خيرٌ مِنْ ليلة القدْر
بقلم: د. خالد حنفي (عضو الاتحاد)
مع اقتراب العشر الأواخر من رمضان يستعد المسلمون في أنحاء العالم لترقب وتحري ليلة القدر رجاء الظفر بأجرها وثوابها وإجابة الدعاء فيها، ومضاعفة عمر الإنسان بالفلاح في إصابتها، فقد قال الله تعالى في سورة سميت باسمها: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] قال الإمام الرازي: "وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى نَيِّفًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَنْ أَحْيَاهَا كُلَّ سَنَةٍ فَكَأَنَّهُ رُزِقَ أَعْمَارًا كَثِيرَةً"، بل يرى بعض المفسرين أن فضل ليلة القدر يتجاوز الألف شهر، وأن العدد في الآية لا مفهوم له، وإنما قُصد به التكثير، بدليل أنه تعالى قال: خير من ألف شهر، ولم يقل كألف شهر.
ولا يتخيل أحدٌ من المسلمين أن عملاً أو ليلةً تفضُل، أو تساوى ليلة القدر في منزلتها وأجر العبادة فيها؛ وقد وجدتُ حديثين صحيحين يُثبتان فضلاً وثواباً لليلةٍ أخرى عن ليلة القدر، الحديث الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه كان في الرِّباط ففزعوا إلى السَّاحل، ثم قيل.. لا بأس، فانصرف النَّاس وأبو هريرة واقف، فمرَّ به إنسانٌ فقال: ما يُوقِفُك يا أبا هريرة؟! فقال: سمعتٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "موقِفٌ ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجرِ الأسود". أخرجه ابن حبان، والبيهقي، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، ويلاحظ هنا أن الحديث يقرر أن فضل الساعة في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود يعني: في الحرم المكي الشريف، ومعلوم أن الصلاة فيه بمئة ألف صلاة، يعني شهود ليلة القدر فيه بمئة ألف ليلة قدر، يعني سنوات وأعمار لا تحصى، كما يُلاحظ أنه لا قطع عند المتحري لها في رمضان، بينما الحديث يقطع بأن الساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود.
الحديث الثاني: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ حَارِسٌ حَرَسَ فِي أَرْضِ خَوْفٍ، لَعَلَّهُ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ» أخرجه البيهقي، والحاكم، والنسائي، وصححه الألباني. والحديثان يصححان مفهوماً مغلوطاً عند كثير من المسلمين وهو نفي فكرة الخلاص الفردي للمسلم، وانعزاله عن الشأن العام للأمة والإنسانية عموما؛ فالإحياء الفردي لليلة القدر أقل أجراً وثواباً من الحراسة في سبيل الله؛ لأن الأثر والنفع يعود في الأول على الفرد الفاعل، وفي الثاني يتجاوز ويتعدى الفاعل إلى الأمة كلها.
وفي ظل جائحة كورونا نحتاج إلى تفعيل هذه الأحاديث لتعود الفاعلية والحركية للمسلم، ليأخذ زاداً رُوحياً باعتكافه وتهجده يُعينه ويأخذ بيده إلى حمل هموم أمته، وتكثير المواقف والساعات في سبيل الله، والحركة العامة في سبيل الله تحتاج أن تُسبق ببناءٍ روحي متين، بل إن الصلة الوثيقة بالله وصفاء والروح والنفس تدفع صاحبها إلى الرباط في سبيل الله، يؤكده حديث ابن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عينانِ لا تمسُّهما النار: عينٌ بكَت من خشية الله، وعينٌ باتَت تحرُسُ في سبيل الله»؛ رواه الترمذي بإسنادٍ صحيح.
والسؤال هنا: هل يقتصر الرباط في سبيل الله، وأجر قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود الوارد في الحديثين على الرباط العسكري دون غيره؟
الرباط هو: الإقامة في الثغور، وهي الأماكن التي يخاف على أهلها من الأعداء، والذي يظهر لي والله أعلم أن الرباط معناه عام، فحراسة الثغور الفكرية والعلمية لا تقل خطراً عن حراسة النقاط الحدودية، وكل عملٍ يتعدى نفعه وأثره عن فاعله إلى غيره من الناس، داخلٌ في موقف الساعة في سبيل الله، والساعةُ: كل فاصل زمني لا الستين دقيقة المعروفة، فقد يتخذ مسؤولٌ قراراً يوقِّعهُ في لحظةٍ يَرفع به الظلم عن ألوف الناس، ويردّ به الحقوق إلى أصحابها.
وهذه جملة من الصور والأمثلة التي تنطبق على الحديثين المذكورين، ويحصِّل فاعلها بها أجر وثواب قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود وهي:
أولاً: الرباط في ثُغور قضاء الحوائج وتفريج الكرب
خلّفت جائحة كورونا ملايين العاطلين عن العمل والفاقدين لقوت يومهم، وبذلُ الوقت والجهد وبناء المؤسسات التي تغيثهم وتفرِّج عنهم، من الساعات العظيمة في سبيل الله، يؤكده ما رواه الطبراني بسند حسن من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إدخالُك السرور على مؤمن؛ أشبعتَ جوعتَه، أو كسوتَ عورتَه، أو قضيتَ له حاجة". فهنيئا لمن كان سبباً في قضاء حاجة لأخيه، أو سد جوعته، وهنيئاً لكل صاحب شركة استمر في عطائه لموظفيه وعماله، وحمَلَهم وقت العُسر كما حملوه وقت الرخاء.
ثانياً: رباط العلماء والمفكرين في محاريب العلم والتربية
إن حراسة الثغور الفكرية والعلمية للأمة، والقيام بواجب التربية والتحصين الثقافي لشبابها من آكد المهام والواجبات خاصة في أوقات الشدائد والمحن وتعدّد السهام والخصوم، وقيام العلماء والمفكرين بالتصنيف والتأليف والذود عن تراث الأمة وهويتها وتاريخها من الواجبات الكفائية متعدية النفع ومستدامة الأثر، وقد وجّه القرآن الكريم إلى ضرورة وجود جماعة علمية تتفقه في الدين وتعمل على إنذار قومهم وتفقيههم، حتى في حالات الطوارئ العسكرية، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فعلى الرغم من أن السورة خُصّصت للحديث عن غزوة تبوك وعتاب المخلفين عنها، إلا أنها ركزت في نهايتها على ضرورة وجود فئة الفقهاء؛ لأن الجهاد لا يقع صحيحاً إلا بفقههم، وهو يعني أنهم شركاء للمجاهدين في الأجر.
ثالثاً: رباط العلماء والخبراء في المختبرات والمعامل
فتحت جائحة كورونا وتسابق العلماء في الدول المتقدمة للبحث والكشف عن لقاح أو مصل لعلاج فيروس كورونا، باب السؤال: أين علماء المسلمين من تقديم دواء أو حل ناجع لهذا الفيروس القاتل؟، وهل تكون مواصلة الباحث أو العالم في مختبره الليل بالنهار للوصول إلى دواء يُنقذ البشرية أقلَّ أجراً وثواباً من العابد في محرابه؟ وهل يتأخر العالِم المسلم عن القيام بدوره وبذل وسعه وجهده ليكون في مقدمة أقرانه، إذا علم أنه بقيامه في معمله يحصِّل أجر قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود؟
رابعاً: رباط المسجونين ظلماً لمقاومة الاستبداد والفساد
يقبع خلف سجون الظالمين ألوف مؤلفة من الشباب والعلماء والقرّاء، وهم من خيرة ما أنجبت الأمة، ولا جناية لهم سوى أنهم قالوا للمستبد: لا، ونطقوا بكلمة حق عند سلطان جائر، فكان أنْ سجنهم وعذبهم، وتعددت صنوف المعاناة والعذابات على أسرهم وذويهم، ولا أتردد في أن ساعاتهم خلف السجون هي مواقف تاريخية خالدة في سبيل الله، خيرٌ لهم إن شاء الله من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود، وأنها ستكون حسرةً ووبالاً على سجانيهم وظالميهم في الأولى والآخرة.
خامسًا: رباط المجاهدين بحق، والحارسين لحدود أوطانهم
مشاركة بعض الجيوش والطواقم الأمنية في وأد أحلام الشعوب بالتحرر من الاستبداد والتبعية، وسفكِهم لدماء الشباب الأحرار شوَّه صورة الحراسة والمرابطة على الثغور، وهي في حقيقتها من أعلى وأوضح صور الرباط في سبيل الله، بل هي الصورة المباشرة المنصوص عليها في الحديثين، ويصدُق هذا المعنى على كل شرطي ورجلِ أمنٍ يحمي حداً، أو يحرس مكاناً، أو يؤمِّن حياة الناس وأرواحهم، أو يُنظِّم طُرقَهم ويمنع الفوضى في مجتمعهم، وإنا لنحلُم باليوم الذي نرى فيه رجال الأمن في العالم العربي كرجال الأمن في العوالم المتقدمة، يحققون الأمن للشعوب حقاً، ولا يستعلون بسلطتهم على الناس، ويرسّخون قيمة العدل والحرية لأوطانهم وشعوبهم.
سادساً: رباط الطواقم الطبية كالأطباء والممرضين والمسعفين
إذا كان الجنود في رباط لحراسة حدود الأوطان، فإن الأطباء والذين معهم في رباط لأنهم يحرسون الإنسان، وقايةً ورعايةً وعلاجاً، وهم يُضحون ويخاطرون بأرواحهم مع علمهم بعاقبة ما وضعوا أنفسهم فيه، ومع ذلك يستعذبون عملهم الشاق ومخاطرتهم الدائمة، ولا عجب فقد أطلق عليهم نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي: الجيش الأبيض بالنظر إلى لباسهم المعتاد.
سابعاً: المرابطون في ساحات الإعلام النظيف والفن الهادف
تُعد الصناعة الإعلامية بأدواتها المتنوعة اليوم من أخطر الصناعات وهي أهم سلاح تمتلكه الدولة، فهو الأداة الموجهة للناس والمشكِّلةُ لثقافتهم ووعيهم، وهو وسيلة التغيير الكبرى للمفاهيم والأنظمة، وقد بلغ المسلمون فيها درجة من الضعف والتراجع صاروا معه لقمةً سائغة بيد غيرهم، وغدوا مفعولاً بهم دوماً بدل أن يكونوا فاعلين. ومن يرابط من المسلمين في الساحة الإعلامية يصحح المفاهيم المغلوطة، ويقدم إعلاماً نظيفاً، وفناً راقياً، وبديلاً صالحاً نافعاً ينفع الناس، ويجمع الشباب ويحفظ هويتهم لا شك أنه في رباط.
ثامناً: رباط القائمين على المؤسسات الإسلامية في أوروبا
تواجه المؤسسات الإسلامية في أوروبا اليوم بفعل المتغيرات السياسية العالمية خاصة بعد جائحة كورونا تحدياتٍ هائلة، ويناط بها القيام بالكثير من المهمات والواجبات رغم ضعف إمكاناتها، ولولا أن قيض الله لهذه المؤسسات رجالاً صادقين نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله يَصِلون الليل بالنهار، ما قامت هذه المؤسسات أو استمرت، وهي تقوم بواجب حفظ الدين والهوية على مسلمي أوروبا، والبلاغ والبيان للإسلام على الساحة الأوروبية، فمواقف القائمين عليها هى ساعات في سبيل الله، نرجو أن تكون لهم عند الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود.
بلّغنا الله وإياكم ليلة القدر، وزوّدنا فيها بالتقوى، وجعلها منطلقاً لنا نحو الرباط الدائم في سبيل الله إلى أن نلقاه.