(.. فصلِّ لربك وانحر ..)
الشيخ الدكتور تيسير التميمي (عضو الاتحاد)
هنيئاً لأمة الإسلام فضل الله العظيم عليها في هذا الموسم السنوي للعبادة والطاعة الذي يأتي هذا العام في وضع استثنائي ، هنيئاً لحجاج بيت الله الحرام أن أتموا مناسكهم وأدوا فريضة ربهم وركن دينهم ، وهنيئاً لمن اغتنم عشر ذي الحجة بالأعمال الصالحات من صيام وقيام وذكر وصدقة وتلاوة القرآن ، هنيئاً لمن أدرك يوم عرفة فصامه ، فلعلّ الله سبحانه وتعالى أن يكفر عنه وأن يعصمه من الذنوب والمعاصي في قادم الأيام، قال صلى الله عليه وسلم { صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده } رواه مسلم ، وهنيئاً لمن جمع فيه الدعاء والرجاء إلى الصيام، فالدعاء مخ العبادة وجوهرها .
اليوم هو عاشر ذي الحجة ويوم النحر يوم الحج الأكبر، عيد ومكافأةٌ من الله عز وجل لعباده الذين يبتهجون بأداء ركن الإسلام ؛ الحج وما يرافقه من عبادات ، ويتقربون فيه إلى ربهم بمزيد من الطاعات :
1- يستحب للمسلم يوم العيد أن يتطيب ويتجمل لأنه يوم زينة، فيلبس من الثياب أحسن ما لديه عند الخروج إلى الصلاة، قال تعالى { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف31 ، واقتداء برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي { كان يغتسل يوم الفطر والأضحى ويلبس بُرْدَيْ حَبْرَة } وهي من ثياب اليمن الفاخرة ، وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول { ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوب مهنته لجمعته أو لعيده ! } .
2- ويستحب له أيضاً التكبير ، ويبدأ وقت التكبيرات بالخروج إلى صلاة العيد ، وينتهي بصلاة عصر اليوم الثالث من أيام التشريق ، أي أنها تستمر أربعة أيام .
3- ويستحب له أيضاً التبكير إلى صلاة العيد جاهراً بالتكبير حتى يحصل له الدنوّ من الإمام وفضل انتظار الصلاة ، قال تعالى { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ… } المائدة 48 ، وقال صلى الله عليه وسلم { إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي } رواه البخاري ، فمن أول الشعائر أداء صلاة العيد شكراً لله عز وجل على أداء ركن الحج، فلْنحرص على إخراج الجميع لحضورها إظهاراً لشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام ، وهي سنة مؤكدة واظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكان يخرج نساءه وبناته يوم العيد ليشهدن الصلاة ، وفي هذا العام ، ونظراً لما نحن فيه من معاناة الوباء الخطير فيجب على المصلين الالتزام الكامل بالتدابير الصحية والوقائية كالتباعد وغيرها من التعليمات .
4- واليوم الجمعة ، فتجتمع على المسلم فيه صلاتا العيد والجمعة ، والراجح عندي أن من شهد صلاة العيد سقطت عنه صلاة الجمعة ولكن تجب عليه في ذات الوقت صلاة الظهر؛ لأن الاجتماع الأعظم الكبير المقصود في يوم الجمعة قد حصل في صلاة العيد ، لكنها في حق الإمام واجبة وعليه إقامتها في المسجد ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد ، قال صلى الله عليه وسلم { قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مُجَمِّعون } رواه الحاكم وصححه الذهبي ، ومعنى مجمعون أي سنصلي الجمعة ، أما من أراد أن يصلي الجمعة فذلك خير له وأفضل ، قال ابن أبي عبيد [ شهدتُ العيد مع عثمان بن عفان وكان ذلك يوم الجمعة فصلى قبل الخطبة ثم خطب فقال : يا أيها الناس إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنتُ له ] رواه البخاري .
ومن السنة إذا انصرف الناس من صلاة العيد أن يهنئوا بعضهم ، لكن عليهم اليوم اجتناب المصافحة ، لأن التهنئة تكون بكل ما يسرّ ويسعد الإنسان في دينه ودنياه مما لا يخالف شرع الله تعالى ، ومن قُبلت طاعته في يوم كان ذلك اليوم عليه عيداً مباركاً ، فيقول المسلم للمسلم تقبل الله منا ومنك ، أو عيد مبارك عليك ، أو أحياكم الله لمثله .
5- شرع الله تعالى للمسلمين في يوم النحر أن التقرب إليه بذبح الأضاحي ، فهو يذكرنا بالفداء والتضحيات الجسام التي قدمها أحرار الأمة وشرفاؤها المؤمنين بالله عز وجل دفاعاً عن دينهم وعقيدتهم ومقدساتهم ، إنه يوم نستذكر فيه الذبيح إسماعيل وأبيه إبراهيم عليهما السلام اللذين استسلما لأمر الله ففداه سبحانه بالذبح العظيم ، فكانت درساً للمؤمنين في كمال الطاعة والانقياد لربهم ، كما أن فيها توسعةً على الأهل وإدخال السرور إلى قلوب المساكين ؛ قال صلى الله عليه وسلم { ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي َيوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً } رواه الترمذي ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم { ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما } رواه أبو داود
والأضحية ما يذبح تقرباً إلى الله تعالى يوم النحر بشروط مخصوصة، منها أن تكون من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، ويشترط لها سنٌّ معينة فيجزىء من الضأن ما أتم ستة أشهر ومن المعز ابن سنة , ومن البقر ابن سنتين , ومن الإبل ابن خمس سنين . وتشترط سلامتها من العيوب الفاحشة التي تنقص الشحم أو اللحم لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يجوز من الضحايا العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تُنْقِي } رواه النسائي .
ويبتدئ وقتها بعد صلاة العيد ، قال تعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } الكوثر1-2 ، وقال صلى الله عليه وسلم { من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين } رواه البخاري ، ويَنتهي وقتها بغروب شمس اليوم الثالث عشر من ذي الحجة .
ويستحب للمضحي أن يشهد أضحيته ، قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها { قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته ، وقولي إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } رواه البيهقي .
وله أن يأكل منها ويطعم ويدخر , لقوله تعالى { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الحج 36 ، وله أن يتصدق بالثلث ويتخذ الثلث لأقاربه وأصدقائه وجيرانه ويدخر الثلث , وله أن يهب الفقير والغني ، ولو تصدق بها جميعاً جاز ولو ادخرها جميعاً جاز؛ لأن القربة إلى الله تعالى تكون بإراقة الدم .
6- ولا يجوز صيام يوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة التي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم { أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رواه مسلم ، وهي أيام فضيلة لقوله تعالى { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ... } الحج 28 وذكرُ الله عز وجل المأمور به يكون بعدة صور منها ذكره عزَّ وجل عقب الصلوات المفروضة بالتكبير ، وهو مشروعٌ إلى آخر أيام التشريق ، ومنها الإكثار من الذكر المطلق بالتهليل والتسبيح ، فلْنغتنم هذه الأيام بالذكر والدعاء والصدقات وفعل الخيرات ما استطعنا ، ولْنتجنب قضاءها في المعاصي والآثام والملذات الممنوعة والتوسع في الملاهي المحرمة .
7- ولْنحرص على صلة الأرحام فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال { لا يدخل الجنة قاطع رحم } رواه مسلم ، فهذه الصلة تعمق المودة والمحبة في النفوس ، وتقوي الوشائج الاجتماعية بين المسلمين . فحق علينا زيارة الأقارب والأصدقاء والجيران وأسر الشهداء والأسرى المحررين والأسرى في سجون الاحتلال بالقدر الذي تسمح به الأوضاع الصحية الآن ، ولمن صعب عليه ذلك فله أن يتواصل مع أرحامه بوسائل الاتصال المتعددة .
وصلة الرحم لا يقصد بها الإحسان إلى الأقارب من النساء فقط بل هي شاملة للرجال والنساء ، كما أن صلة المرأة لأقاربها من الرجال مستحبة مع أن حقها في الصلة آكد من حقهم . وقطيعة الرحم المأمور بوصلها لغير عذر شرعي حرام ، لقول الله سبحانه { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } محمد 22-23 ، وتكون قطيعة الأرحام بترك الإحسان إليهم ؛ أما إن تجاوزت ذلك إلى الإساءة فهي من الكبائر .
8- ومن حق الأطفال علينا في هذا اليوم أن ندخل الفرح إلى قلوبهم وأن نزينهم بالملابس وبممارسة الألعاب غير المحرمة ، وبإعطائهم النقود والحلوى حسب الإمكان ، وغير ذلك من مظاهر الفرح ، فقد روى أنس رضي الله عنه { في الجنة باب يقال لها دار الفرح ، لا يدخلها إلا من فرَّح الصبيان } ذكره ابن حجر في ترجمة محمد بن عبده بن حرب . هذا في الأوقات العادية ، فكيف به في يوم العيد !
ندعو الله سبحانه أن يعيد هذه الأيام على الأمة بالنصر والعزة والتمكين وقد رفع عنها البأساء والضراء والبلاء والوباء ومؤامرات الأعداء ، تقبل الله منكم ومنا الطاعات وكل عام وأنتم بخير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الشيخ الدكتور تيسير التميمي – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس