتهم إذ: ﴿قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ۚ أَئِن ذُكِّرْتُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ [يس: 19].

ولعل مالك بن نبي انتبه إلى هذه الحفرة في الخارطة الذهنية وعالجها بنظرية القابلية للاستعمار؛ أي أن الاستعمار لا يحقق أغراضه التوسعية إلا إذا كانت فيه قابلية له بسبب التشرذم الداخلي وتخلخل الجبهة الداخلية!

الشمس والقمر من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته:

روى مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله قال: كسَفَتِ الشَّمسُ على عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان ذلك اليومَ الذي ماتَ فيه إبراهيمُ ابنُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال النَّاسُ: إنَّما كسَفَتْ لموتِ إبراهيمَ، فقامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فصلَّى بالنَّاسِ.. فقال: "يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ الشَّمسَ والقَمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ، وإنَّهما لا يَنكسِفانِ لموتِ بَشرٍ، فإذا رَأيْتم شيئًا من ذلك فصَلُّوا حتى تَنجَليَ.."[51].

وفي رواية: "قالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِن آيَاتِ اللهِ، وإنَّهُما لا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُما فَكَبِّرُوا، وَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا"[52].

ومعناه أن أي ظاهرة كونية أو مشكلة في خلق الله؛ ينبغي أن تدرس أسبابها وتقدم الافتراضات والاحتمالات ثم الوصول إلى تفسير الظاهرة. وهكذا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التفكير العلمي، والارتماء في أحضان التفسير الغيبي، وعدم ربط الظواهر الكونية بمعتقدات الناس، وموروثات في مخزون الشعوب، وأن مثل التعليلات تحتاج إلى وحي، فإن يكن فالأولى إمرارها كما جاءت والاعتبار بها دون تأويلها تأويلا قد يكون فيه شيء من التألي على الله تعالى! ولا سيما في عصر الفتن والجوائح حين يتصدر بعض الوعاظ بتفسير الجوائح أنها عقوبات على قوم كذا بسبب كذا وإذا بها تزورهم في بلادهم وتأتي على أخضرهم ويابسهم!

سيكلوجية التعميم من غير مسوغ:

إن التعميم يمر بمنهج علمي رصين نسميه في المنهج العلمي بالاستقراء؛ ويكون بعد تصفح جزئيات كثيرة، نستطيع أن نصل عبرها إلى أمر كلي، وقاعدة مطردة، أما البداءة بالتعميم لأول وهلة فهو سلوك لا يتواءم والتفكير الصحيح، وذلك على غرار ما عابه الإسلام في الحياة الزوجية من كفران العشير أن تقول المرأة لزوجها أو العكس: "ما رأيت منك خيرا قط" والحياة كانت جميعها مفعمة بالود والأخذ والعطاء والتعاون؛ لكن في لحظة من لحظات الغضب يلغى هذا التاريخ برمته، فهذا لا يتوافق وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 237].

وكذلك من يستمع لمجرد خبر نكرة في بلاد الوقواق فينبري لجعله قاعدة يحاكم في ضوئها الناس ومن حوله من ذوي القربى، وربما يفتات على وطنه وبني جلدته، وتبدأ الشكوك والظنون، فما أقبح الاستعجال! وما أقبح التعميم من غير مسوغ!

هب أن طالبا متدينا رسب، فهل الرسوب ظاهرة المتدينين؟ أو العكس؟

هب أن قاضيا أخذ رشوة فهل نعمم على صعيد كافة القضاة أنهم يتقاضون الرشاوى، وعليه؛ نلغي القضاء؟

وأن من تحت عصمته أكثر من زوجة وأساء التعامل معهم فهل تعميم شؤم التعدد والتشنيع عليه؛ وبالتالي نلغي التعدد!؟

وما أكثر هذا التعميم في وصف دول بتصرف يتيم وقع معه؛ فيحكم على شعب بأكمله بالعنصرية والتمييز بين الناس، أو يحكم بأن البلد الفلاني نساؤه يتعاطين للدعارة، أو يسحرن الرجال ويأخذن بهم أزواجا لهم منسلخين عن زوجاتهم وأولادهم، ويحكم على كل المنهج السلفي بالحرفية والانغلاق، أو على كل الصوفية بالغلو والانحراف، أو يحكم على العرب بالغباء وكأنهم ولدوا أغبياء، أو على غير المسلمين كلهم ظالمون؛ وينسى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النجاشي قبل أن يسلم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة؟ فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي -أرض صدق- حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه"[53].

ومن يعمم أن كل مشاركة سياسية أو برلمانية فقد اعترف بالكفر والمؤسسة التي لا تحكم بما أنزل الله ونسي المسكين في تعميمه أن سيدنا يوسف الصديق مع الملك: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 55- 56].

الشخصنة وعدم الموضوعية:

أي شيء يجعله شخصيا، ويفسر كل شيء على أنه هو المعني به والمقصود؛ وهذه حالة وصف الله بها المنافقين حين قال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: 4].

وأن بضاعة العاجزين والضعفاء تبدأ بالشخصنة والخروج عن جوهر الموضوع وصلب القضية، ويقع الانفلات عن محل النزاع بسبب الشخصنة، وأما المقتدرون ذوو التفكير السليم، يعالجون القضايا بكل نزاهة وموضوعية لا تمت إلى الأشخاص بصلة، فهو يناقشون الأفكار!

التفكير المزدوج:

 ما أقبح أن يستحوذ على الإنسان تفكير مزدوج؛ يرى فيه العالم أبيض أو أسود ولا توجد فيه ألوان أخرى، كما خلقها الله؛ ويذكرنا هذا بالرئيس الأمريكي بوش الابن حين قال: حددوا موقفكم إما معنا أو ضدنا، وقد لا أكون معك ولا ضدك، أو أكون معك في أمور، وضدك في أمور أخرى؛ لماذا يعملون على تنميط الشخصية على التفكير المزدوج وهو قالب يصدره النظام الدولي الجديد وهو النظام الأمريكي.

والأمر نفسه في برنامج الاتجاه المعاكس الذي انقلبت بعض حلقاته إلا اتجاه مشاكس، فيأتي معد البرنامج بشخصين ظنا منه أنهما على جبهتين متقابلتين، وقد أتابع أحيانا بعض تلكم الحلقات المهمة؛ فتفكيري لا ينزع لأحد الرأيين، لا أميل لا إلى هذا ولا إلى هذا وكلاهما في رأيي خطأ، وأن الصواب خارج نطاقهما! والرأي عند الفقهاء الراسخين في العلم يدور بين الخطأ والصواب؛ شعارهم: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، لكن في عالم الأفكار وما نحن بصدد معالجتها ومقاربته فقد يكون الصواب خارج المختلفين المتناظرين، بمعنى "رأيي ورأيك خطأ يحتمل الصواب خارج النطاق"؛ وهذا مستوحى بالإشارة من معين قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: 24].

 هيمنة الحزبية والأدلجة:

وأحيانا تذكر أمامي شخصيات علمية مرموقة إما ذات طابع سلفي أو طابع صوفي، أو طابع لبيرالي، فالمدارس والمشارب تصنف بحسب لوائحها الحزبية، ومنطلقاتها الفكرية، وحساباتها الأيديولوجية، فطائفة تقدس وترفع مقامه على علاته وتتأول كل مخالفاته وشطحاته وشذوذه الفكري والفقهي، وطائفة تدنس وتلغيه مهما كانت له من حسنات وإيجابيات ورونق ونجومية وعطاء وإشعاع، وحين أتأمل أقول أنا مع فلان في مجال كذا لا يشق له غابر، ولكنه في كذا خرج من حاله وتكلف ولم يبدع بل أتى بالبلاوي إذ كل من خاض فيما لا يتقن يأتي بالعجائب، وهكذا لا أقدس ولا أدنس، وأعرف لكل ذي فضل فضله، ولكل ذي رأي وجهه من الحق والصواب، وأعتب بالدليل على الهنات والشروخ أو حين يتلكّأ سواء السبيل، وهي رؤيتي الوسطية التي تجعلني أقف على مسافة واحدة من كل الأشخاص الذين لا نحاكم نياتهم وقصودهم، بل العبرة بأعمالهم وما قدموه للأمة وكلهم يصدر من حب هذا الدين الحنيف، وقد تخونه العبارة هنا وينكسر قلمه هناك، فالاختلاف لا يفسد للود قضية، شعاري الذي نحته "لا نقدس ولا ندنس".

دعاة لا قضاة:

هذه أعدها حكمة بالغة من الشيخ حسن الهضيبي في أحلك ظروفه، حتى مع الذين شدوا النكير عليه، وزجوا به وراء القضبان، وكل المخالفين الذين لا يرعون في الدين والمروءة والنخوة إلا ولا ذمة، نحن المطلوب منا أن ندعو ونقيم الحجة ونفكر ونتفاكر، ونناقش ونناظر إن اتسعت الصدور كل ذلك بين لين وشد، وجزر ومد، وأخذ ورد، والحوار لا يفسد للود قضية، كما أن العصمة لا تثبت لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، والناس شركاء في الرأي والفكر، فلا داعي للتكفير ولا التضليل ولا الحكم على الناس بأن هؤلاء من أهل النار وهؤلاء من أهل الجنة، وتصنيف الناس على الأهواء والشبهات وبعض الفروع في الدين، فعلى العقلاء في عملية التفكير أن يبثوا أفكارهم التنويرية، من باب البلاغ المبين، ولا يلزم أن يتبناها الإنسان بالضرورة، فإذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يرجو أن يسلم قومه قال الله في حقه: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]. فما أكثر من يمارس العنف بأفكاره، وكأنه الوحيد في هذا الكوكب يمارس وصايته على الخلق ويجادل بغير علم ولا كتاب منير، وما أشنعه على بعض الدعاة الذين يفرضون أفكارهم وفي أغلبها سعة للتداول واختلاف وجهات النظر، وإن لم تسلم له في آرائه ومقترحاته وتوجهاته شنع عليك وشغب وكأنما خالفت جماعة المسلمين وإمامهم، أو خلعت ربقة الإسلام من عنقك، والله المستعان!

التفكير التجزيئي:

يعجبني التمثيل بقصة العميان على النظرة التجزيئية، حيث وضع بين يديهم فيلٌ، وطلب من كل أعمى أن يصف الفيل؛ فصدق الجميع، وكل واحد وصف ما وقعت عليه يده، فمن وضع يده على الخرطوم وصفه الفيل بأنه أسطوانة رخوة طويلة، ومن وضع يده على ظهره، ومن وضع يده على نابه، وعلى ذيله، وعلى خفه وهكذا. مهما كانت دقت التوصيف لكنها لم تخرج عن التجزيئ، وصف جزء فقط، والافتقار إلى اكتمال الصورة الحقيقية للفيل، وربما ضاع الوصف، وكأنه جماد لا حياة له بخصوص من وصف الناب شيء صلد أملس صلب وهكذا.

فعجيب عن أولئك الذين اختزلوا الإسلام في القصاص والحدود، ولم يعرفوا مكانته في منظومة الأخلاق والقيم! وتمتشق ألسنتهم توصيفات نارية، وكلمات نابية في حق تعاليم الإسلام ووصفه بنعوت لا تمت إلى سماحته وواقعه بصلة!

أو من يحكم على أن الإسلام ظلم المرأة بأن جعل نصيبها نصف نصيب الرجل؛ ولم يقرؤوا منظومة توزيع التركات كاملة في الفقه الإسلامي ولها حصص ضعف الرجل!

وعجيب من يختزل الدين في القتال وجهاد العدول وينقل ذلك في ثقافته لأولاده فلا تعليم ولا تربية ولا قيم فقط الحديث عن القتل والجهاد!

أو من يختزل الإسلام في روحانية ورهبانية عزلت الدين عن الدنيا، وألغت التجاوب مع مقتضيات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، رهبانية ما أنزل الله بها من سلطان، ويعطل التداوي والمخالطة الإيجابية بالناس وشعاره "اتخذ الله صاحبا ودع الناس جانبا".

 وحتى في البحث العلمي نقرأ بعض التعريفات التي أحسبها خداجا غير تمام، علما أن التعريفات مفتاح العلوم؛ وشرطها أن يكون التعريف جامعا مانعا؛ جامعا لكل ما يتصل بالمعرَّف، مانعا لكل ما لا تربطه علاقة به، فلو أنه عرف تعريفا ركز فيه على جزء لكان فيه من الحيق والبتر ما لا يخفى؛ وهو ما نراه في عالم الأفكار اليوم!

وفي أصول الفقه باب معلوم بتجزؤ الاجتهاد، وأنه لا بأس به بشرط أن يكون على اتصال بالأصول الأخرى، نظرا لتكامل القواعد والأدلة والعلوم الإسلامية!

وفي الاجتهاد نوعان: اجتهاد إنشائي يقوم على إنشاء حكم جديد لنازلة جديدة، واجتهاد انتقائي ينتقي من التراث الفقهي ما يناسب عصرنا وحاجتنا، وأما انبناء الاجتهاد الانتقائي على الاختيار المشبوه في الترخص والتشهي في الأحكام فهو ما لا يليق دينا ومروءة!

 وكذا في عالم التفسير والتعليل؛ لا نقبل بالتجريد الانتقائي الذي يجرد كلام الغير ويقطعه تقطيعا ويحاكم كل قطعة على حدة من المفسرين وغيرهم.

الاجترار في الأفكار:

وهو ما نسميه في منهجية البحث العلمي بالتراكمية حيث يجب أن ينطلق الباحث من حيث انتهى غيره وتوصل إليه من سبقوه، لا أن يراوح مكانه، ويجتر في عناوين وموضوعات مقتولة بحثا، وينبغي أن يوجه تفكيره في مجال بكر؛ ليبدع فيه، يصحح الأخطاء ويكمل الخطوات. إن النظريات العلمية نسبية؛ لأنها تتطور باستمرار ولا تقف عند حد معين؛ وهي لا ترتبط بباحث معين أو عالم معين!

الثالوث المظلم في التفكير:

إن التفكير الصحيح ينبغي أن يقوم على النزاهة والتجرد، والإنصاف والموضوعية، والعمق وسبر الأغوار، والواقع والتوقع، والحال والمآل، لكن ينبغي أن يتجرد من الثالوث المعتم المشؤوم الذي هو ضربة لازب لكثير من المحسوبين على الساحة الفكرية؛ والثالوث هو:

  1. النظرة الدونية للذات.
  2. النظرة الحاقدة للآخرين.
  3. النظرة التشاؤمية للمستقبل.

البعد المنهجي في التفكير:

المنهج في اللغة من مادة (نهج) وهو الطريق الواضح؛ وأما في الاصطلاح فلا يعدو أن يكون المنهج "هو فن التنظيم الصحيح لسلسلة الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، وإما من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين"[54].

إذن فالتفكير الصحيح ليس قائما على العشوائية والاعتباط دون التزام بمنهج سديد يتفق عليه العقلاء في علم المنطق والكلام والمناظرات والحوارات الحضارية الكبرى؛ وهو إرث ثقيل يلتزم التسلسل المنطقي للأفكار والاستقراء الكمي، والتحليل النوعي، من أجل الوصول إلى نتيجة سليمة وصحيحة.

المنهج الاستقرائي:

 ويرتكز هذا المنهج على التحقق بالملاحظة المنظمة الخاضعة للتجريب مع التحكيم في التغيرات المختلفة؛ ليصل في النهاية إلى قوانين عامة. وصاحب هذا المنهج لا يلقي الكلام على عواهنه، بل يستقرئ ويتصفح جزئيات كثيرة وهو شديد الملاحظة في عالم الأفكار والأشياء والأحداث؛ من أجل تقرير الحكم النهائي، أو التعميم، على خلاف أولئك الذين تضج بهم اليوم مواقع التواصل الاجتماعي والعالم الأزرق من تعميمات وتهويلات أو تهوينات بمجازفة واعتباط لم يسبق له نظير!

المنهج الاستدلالي الاستنباطي:

وهو الذي يربط بين الأشياء وعللها على أساس المنطق والتأمل الذهني. وعادة ما يبدأ هذا المنهج بالكليات؛ ليصل إلى الجزئيات. إن التفكير الاستنباطي إذًا هو عبارة عن نشاط عقلي يسعى المفكر الاستدلاليُّ الاستنباطيُّ من خلاله للوصول لاستنتاج معرفة جديدة وصحيحة في ضوء معلومات وافتراضات ومقدمات وقواعد منطقية سابقة؛ حيث يعتمد التفكير الاستنباطي على عملية الاستدلال المنطقي تماما.

تطوير المنهج الوصفي:

ونحن نتحدث في قواعد التفكير السليم في ضوء الآية ﴿ثم تتفكروا﴾ لا بد من استلهام المناهج الصحيحة التي تسهم في نضج التفكير الصحيح من أجل تعميقه وتلقينه للأجيال القادمة؛ نظرا لوجود ما أسميه بـ(الخمول البحثي) القائم على المنهج الوصفي –في شقه السلبي-؛ إذ يكتفي صاحبه بجمع المعلومات فقط، ووصف الظاهرة، وهي أسهل ما يلتحده الباحثون؛ لأنه غير مكلِّف، والحق أن تحديثه وتحيينه يقوم على التحليل وفلسفة التركيب، لا يعتمد المنهج الوصفي -كما يعتقد البعض- على مجرد وصف ظاهرة معينة موجودة ومعزولة وكأنها في جزيرة منفصلة؛ بل:

  •  بل يتعدى ذلك إلى اكتشاف الحقائق،
  •  وآثارها،
  •  والعلاقات التي تتصل بها،
  •  وتفسيرها،
  •  والقوانين التي تحكمها.

حينئذ نكون قد تجاوزنا الوصف الإنشائي للظواهر والقضايا؛ وينغي أن يخضع المنهج الوصفي نهج الدراسات المسحية التي ترتكز أساسا على دراسة الجوانب المختلفة للظاهرة أو المشكلة قيد البحث والتفكير والمعينة في بيئتها ومحيطها، فالغاية إذًا من انصباب المسح على عينة في المجتمع أو ظاهرة محدودة هو تحديد طبيعتها ومعرفة خصائصها بصورة مركزة وموضوعية للوصول إلى تعميمات بشأنها؛ فيتقاطع الوصفي بالاستقرائي ولا جزر تفرق بين المناهج! بل يجب أن يعنى المنهج الوصفي بالدراسات المتعلقة بالعلاقات المتبادلة: فهي تحاول أن تربط بين المتغيرات المختلفة مع بعضها، وتحدد العوامل المشتركة تعليلا وتقصيدا؛ في أفق تحليل الأسباب الحاكمة علاوة على تحيينها بالدراسات التطويرية؛ في التركيز والمتابعة لتطور الظاهرة المقصودة في البحث؛ على غرار دراسة النمو عند الإنسان وتطور قدراته أثناء نموه وهلم جرا.

الجمود على المنقول:

لعل من عوائق التفكير الفقهي الرصين الجمود على المنقول بشكل حرفي وتنزيله منزلة النص المعصوم، ولا يملك المقلد حينئذ أن يتقدم عليه أو يتأخر عنه، على الرغم من تغير ظروفه وبيئته وأحوال الناس؛ قال الإمام القرافي: ".. والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"[55].

وهو ما عطل مصالح كثيرة في زمن التطورات من غير مواكبة ولا تفعيل لعوامل السعة والمرونة في التشريع الإسلامي الحيوية؛ لذلك صرح ابن عابدين أن: "المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله وإلا يضيع حقوقا ويكون ضرره أعظم من نفعه"[56].

نبذ التقليد الأعمى:

قرر القرآن الكريم في مواضع كثيرة تحرير التفكير الإنساني من الاتباع الأعمى، كما هو شعار الكنيسة "اتبعني وأنت أعمى"، أو شعار المتصوفة الغلاة "من قال لشيخه: لِمَ لم يفلح أبدًا"، بل أكد على ذم التقليد البليد بغير علم ولا هُدًى ولا كتاب منير؛ فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104]، ونعى على الكفار –في غير ما آية- أنْ لم تكن لهم حجة إلا اتباع آبائهم: ﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾ [يونس: 78].

معرفة الاختلاف ووجهات النظر:

كيف يكون التفكير سليما إذا ارتدى صاحبه نظارة بلون معين كالأسود فسيرى العالم من حوله أسود، لذلك لزم لسلامة التفكير الاطلاع على وجهات النظر المختلفة، والاختلاف الحاصل في المسائل المتنازع فيها، وأن يقلبها من كل جوانبها ليهتدي إلى عين الصواب؛ والمقولة المأثورة عن سفيان الثوري: "من لم يعرف الخلاف لم يشم أنفه رائحة الفقه".

معرفة الأشباه والنظائر:

لا يسوغ في الفكر والفقه الاكتفاء بنظير واحد أو شبه للمسألة؛ فإن تعميق النظر في الأشباه والنظائر يورث النتائج الصحيحة؛ وهذا علم قائم بنفسه، ألفت فيه مؤلفات رصينة؛ يقول الإمام ابن السبكي متحدثا حالة من الاستنباط في رتبتها الدنيا: ".. من إذا ذكرت له المسألة انتقل ذهنه إلى نظيرها، فإن كان حافظا وهي مسطورة اكتسب باستحضار النقل فيها كيفية أخرى وقوى متجددة، تولدت من اجتماع النظرين لم تكن قبل ذلك –وهذا عمدة باب الأشباه والنظائر- فإن الفقيه الفطن الذاكر، إذا سمع القاعدة وفروعها انفتح ذهنه لنظائرها، ووصل بالقاعدة لما لو لم يكن منقولا لكانت قواه تفي به"[57].

المصالح التحسينية لا تهمل:

ذوو التفكير الساذج عندما يقرؤون مراتب المصالح من حيث القوة: ضرورية وحاجية وتحسينية، يتنازلون عن التحسينية بدعوى أننا منهمكون في تحقيق ما هو ضروري وحاجي وأما ما كان فضلًا من قبيل التحسينيات والكماليات فلا نلتفت إليه البتّة بله أن نعيره اهتماما في سلم أولوياتنا الراهنة؛ وجهل المساكين حقيقة هذه المصالح؛ فتأملوا تعريفها عند العلامة ابن عاشور قال: "والمصالح التحسينية: هي عندي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها، حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبا في الاندماج فيها أو في التقرب منها"[58].

التفكير المتصالح:

ما أحوج شبابنا اليوم إلى عاطفة متعقلة، وتفكير متصالح غير مندفع، يسهم في البناء، ويحتوي المشكلات، يحترم ما هو أصيل، ويغربل كل دخيل، ويتعاطى مع الواقع باصطلاح وتصالح معه، لا بعنف وتراشق وتصادم، بل إن ديدنه العقلانية المتفاعلة تفاعلا إيجابيا مع مختلف المشكلات المطروحة في واقعنا المحلي أو المستوردة من إشكالات العولمة وشبهات الحداثة.

التفكير الوسطي:

إن التفكير الذي نريده هو القائم على منهج الوسطية والاعتدال والحكمة في الرأي والحلم والأناة، ويستوعب الحال ويشرئب للمآل، دون مغالاة في تقديس ما ليس من قبيل النصوص الشرعية الصحيحة والصريحة، ويختار الأيسر دون تفريط أو إفراط، ويقدم الحلول العملية لمشكلات الحضارة المعاصرة، ويسهم في عملية الإصلاح في عالم الأفكار والتصورات، وكل التصرفات القائمة عليها.

هذا، وقد استقرأ سماحته الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله جملة من المعالم بالاحتكاك بالتراث الإسلامي واستقراء النصوص، واستقصاء أقوال الفقهاء والحكماء، وبالنضج والتقصيد اهتدى إلى ثلاثين منها؛ هي[59]:

  1. العلم الراسخ والفهم الشامل والمتوازن للإسلام.
  2. الإيمان بمرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية.
  3. تأسيس العقيدة على الإيمان والتوحيد.
  4. التقرب إلى الله وحده بما شرع من العبادات.
  5. تزكية النفس بمكارم الأخلاق.
  6. الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  7. ترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية.
  8. احترام العقل بجوار الوحي.
  9. تجديد الدين من داخله، والاجتهاد من أهله في محله.
  10. الدعوة إلى فقه جديد، فقه في الكون وفقه في الدين.
  11. إنصاف المرأة وتكريمها والحفاظ على فطرتها.
  12. العناية بالأسرة نواة للمجتمع.
  13. تكوين المجتمع الصالح المتكافل.
  14. الإيمان بوجود الأمة الإسلامية ووحدتها والولاء لها.
  15. إقامة الدولة العادلة حاملة الدعوة.
  16. تجنُّب التكفير والتفسيق إلا ببينِّة.
  17. تقوية اقتصاد الأمة وإقامته على أسس إسلامية.
  18. الإيمان بضرورة التعددية والتعارف والتسامح بين الشعوب.
  19. إنشاء حضارة العلم والإيمان.
  20. الرقي بالفنون وتوظيفها في خدمة رسالة الأمة.
  21. عمارة الأرض وتحقيق التنمية ورعاية البيئة.
  22. السلام مع المسالمين والجهاد مع المعتدين.
  23. العناية بالأقليات الإسلامية في العالم.
  24. العناية بالأقليات الدينية في مجتمعاتنا الإسلامية.
  25. تبني منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.
  26. رعاية سنة التدرج وسائر سنن الله.
  27. الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.
  28. وضع التكاليف في مراتبها الشرعية.
  29. ضرورة الإصلاح الشامل والتغيير الجذري.
  30. الانتفاع بتراثنا الغني بما فيه من علوم وفنون وآداب.

التفكير التجديدي:

إن التجديد ضربة لازب في الخلق، تموت خلايا وتخلق أخرى، وتتجدد الدماء في عروق البشر، وتسير الحياة على أنماط اللاحق يضيف على السابق، والسابق يصبح في خبر كان، ويمكن القول: "من لم يتجدد يتبدد، ومن لم يتطور يتدهور والماء الراكد يأسن"، والمدار في قضايا التجديد على حديث: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[60]. ومعناه قائم على تجديد الدين، وترشيد التدين أو تجويد التدين بتعبير أحمد الريسوني[61].

التفكير الجماعي:

وهو التفكير المؤسسي أو القائم على عمل الفريق، التفكير المتعاون الذي يرمي إلى بلوغ ذروة الحق، وقمة الصواب التي لا تدرك بالجهد الذهني الفردي، المنبثق من حبال أفكار آحاد الناس هنا وهناك.

ثم إن هنالك هفوات وهنات في عمل بعض القطاعات الفكرية والنهضوية نتيجة تراكمات قديمة، بعضها يفضي إلى بعض في تسلسل مشؤوم، ومعالجته لا تتم بالمشاريع الفردية، وإنما بالتفكير الجماعي، ولا سيما عندما نتحدث عن التجديد الشامل، والإصلاح الكامل، فهو يحتاج إلى إعداد جماعي، وهذا يقتضي ضربا من التفكير الجماعي المؤسس على مستوى التخطيط والاستراتيجية، وعلى مستوى الجهد الجماعي في التنفيذ والتنزيل والإنجاز. ولو وكل إلى أحزاب وحكومات ووزارات وشَعْب وشُعَب، ودول ومنظمات لكانت له ثمرات مرضية وآتى أكله كل حين بإذن ربه. وإلا ستظل شعارات المصلحين وزعماء الإصلاح صيحات في واد ونفخات على رماد، ولا حياة لمن تنادي.

حين تصمت المؤسسة الدينية:

عندما تصمت المؤسسة الدينية كالقرويين والزيتونة والأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء وغيرها من مجالس الفقه ومجامع العلم فتفرغ من محتواها؛ هناك يظهر من يملأ الفراغ فإذا صمت الأزهر عن كلمة الصدق، فسيتكلم دعاة الزور، وإذا قصر أو تخلى عن دعوته فثمت من يعمل ليل نهار.. وفي غيبة الأزهر وعلمائه عن ساحة الدعوة سيتيح الفرصة لأوان ثلاثة من التفكير كل لون يوجه شريحة كبيرة من المجتمع؛ وهي:

  1. ظهور التفكير المادي.
  2. التفكير المخرف.
  3. التفكير الديني المتطرف[62].

التفكير فريضة إسلامية:

إن للأديب الكبير عباس محمود العقاد كتابا بعنوان "التفكير فريضة إسلامية"[63]. صدرها بقوله في المقدمة: "من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين؛ لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتا تؤيده أرقام الحساب ودلالات اللفظ اليسير، قبل الرجوع في تأييدها إلى المناقشات والمذاهب التي تختلف فيها الآراء.. وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف.."[64].

وكلل كتابه بخاتمة جاء فيها: "كتبنا هذه الفصول عسى أن يكون فيها جواب هاد لأناس من الناشئين يتساءلون: هل يتفق الفكر والدين؟ .. وهل يستطيع الإنسان العصري أن يقيم عقيدته الإسلامية على أساس من التفكير؟

ونرجو أن تكون هذه الفصول تعزيزا للجواب بكلمة "نعم" على كل من هذين السؤالين: نعم يتفق الفكر والدين. ونعم يدين المفكر بالإسلام وله سند من الفكر وسند من الأديان"[65].

دروس ونتائج:

  1. يجب تعاطي مختلف الأسباب والوسائل في هداية الناس ودلالتهم على الخير، وهذا كما جرت سنة الله يجلب المتاعب حين يواجه الداعية باعتراضات أراذل القول وبادي الرأي، وصدودهم عن الحق؛ ما يلزم أن يكون الداعية متزودا بالصبر والطاقة العظيمة للتحمل؛ فطريق الله مفروش بالأشواك، ومحفوف بالمكاره، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم اتهم اتهامات خطيرة ورمي بالجنون فما الظن بأتباعه!؟
  2. يجب التزود فضلا عن أساليب الدعوة بثقافة الحوار وآداب الاختلاف، وفن التعامل مع الناس ولا سيما في الأزمات والظروف الطارئة والملحة، وحسن إدارة النقاش، واستعمال المنطق في الدعوة والحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
  3. اعتماد منطق القرآن تماما كما فصلنا القول حوله؛ والتعويل على المنهج القويم لمن أراد الوصول إلى الحق، واستنفاذ قصارى الجهد في الأخذ بأيدي التائهين ومساعدتهم للاستقامة والهدى، بالأسلوب الأخاذ والحجج المقنعة.
  4. اعتماد الإخلاص والتجرد الكامل للحق دون مراوغة ولا متعة الشهرة والرياء؛ لأن ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل؛ وهو معنى قوله: ﴿أن تقوموا لله﴾ وأن القومة لا تكون لأغراض أيديولوجية تشتط عن سواء السبيل!
  5. واعتماد العقل الرصين، والرأي الراجح، والفكر الصحيح، حول القضايا التي ندعو إليها، والشبهات التي نتلقاها والرد عليها ودحضهما؛ في معنى قوله تعالى: ﴿ثم تتفكروا﴾.
  6. ولا يصفو الجو إلا بخلوات ينشرح لها الصدر، ويستنيم الإنسان، وترسو الأفكار، وتزال العوائق والسحب الملبدة للأجواء التي ينبغي أن تصحو لجلاء الحق، وذلك يكون في معنى قوله ﴿فرادى﴾.
  7. واعتماد ظروف الحوار وملابساته، وإطار الدعوة، لأن الحوار في أصله هو تعاون للوصول إلى الحق؛ وذلك بالتفاكر اثنين أو أكثر بصدد القضية المركزية؛ وهي في معنى ﴿ومثى﴾.
  8. وفي مبادئنا السامية إنصاف الخصم مهما كانت حجته وأيديولوجيته؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: 24].
  9. وأمرنا لأجل أن يكون تفكيرنا صحيحا أن نجادل عند الاقتضاء بالتي هي أحسن باستعمال مختلف الوسائل للوصول إلى الحق، بالتذكير والوعظ الإيجابي، وبالحكمة والمنطق، أو بالحوار الحضاري الهادئ والجدال بالتي هي أحسن؛ قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].
  10. الإنسان حيوان يفكر، وأن كثيرا ممن حولك يفتقدون هذه الميزة، ولو بحثت فاحصا نسبة التفكير لطلعت النتائج مريعة في عالم البشر وعدد الذين يفكرون، وأن سائرهم كُتلٌ لحمية تأكل وتشرب وتنام وتلبي شهواتها الجنسية وتضحك، وللأسف لا تفكر!
  11. أودع الله في النفس الإنسانية قوتين، قوة الشهوة وقوة العقل، فبالأولى يحرص الإنسان على تناول اللذات البدنية والبهيمية، وبالثانية يحرص على تناول العلوم والمعارف؛ والناس طوائف؛ فمنهم من لم يخرج عن السلوك البهيمي، ومنهم من يحترم التكريم الإلهي وتمييزه عن الحيوان بالتفكير.
  12. ولما كان التفكير أغلبه مكتسبًا ينبغي تدريب الصغار عليه؛ لأن التربية في الصغر كالنقش في الحجر، وأن التفكير المبكر يسفر عن عمالقة وعباقرة في الكبر.
  13. على المرء أن يجعل له وردًا في التفكير؛ لأنه واجب شرعي، يفجر المواهب المخبوءة التي أودعها الله فيه ولا يتوانى ويتقاعس ويتخاذل بالخمول والاسترخاء والاستسلام للدعة والكسل.
  14. يجب أن يعيد ترتيب الأولويات في الخارطة الذهنية ﴿المعرفية﴾ لتتساوق والتفكير الصحيح، ويحذف المعلومات الخاطئة والمغلوطة غير المسنودة نقلا وعقلا.
  15. يجب أن نصلح منظومة التعليم ومناهجه؛ بما يخرج الموهوبين الذين يفكرون تفكيرا سليما وعلينا أن لا نكتفي بالعدد اليسير من المتعلمين الأذكياء.
  16. على الراغب في التفكير الصحيح أن يبحث عن بيئة صحيحة، ورفقة من الأذكياء من ذوي التفكير السليم؛ لأن الطبع يورث التطبع، والمرء على دين من يخالل!
  17. ينبغي أن يكون تفكيرك عميقًا في وصف القضايا وتحليلها وإجاد الحلول لها، ولا يكون مستعجلا قائما على السطحية والشكلية دون سبر للأغوار.
  18. التفكير الصحيح لا يختزل في التكيف مع الواقع على علاته، بل كيف تجعل الواقع يتغير ليتكيف مع المبادئ والقيم والأدب والإبداع.
  19. إن التمرس على التفكير؛ لتجلي الإنسانية المجبولة عليه يعدُّ ضرورة مُلحّة، وحاجة أساسية من حاجات كلّ فرد، وأكثر من حاجته إلى الماء والهواء والغذاء.
  20. ينبغي استفزاز الطلبة استفزازا إيجابيا بالعصف الذهني على ممارسة مهارات القيادة المكتسبة، واستراتيجيات التفكير الناقد البناء، والتفكير الإبداعي الرصين؛ وذلك عبر تفعيل مهارات التفكير من خلال أساليب التدريس ودمج جرعة (التفكير) في جميع البرامج والمقررات المدرسية.
  21. تشجيع الطلبة ولا سيما في الظروف الحالية مع الحجر المنزلي على استخدام مهارات القراءة المتنوعة، والأساليب الفعّالة في التعلم الذاتي المستقل، واستخدام جميع أنماط التكنولوجيا المتوفرة التي تُساعدهم على التعلم والتألق مدى الحياة.
  22. تغيير المناهج في وزارات التعليم والمدارس والمعاهد الدينية على إعادة هيكلة المناهج التعليمية وفق صيغ جديدة جدّابة وآسرة؛ لتُساعد على تدريب الطلبة على استخدام تطبيقات مهارات التفكير والاستكشاف والمناقشة والتحليل والدفاع عن الآراء والمعتقدات الشخصيّة والعمليات العقلية المعرفية.
  23. إعداد برامج تثقيفيّة، وفعاليات توعوية، وعقد ندوات ومؤتمرات، وحلقات دراسية وورش عملية تكوينية تأهيلية، وبثّها في مختلف وسائل الإعلام المتاحة المرئية والمسموعة وخصوصا الرسمية منها، يتّم التركيز فيها على ممارسة التفكير القيادي الإبداعي، وعلى تعزيز المثل العليا والقيم الإنسانية والأخلاقية، التي يكتسبُ منها الصغار والكبار مهارات التفكير الصحيح المتوافق ومنظومة الآداب والأخلاق.
  24. التفكير الصحيح لا يتلقى الأفكار على أنها جميعها مسلمات، ولا يسلم تسليما أعمى بكل ما تطرحه مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وعالم الكتب والمجلات والصحف وما ينشر في الروابط الإلكترونية وما تتيح الشبكة العنكبوتية.
  25. إن من عوائق التفكير الرصين الشعور بمركب النقص وفقدان الثقة بالنفس، والرهاب من الوقوع في الأخطاء، والاستئناس دوما بالحكم على الأفكار الصادرة عن غيرنا وعدم توليدها ذاتيا منا، والافتقار إلى وجود التحدي وبالتالي تبخر الاستجابة، مع الشعور المشؤوم بأنا ولدنا أغبياء وغير مبدعين، وأن التفكير الصحيح هو حصريا يأتي من المبدعين الموهوبين، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان والله المستعان!
  26. إن الشعور بالعجز المطبق، وكأن دماء الخمول تسري في عروقنا، وأن الخلود للدعة والراحة والاسترخاء هي الأصل، لا تنتظر من هذه الطائفة قيادة فكرية تحمل اللواء على صعيد التفكير وتتقدم للقمة بمزيد من العطاء والريادة والإشعاع.
  27. إن محدودية التكوين العلمي والثقافي لا تساعد على التفكير الصحيح؛ بسبب أن العلوم ذات علاقة متكاملة لا تعمل في جزر متناثرة، ولا سيما لذوي التحصيل الشرعي؛ بحيث لا يفصل التفسير عن الحديث ولا كلاهما عن الفقه والأصول وهلم جرا.
  28. إن من يتقبل النقد البناء الذي يقع على الجرح بلسما، ويصحح أخطاء واضحة، ويحاول في حياته أن يعدل من شخصيته الفكرية والاجتماعية، ويحب النصيحة من العقلاء والحكماء، هو من يستطيع أن يبني بناء رصينا، وهي بداية التفكير الصحيح، أما من يلغي النصيحة من قاموسه والنقد مهما كان موضوعيا ستظل أخطاؤه وتكبر ككرة الثلج، وترسخ، ولا يستطيع مفارقتها إذا شب عليها، وستظلم جزءا كبيرا من شخصيته المضيئة، وتعتم على مساحات كان يمكن أن تسهم في الإبداع والرقي.
  29. وما يترتب على الفقرة السابقة أن يتمسك الإنسان بمعتقدات خاطئة وتصورات موروثة قائمة على مفاهيم غير صحيحة، مهما وجد على عدم مصداقيتها من براهين وأدلة؛ لمجرد أنه نشأ عليها، واتسامه بعدم المرونة في تقبل الرأي والرأي الآخر حتى وإن كانت أفكاره غيره صحيحة؛ كل أولئك يجعل التفكير محنّطا خشبيا لا يرقى ولا يسمو.
  30. إن التفكير الناقد لا يعدو أن يكون عملية تحليل وتفكيك للقضايا والظواهر، وفحص مكوناتها، وتقويمها تقويمًا دقيقًا لتوليد -بالاستنتاج والتركيب- أفكار جديده من أجل اتخاذ قرارات صحيحة.
  31. التفكير المنطقي السليم؛ يقتضي لزومية تنظيم الأفكار وتسلسلها وترابطها بصورة جيدة تقودنا للوصول إلى نتائج منطقية، مبنية على حجج معقولة، وبراهين مناسبة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.

وكتبه أبو نوفل حسن يشو –لطف الله به وبكم-

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

أستاذ الفقه: أصوله ومقاصده/ كلية الشريعة

جامعة قطر

 

 


[1] البرهان في أصول الفقه للجويني: 1/ 122.

[2] أخرجه أبو داود برقم (3660)، والترمذي برقم (2656)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (5847)، وابن ماجه برقم (4105)، وأحمد برقم (21590).

[3] أخرجه أبو الشيخ في العظمة برقم (2)، والبيهقي في الأسماء والصفات برقم (887)، الديلمي في الفردوس برقم (2318)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2976).

[4] أخرجه الرافعي في التدوين: 1/ 280.

[5] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره برقم (12928)، والطبراني في المعجم الأوسط برقم (6319)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء: 7/ 95.

[6] انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة، الأصفهاني: 11.

[7] انظر تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين: 15 سلسلة الثقافة الإسلامية (العدد 28) 1380هـ- 1961م.

[8] محاسن التأويل، القاسمي: 2/ 283.

[9] انظر أساس البلاغة: 647- 648، والمفردات في غريب القرآن: 1002، والقاموس المحيط: 4/ 18، ومقاييس اللغة، جميعها مادة: (ع ق ل).

[10] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: متى يصح سماع الصغير برقم (77).

[11] انظر الغنية في الكلام: ل: 98 ب.

[12] أخرجه الترمذي برقم (2517)، وأبو الشيخ في أمثال الحديث برقم (42)، وأبو نعيم في حلية الأولياء: 8/ 390.

[13] مروي عن عن أبي العباس القلانسي، وأبي إسحاق الإسفراييني؛ وانظر: الحدود، لابن سينا: 240، والغنية في الكلام: ل: 3أ، وتفسير القرطبي: 1/ 411.

[14] البحر المحيط: 10/ 187.

[15] انظر روح المعاني: 27/ 99.

[16] انظر لقاءات الباب المفتوح: رقم (188).

[17] كتاب تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين: 80.

[18] انظر تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين للأصفهاني: 140- 141، ومعارج القدس، للغزالي: 57.

[19] التحرير والتنوير: 22/ 231.

[20] في ظلال القرآن.

[21] التحرير والتنوير.

[22] انظر التحرير والتنوير.

[23] تفسير القرطبي.

[24] انظر تفسير الطبري.

[25] تفسير ابن كثير.

[26] في ظلال القرآن.

[27] تفسير الطبري.

[28] التحرير والتنوير.

[29] في ظلال القرآن.

[30] تفسير القرطبي.

[31] انظر تفسير السعدي.

[32] انظر تفسير النسفي.

[33] التحرير والتنوير.

[34] التحرير والتنوير.

[35] تفسير القرطبي.

[36] في ظلال القرآن.

[37] انظر فتح القدير للشوكاني.

[38] التحرير والتنوير.

[39] انظر التحرير والتنوير.

[40] التحرير والتنوير.

[41] انظر الكشاف للزمخشري.

[42] التحرير والتنوير.

[43] في ظلال القرآن.

[44] أخرجه مسلم برقم (208).

[45] انظر البداية والنهاية: 3/ 97.

[46] انظر تاريخ الجدل لأبي زهرة: 63- 64.

[47] درس النكبة الثانية: 4- 5.

[48] جامع الأصول: 1/ 100، رقم (7570).

[49] نحو فقه ميسر معاصر للقرضاوي: 206- 209 (بتصرف يسير).

[50] أين الخلل: 36.

[51] أخرجه مسلم برقم (904)، وأبو داود برقم (1178)، والنسائي برقم (1478)، وأحمد برقم (14417).

[52] أخرجه البخاري برقم (1044)، ومسلم برقم (901).

[53] انظر البداية والنهاية، وسيرة النبي لابن هشام.

[54] أزمة البحث العلمي في العالم العربي، د. عبد الفتاح خضر: 12.

[55] الفروق: 1/ 177.

[56] مجموعة الرسائل: 2/ 131.

[57] الأشباه والنظائر: 2/ 348.

[58] مقاصد الشريعة الإسلامية: 92.

[59] فقه الوسطية الإسلامية والتجديد للقرضاوي: 208- 209.

[60] أخرجه أبو داود والحاكم وصححه الألباني.

[61] انظر رسالة لطيفة لأحمد الريسوني بعنوان: "التجديد والتجويد: تجديد الدين وتجويد التدين"، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2014م.

[62] رسالة الأزهر بين الأمس واليوم والغد: 87 وما بعدها (بتصرف).

[63] التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، مكتبة الفنون والآداب، القاهرة، مصر، ومؤسسة اقرأ للنشر والترجمة، الطبعة الأولى، 2014م، القاهرة.

[64] التفكير فريضة إسلامية: 5.

[65] التفكير فريضة إسلامية: 124.

 


: الأوسمة



التالي
تقرير كرامة الإنسان في القرآن الكريم
السابق
يرفض اضطهاد المسلمين.. الشرطة الهندية تداهم منزل ظفر الإسلام خان بعد اتهامه بإثارة الفتنة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع