عقبة بن نافع.. من قادة الفتوح في شمال أفريقيا
بقلم: د. علي محمد الصلابي
منذ أن أمر الله المسلمين بقتال المشركين وأهل الباطل، سارت مواكب الفاتحين وانطلقت رايات التوحيد تجوب مشارق الأرض ومغاربها داعية إلى سبيل الله تعالى تنفيذاً لأوامره وابتغاءً لمرضاته في قوله تعالى: "فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء: 74). وكان طريق الفتح المبين الذي سار فيه القائد الإسلامي الكبير عقبة بن نافع الفهري (رحمه الله ورضي عنه) على هذا الهدي الرباني في سبيل رفع راية التوحيد، ودعوة الأمم إلى الحق والهداية، وإعلاء كلمة الله في الأرض.
برزت شخصية القائد الإسلامي العظيم عقبة بن نافع كشخصية عسكرية كبيرة في التاريخ الإسلامي، وفي سجل الانتصارات العظيمة لأمة التوحيد. فهو من أوائل الفاتحين الذين شقوا طريق الإسلام عبر المغارب الأدنى والأوسط والأقصى منها حتى وصل سواحل الأطلسي أو ما يعرف حينها ببحر الظلمات. ولذلك، فإن لعقبة دور حاسم في التحول التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي طرأ على الشمال الإفريقي في عصر التنوير الرباني ورسالة الإسلام. وله الفضل العظيم بعد فضل الله تبارك وتعالى في إيصال الدعوة الإسلامية إلى تلك الأصقاع وفي هداية أهل المغرب وسكانه من البربر (الأمازيغ) وغيرهم. ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يتعرض كما تعرض غيره لحملات التشويه التي تريد النيل منه، والتي تضمنت اتهامه بارتكاب الجرائم والظلم والجور في حق الشعوب أصحاب الأرض الأصليين (سكان البلاد المفتوحة)، وبالقسوة في معاملة البربر (الأمازيغ) في شمال أفريقيا. وإن أكثر ما يُثار في هذ الصدد هو معاملته لزعيم قبيلة أوربه والبرانس كسيلة، والادعاء بأن عقبة قد أساء إليه وتعمد إهانته، وذلك في مسعى لتبرير نقض كسيلة للعهد مع المسلمين وانقلابه عليهم. وهنا سنعرض سيرة عقبة بن نافع الفهري كما نقلتها لنا كتب التراث ومصادره الرصينة والمحايدة وما جاد علينا البحث الحديث من تحقيق وتمحيص في سيرة أولئك الأبطال والقادة الكبار. ومن ثم سنتعرض لقضية تعامله مع كُسيلة، ونورد بعض الروايات التاريخية، ونسوق ما ذكر من أقوال وآراء فيها.
- من هو القائد عقبة بن نافع؟
هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقيا لمعاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد بن معاوية (رحمهما الله)، وهو الذي أنشأ القيروان وأسكنها الناس، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، وخلق رفيع. وقد شهد فتح مصر، واختطّ بها، فقد أسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقيا إلى هذا القائد الكبير. وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقيا منذ البداية مع عمرو بن العاص، واكتسب في هذا الميدان خبرة واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقيا كله، ذلك أنه لطول إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقيا ويكف أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقيا، أرسل إليه عشرة الاف فارس وانضم إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه (ابن الأثير، الكامل في التاريخ،198، 483)، وسار في جموعه حتى نزل بمغمداش من سرت، فبلغه أن أهل ودان قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص، ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي، وزهير بن قيس البلوي، وسار معهم بالقسم الاخر من الجيش، واتجه إلى فزان، فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا، ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار، وخاور، وغدامس، وغيرها.
ومما يلاحظ أن عقبة تجنّب في مسيره المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل، وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي.
وتجنب عقبة في مسيره المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل، وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي. (علي محمد الصلابي، الدولة الأموية، ج1، 2008، 362-363).
في سنة 50 ه، بدأت إفريقيا الإسلامية عهداً جديداً مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقيا منذ حداثة سنّه، فقد لاحظ كثرة ارتداد البربر، ونقضهم العهود، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقيا ونشر الإسلام بين أهلها
هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها، وقد مهد عقبة قبل بناء المدينة لجنوده بقوله: إن إفريقيا إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى اخر الدهر، فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة: إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون (الصلابي، الدولة الأموية، ج1 ،2008، 363-364). ولم يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن حديج قبله، فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم (عبد اللطيف، العالم الإسلامي في العصر الأموي، 1996، 270)، وكان موضع غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبق فيها شيء، وهربوا حتى إن الوحوش لتحمل أولادها.
- عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55 هـ:
بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقيا، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً، فقال: ... إن أبا المهاجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة، ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته (الصلابي، الدولة الأموية، 2008، 370). ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخى كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية، وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقيا (ابن عذارى، البيان المغرب، 22).
وكانت ميلة تتوسط المغربين الأدنى والأوسط، فهي أحسن مكان يراقب منه أمور البربر والروم في هذه البقاع، فجعلها مقره، وأقام بها نحواً من سنتين، وقد استثمر هذه المدة في الاتصال بالبربر، وإفهامهم حقيقة الإسلام، ودعوتهم إليه، وقد نجح في سياسته نجاحاً كبيراً، فأقبل البربر على الإسلام، واية ذلك أن المؤرخين لم يتحدثوا عن معارك وقعت له في هذه النواحي من المغرب ـ قسنطينة الان ونواحيها إلى بجاية ـ لأن الروم كانوا يتقوون بالبربر، وها هو أبو المهاجر قد نجح في اجتذاب البربر وفصلهم عن الروم، فسكنت تلك النواحي، سكون البحر بعد العاصفة وترامت الأخبار إلى أبي المهاجر أن جمعاً من الروم والبربر يستعد لحربه، فقرر المسير إليهم، وكانت زعامة المغربين الأوسط والأقصى لقبيلة أوربة، وهي قسم كبير من أقسام البربر البرانس، وكان زعيم هذه القبيلة كسيلة بن لمزم، وكان كسيلة قوي الشخصية ذكي الفؤاد، غيوراً على وطنه، وكان البربر يجلونه ويحبونه، وكان نصرانياً متمسكاً بدينه، وكان لا يعرف حقيقة الإسلام والمسلمين، فاستطاع الروم أن يوحوا إليه ما أرادوا في الإسلام والمسلمين فراهم عدواً لدينه ووطنه، ورأى أن أبا المهاجر في ميلة، فعلم أنه لا بد أن يسير لافتتاح المغرب الأوسط والأقصى، فذهب يدعو البربر لمكافحة المسلمين والاستعداد لحربهم وإجلائهم عن بلادهم، فتحمَّس البربر بثورة أميرهم كسيلة فلبسوا لأْمة الحرب، واستعدوا للقراع، فتجمع مع كسيلة جيش كثيف من البربر والروم (الصلابي، الدولة الأموية، 2008، 369-370).
بعد أن استكمل كسيلة عدته عسكر في تلمسان، وانتظر اللقاء المرتقب مع أبي المهاجر ولم يطل انتظاره، فقد وصل أبو المهاجر، وعسكر بجيشه حول تلمسان، فالتقى الجيشان ودارت معركة قاسية، أبلى فيها كل من الفريقين بلاءً كبيراً، وأدركوا خطورتها وأن لها ما بعدها، وكثر القتلى من الجيشين، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فهزموا جيش كسيلة فولى الأدبار (الصلابي، الدولة الأموية، 2008، 372).
- حملة عقبة بن نافع الثانية (62 - 63هـ)، وجهاده من القيروان إلى المحيط الأطلسي:
بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين؛ عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقيا، ثم لمّا أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي، ودعا لها قائلاً: يا رب املأها علماً وفقهاً، واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك.. وامنعها من جبابرة الأرض (ابن عذارى، البيان المغرب،23)، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة الاف، إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله، ثم قال:
يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملؤوا صدوركم بالشعر وتتركوا القران، فإن القران دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء، فإن الدّين ذُلٌّ بالنهار وهمٌّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبقَ لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله، ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا ...
ثم قال: عليكم سلام الله، وأُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا ... ثم قال: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك (ابن عذارى، البيان المغرب، 23).
وهكذا ما أن وطئت أقدام عقبة أرض القيروان حتى عزم على الخروج للجهاد غير هيَّاب ولا متردِّد، ومما يدل على مبلغ حبه للجهاد وهيامه به قوله في وصيته لأولاده: إني قد بِعت نفسي من الله عز وجل، فلا أزال أجاهد من كفر بالله. فهو قد باع نفسه من الله عز وجل، واشتاق إلى الثمن العظيم الغالي: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي}[سورة التوبة:111]. فجعل عمله الذي نذر حياته لأجله هو {ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ}[سورة التوبة:111] ، ونصب أمام عينيه الهدف السامي، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض (الحميدي، التاريخ الإسلامي، 1998، 257).
سار عقبة في جيش عظيم متجهاً إلى مدينة باغية، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه ودخلوا مدينتهم وتحصنوا بها، فحاصرهم مدة، ثم سار إلى تلمسان وهي من أعظم مدائنهم، فانضم إليها من حولها من الروم والبربر فخرجوا إليه في جيش ضخم والتحم القتال، وثبت الفريقان حتى ظن المسلمون أن في تلك المعركة فناءهم، ولكن منَّ الله عليهم بالصبر فكانوا في ذلك أشدَّ وأصبر من أعدائهم، فهاجموا الروم هجوماً عنيفاً حتى ألجؤوهم إلى حصونهم فقاتلوهم إلى أبوابها، وأصابوا منهم غنائم كثيرة (ابن عذارى، البيان المغرب، 270).
ثم استمر غرباً قاصداً بلاد الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له: (أَرَبَه) وهي دار ملكهم، وكان حولها ثلاثمئة وستون قرية كلها عامرة، فامتنع بها من كان هناك من الروم وأهل المدينة، وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون مع أهل تلك المدينة، فانهزم أهل تلك البلاد وقُتل كثير من فرسانهم، ورحل عقبة إلى (تاهرت) فاستغاث الروم بالبربر فأجابوهم ونصروهم، وقام عقبة بن نافع في الناس وخطب خطبةً فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه؛ بايعوا رسول الله ﷺ بيعة الرضوان على من كذب بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربةٍ، وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشروا؛ فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم عز وجل لا يُسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه، والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين (ابن عذارى، البيان المغرب، 270).
وهذه خطبة عظيمة تدل على أن عقبة بن نافع رضي الله عنه قد اعتمد في حروبه على السلاح الأعظم الذي فيه سر انتصارات المسلمين الباهرة.. ألا وهو التوكل على الله تعالى، واستحضار عظمته وجلاله، ومعيته لأوليائه المؤمنين بالنصر والتأييد، فهو لا يبالي بجيوش الأعداء مهما كثرت، وإنما الذي يهتم به أن يتأكد جيداً من أن هذا السلاح المعنوي الفعال قد توفر في جيشه، وحينما يضمن ذلك فإنه يرحب باجتماع جيوش الأعداء ليكون ذلك أسرع في هلاكهم وتمزيق جمعهم على يد أولياء الله الصالحين، وما أعظم شبه عقبة بخالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان يُسَرُّ ويداخله شعور بالقوة والتعاظم ـ من غير غرور ولا استهانة ـ كلما تضخم جيش الأعداء وتعددت عناصره، وكأن عقبة قد تأسَّى به واتخذه له قدوة في القيادة والإقدام الذي لا يعرف التردد والسامة، وهو في إقدامه واندفاعه يدرك أن جنود الإسلام الصادقين هم بأس الله تعالى المسلط على أعدائه الكفار، والله تعالى لا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين. إن شعوره الدائم بأن المجاهدين المسلمين هم سيف الله تعالى وبأسه الموجه ضد أعدائه يجعله عظيم الثقة بنصر الله تعالى وحسن الظن به (الحميدي، التاريخ الإسلامي، 1998، 260).
هذا وقد التقى المسلمون بأعدائهم في مدينة (تاهرت) وقاتلوهم قتالاً شديداً، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيراً، وانهزم أعداؤهم من الروم والبربر، وقتل منهم عدد كبير، وغنم منهم المسلمون أموالهم وسلاحهم ، ثم توجه إلى جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة، حيث قابل بطريقاً من الروم اسمه (جوليان)، الذي أهدى له هدية حسنة، ونزل على حكمه، ولما سأله عقبة عن بحر الأندلس؟ قال عنه: لا؛ إنه محفوظ لا يرام، ثم سأله عن البربر والروم، بقوله: دلني على رجال البربر والروم، فقال: قد تركت الروم خلفك، وليس أمامك إلا البربر، وفرسانهم في عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى، وهم أنجاد البربر وفرسانهم، فقال عقبة: فأين موضعهم؟ قال: في السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1989، 590).
استفاد عقبة من هذه المعلومات واتجه إلى الجنوب الغربي، قاصداً بلاد السوس الأدنى حيث التقى بجموع بربر أطلس الوسطى، فهزمهم وطاردهم نحو صحراء وادي درعة، حيث بنى مسجداً في مدينة درعة، ثم غادر صحارى مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة (تافللت) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة (أغمات)، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس، حيث حاصر بها جموعاً من البيزنطيين والبربر، فلم ينفعهم تحصنهم، فدخل المدينة منتصراً وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى، ودخل عاصمتها (ايجلي) التي بنى فيها مسجداً، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام، فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة (ماسة)، ومنها إلى رأس (إيفران) على البحر المحيط.
وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، وتشير مصادرنا التاريخية أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. ثم قال: اللهم اشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله، حتى لا يعبد أحد من دونك، ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعبـد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1989، 590).
وندرك من قوله المذكور مدى حبه للجهاد وشعوره بالمسؤولية الكبرى التي حملها على عاتقه نحو تبليغ الإسلام وتقوية دولته والقضاء على دول الكفر التي حجبت نور الإسلام عن شعوبها، فهو يقف على البحر المحيط ويعلم آنذاك أنه نهاية المعمور من الأرض من ناحية المغرب، ثم نجده يُشهد الله تعالى على أنه قد بلغ المجهود الذي تحت مقدرته، وهذه الشهادة تشعرنا بمدى ارتباط عقبة بالله تعالى، وأنه لم يكن يسير خطوة إلا وهو يستلهم التوفيق منه جل وعلا، ويطلب رضوانه، وهذا الكلام يدل على وضوح الهدف من الجهاد عند عقبة؛ حيث بيّن أن الحد الذي يقف عنده الجهاد، أن يزول الشرك من الأرض، وأن لا يعبد إلا الله وحده، وما دام الشرك قائماً فإن الجهاد لا بد أن يكون موجوداً، فالجهاد إذن هو جهاد الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإزالة الطغيان البشري وإخضاع دول العالم لحكم الإسلام، لكي يكون فهم الإسلام واعتناقه متيسراً لكل الناس (الحميدي، التاريخ الإسلامي، 1998، 262).
ولم يقف عمل عقبة على الجهاد، بل رافق ذلك بناء المساجد؛ مثل مسجد درعة، ومسجد ماسة بالسوس الأقصى، كما كان يترك نفراً من أصحابه يعلمون الناس القران وشرائع الإسلام، ومن هؤلاء شاكر الذي بنى رباطاً ما بين بلدتي مراكش وموجادور، ولا زال موقعه باقياً إلى اليوم؛ وهو المعروف عند العامة بالمغرب الأقصى بسيدي شاكر، ويظهر أن أغلبية بربر المغرب الأقصى أسلموا على يده طوعاً مثل صنهاجة وهسكورة وجزولة، كما أخضع المصامدة، وحملهم على طاعة الإسلام.
وكي يأمن القبائل الكثيرة من الانتقاض عليه، كان عقبة يأخذ منها رهائن ويولي عليها رجلاً منها مثلما فعل مع مصمودة؛ فقد ترك عليها أبا مدرك زرعة بن أبي مدرك، أحد رؤسائها، الذي شارك في فتح الأندلس فيما بعد.
يذكر السلاوي: أن عقبة حين وصل إلى جبل درن: نهضت زناتة وكانت خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة، وهذا يشعر بأن زناتة ومغراوة كانتا قد أسلمتا منذ زمن، وكانتا حليفتين للمسلمين فنهضتا للدفاع عن المسلمين (الصلابي، 2008، 376-377).
- شخصية كسيلة ومواقفه في مراحل الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا:
هو ُ كسَيلة بن َلمَزْم الأُوربي البربري البُرنْسُي. أكبر رؤساء البربر، وزعيم بربر ُأوربه والبرانس، ولذا نسب إليهم. حكم كسيلة بربر أوربة في الأراضي الواقعة غرب تلمسان. وكان يدين
بالنصرانية، وقد وافق كسيلة البربر في معظم صفاﺗﻬم - ومنها شدة البأس والقوة -، مما جعلهم يحترمونه ويقدرّونه ويجعلونه أميرًا عليهم بعد موت أميرهم السابق (ستردير بن رومي ...)، وكان لهذه الصفات أثرها في حياة كسيلة العسكرية (الملحم، موقف كسيلة بن لمزم من الفتح الإسلامي للمغرب، 2000، 121).
أسر كسيلة في معركة تلمسان وحمل إلى أبي المهاجر فأحسن إليه وقربه وعامله معاملة الملوك، وطمع في إسلامه، فحدثه عن الإسلام وعرفه حقيقته، وأنه دين التوحيد الخالص، والعدل والمساواة، والأخوة، وأنه لو أسلم فلن يخسر شيئاً، بل العكس سوف يكسب الكثير روحياً ومادياً، وكان كسيلة ذكياً طموحاً مخلصاً لقومه لا يريد لهم إلا الإصلاح، فآمن كسيلة، وأصبح من المسلمين وأغرم بالعربية فصار يتعلمها، وأصبح من المقربين من أبي المهاجر، وشمّر كسيلة لمناصرة الإسلام والمسلمين، ودعا قومه البربر للدين الحنيف، وكان البربر قد تفتحت قلوبهم للإسلام والمسلمين.
وعاد أبو المهاجر بعد أن اطمأن إلى أمور المغرب الأوسط وإلى إسلام البربر إلى مقره قريباً من القيروان، وأقام بقرية تسمى دكرور يراقب الأمور، ويرصد تحركات الروم ودسائسهم ويعمل على إزالة نفوذهم من الشمال الإفريقي، لكن لسوء الحظ لم يطل به المقام، فقد توفي مولاه مسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر سنة 62 هـ، وكان مسلمة سنداً قوياً لأبي المهاجر، فلما زال هذا السند أعاد يزيد بن معاوية (60 ـ 64 هـ) عقبة بن نافع إلى إفريقيا ثانية، وعزل أبا المهاجر (عبد اللطيف، العالم الإسلامي في العصر الأموي، 1996، 279).
وصل عقبة بن نافع إلى إفريقيا، ورتَّب أمورها، وعامل أبا المهاجر معاملة قاسية، فقد أوثقه في وثاق شديد، ومع هذا فقد كان أبو المهاجر مخلصاً وفياً شهماً غيوراً، فلم يبخل بنصائحه لعقبة بالرغم مما حدث بينهما من الجفوة، ومن أبرز هذه النصائح: إشارته على عقبة بإكرام زعيم البربر كسيلة، ومحاولة تأليفه ليبقى على الإسلام، ولكن عقبة أهان ذلك الزعيم، حيث أمره يوماً أن يسلخ شاة بين يديه، فدفعها كسيلة إلى غلمانه، فأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه وانتهره، فقام كسيلة مغضباً وجعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته، وبلغ ذلك أبا المهاجر فبعث إليه ينهاه ويقول: كان رسول الله ﷺ يتألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبَّار في قومه وبدار عزه، حديث عهد بالشرك، فتفسد قلبه؟! توثَّق من الرجل فإني أخاف فتكه (خطاب، قادة فتح المغرب، 137)، فتهاون به عقبة.
قد لاحظنا أن أبا المهاجر خاض معركة واحدة كبرى دوَّخ بها الروم والبربر، وخضع له البربر، ودخل بعض زعمائهم في الإسلام وأبرزهم كسيلة، ودخل كثير من قومه في الإسلام، ووفر أبو المهاجر بذلك جهوداً كبيرة لابد من بذلها في فتح بلاد المغرب لو بقي أولئك البربر على كفرهم، ولا شك أن عقبة حينما أهان ذلك الزعيم البربري لم يكن يعتقد بصحة إسلامه؛ إذ إن عقبة كان في غاية التواضع للمسلمين، وكان اجتهاده يقضي بمحاولة إذلال ذلك الرجل حتى يتحطم طغيانه وتهون مكانته في نفوس قومه، فلا يستطيع بعد ذلك أن يستنفرهم لحرب ضد المسلمين، ولكنه أخطأ في اجتهاده؛ لأن قوم ذلك الرجل كانوا حديثي عهد بالإسلام، ومهما كان لظن عقبة فيه من احتمال في عدم الصدق في الولاء؛ فإن كسبه وبقاءه في جيش المسلمين وتحت سلطتهم أولى بكثير من معاداته وإتاحة الفرصة له لضرب المسلمين من مكامن الخطر، وهو الذي صحبهم وحاز على شيء من ثقتهم (الحميدي، التاريخ الإسلامي، 1998، 253).
ومن موقف عقبة المذكور تظهر لنا نتيجة مهمة من نتائج العمل بسنن الإسلام التي من أهمها العمل بالشورى، وأخذ رأي أهل الحل والعقد خاصة في الأمور المهمة، وعلى أية حال فإن كلا القائدين كان مجتهداً في تصرفه، ولا يظن بواحد منهما أنه كان يعمل لصالح نفسه أو لصالح عشيرته، وإنما كان رائدهما النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولكن كان اجتهاد أبي المهاجر أقرب إلى الصواب في هذه القضية (الحميدي، 1998، 254).
- روايات موضوعة هدفها الفتنة
من جهة أخرى فإن بعض المؤرخين يرى أن مثل هذه الروايات موضوعة، وأن روايتها كانت لغاية بينة وهي تشويه سمعة القائد الإسلامي عقبة بن نافع. شأنه في ذلك شأن جميع الشخصيات الإسلامية عبر التاريخ.
وأيضاً فإن الهدف من هذه الروايات الموضوعة هو تعميق الخلاف بين العرب والبربر واستثارة مشاعر الحقد والكراهية بينهما، ولذلك فقد بالغت في تصوير الخلاف بين عقبة وكسيلة والذي صورته كخلاف شخصي بحت. وقد ذكرت هذه الروايات أمور واهية يستبعد أن يكون قائد مثل عقبة قد أقدم عليها. والراجح أن كل ما في الأمر أن عقبة بن نافع كان قد أهمل كسيلة ولم يعطيه المكانة التي أعطاها إياه الوالي السابق أبو المهاجر، ظناً من عقبة بأن إسلام كسيلة ما هو إلا شكلي كان الهدف منه تحقيق مطامع كسيلة السياسية وتثبيت نفوذه في حكم المغرب بعد قدوم المسلمين. بينما لم يتعمد الإساءة له بإهانته وتحقيره (نهلة أحمد، 1989، 113-114). وهذا لا يبرر لكسيلة نقضه للعهد وغدره بعقبة وبمن معه من المسلمين.
ويشير المؤرخ أحمد العثماني وهو باحث في تاريخ المغرب الوسيط، إلى أن البحوث والدراسات التي تناولت رواية تعمد قبة إهانة كسيلة وتحقيره قد غاب عنها الحس النقدي، وخضعت للرواية دون تحفظ أو تحقق.
وقد ذكر المؤرخ عدة أسباب لانقلاب كسيلة على المسلمين، فكسيلة كان على حلف قوي مع البيزنطيين وقد قاتل معهم ضد أبي المهاجر، وعندما هزم رأى أن يتقرب من العرب المسلمين ذلك أن الكفة مالت لهم، فيستطيع من خلال هذا التقارب والتحالف الجديد أن يحافظ على مصالحه ومصالح قبيلته. وقد استمر هذا الحلف بسبب سياسة أبي المهاجر في التقرب من البربر وتأليف قلوب زعمائهم.
غير أنه وبعد عودة عقبة بن نافع للحكم، لم يعط كسيلة المكانة والأهمية التي كان قد نالها عند أبي المهاجر. ولكن عقبة لم يتعمد إهانة كسيلة، فجميع المصادر التي تذكر أن عقبة ضايق أبا المهاجر وضيق عليه ووضع الحديد في يديه، لم تذكر شيئاً عن كسيلة. بل إن المصادر تؤكد على أن كسيلة لم يتعرض للاعتقال وإنما ظل موجوداً في جيش عقبة حراً طليقاً يتصرف كيفما يشاء (العثماني، 2016، 34-35). وحتى إن اعتقل فقد كان اعتقالاً شكلياً لا يضر به ولا يعيق تحركاته وهذا ما يؤكده قول ابن خلدون في أن كسيلة كان يراسل قومه من داخل معسكر عقبة: " وكسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله يحمله معه في عسكره سائر غزواته، فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود، وتراسل كسيلة وقومه فأرسلوا له شهوداً، وانتهزوا الفرصة" (رحمة، 1999، 37).
وأما بالنسبة لقصة سلخ الأكباش فهي منقوضة لسببين، أولهما بأن بعض المصادر المهمة لم يشر إلى هذه الرواية أبداً كابن عبد الحكم وابن عبد الحليم، ولا يمكن تبرير عدم ذكرها بالسهو والنسيان وذلك لعظم حدث استشهاد عقبة بن نافع رحمه الله. وأما الثاني فهو استبعاد أن يكون مثل هذا الفعل الساذج قد صدر عن شخصية قيادية تتمتع بأخلاق الحرب والسياسة مثل عقبة بن نافع. فعقبة ابن مجتمع قبلي وهو يعرف أكثر من غيره القيمة المعنوية والرمزية لشيخ القبيلة (العثماني، 2016، 35).
- استشهاد عقبة بن نافع وأبي المهاجر (رحمهما الله تعالى):
يبدو أن عقبة المجاهد المخلص، كان يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو، دعا أولاده وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل... إلى أن قال ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله، وأوصاهم بما أحب، ثم قال: عليكم سلام الله.. اللهم تقبل نفسي في رضاك (ابن عذارى، 24). نعى عقبة نفسه إلى أولاده، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كميناً عند تهوذة، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده.
وترجع المصادر أمر الكارثة التي تعرض لها عقبة عند تهوذة إلى سبب رئيس وهو سياسته نحو البربر بصفة عامة، وزعيمهم كسيلة بصفة خاصة؛ ذلك الزعيم صاحب النفوذ والمكانة في قومه، والذي كان أبو المهاجر قد تألفه وأحسن إليه، فأسلم وتبعه كثير من قومه، لكن عقبة أساء إلى هذا الرجل إساءة بالغة، فأدرك أبو المهاجر عاقبة الخطأ الذي وقع فيه عقبة ولم يكتم نصيحته عنه ـ رغم أنه كان في حكم المعتقل ـ ولكن عقبة لم يسمع منه، وكان أبو المهاجر من معاشرته للبربر وزعيمهم، قد عرف مدى اعتزازهم بكرامتهم، وأدرك أنهم لن يقبلوا هذه الإهانة، وهذا الإذلال الذي لحق بزعيمهم من عقبة، فخاف غدرهم، فأشار على عقبة بالتخلص من كسيلة وقال له: عاجله قبل أن يستفحل أمره (ابن الأثير، 1989، 591)، ولكن عقبة لم يصغ إلى هذه النصيحة أيضاً وليته احتاط للأمر، بل أقدم على عمل اخر في غاية الخطورة، حيث جعل معظم جيشه يسير أمامه بعد أن رجع من رحلته الطويلة من المغرب الأقصى قاصداً القيروان، ولما صار قريباً من القيروان أرسل غالب جيشه على أفواج إلى القيروان، وبقي هو على رأس الفوج الأخير، ومعه ما يقرب من ثلاثمئة من الفرسان من الصحابة والتابعين، وكان من عادة عقبة أنه يكون في مقدمة الجيش عند الغزو ويكون في الساقة عند قفول الجيش، فهو بذلك يعرض نفسه لخطر مواجهة العدو دائماً، وإن هذه التضحية الكبيرة جعلته محبوباً لدى أفراد جيشه بحيث لا يعصون له أمراً ويتسابقون على التضحية اقتداء به، وهذه الصفة تعتبر من أهم عوامل نجاح القائد في أي عمل يتوجه إليه، ولما علم الروم بانفراد عقبة بهذا العدد القليل من جيشه انتهزوا هذه الفرصة لمحاولة القضاء عليه، وهم يدركون أن وجوده القوي يعتبر أهم العوامل في تماسك المسلمين وبقاء قوتهم، فتامروا عليه مع كسيلة البربري، فجمعوا لعقبة وأصحابه جمعاً لا قِبَلَ لهم به، وإذا بكسيلة يحيط بجيش عقبة في جمع عدته خمسون ألفاً. وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة، فلمّا رأى الجموع تمثل بقول أبي محجن الثقفي:
كفى حزناً أن تمرغ الخيل بالقنا وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا
إذا قمت عنّاني الحديدُ وأغلقت مصارع من دوني تصمُّ المناديا.
فلما سمع عقبة ذلك أطلقه، فقال له: اِلحق بالمسلمين وقم بأمرهم، وأنا أغتنم الشهادة، فلم يفعل، وقال: وأنا أيضاً أريد الشهادة، وهكذا كان أبو المهاجر نموذجاً من تلك النماذج الفريدة من الرجال، الذين هانت عليهم الحياة الدنيا، واستولى على قلوبهم حب الاخرة وكسب رضوان الله تعالى، ومن هذا المنطلق أقدم عقبة ومعه عدد قليل على معركة غير متكافئة، وكان بإمكان بعضهم الفرار ولكنهم ثبتوا ثبات الأبطال حتى استشهدوا جميعاً في بلاد (تهوذة) من أرض الزاب، ويَذكر المؤرخون أن قبور هؤلاء الشهداء معروفة في ذلك المكان، وأن المسلمين يزورونها (الصلابي، الدولة الأموية، 2008، 379).
وهكذا تحقق أمل عقبة وأبي المهاجر ونالا الشهادة في سبيل الله، ومن معهم من الفرسان؛ بعدما قاموا بالواجب الذي عليهم، واستقبلوا الشهادة في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة إلى حسن ثواب ربها، وقد استطاع عقبة أن يشق بجهاده للإسلام طريقه في هذا الجزء من العالم الذي سار فيه خلفاؤه من بعده: زهير بن قيس البلوي، وحسان بن النعمان الغساني، وموسى بن نصير، فقد حقق أهدافه من التمهيد لنشر الإسلام والجهاد في سبيل الله.
ولقد كان استشهاد عقبة بن نافع ومن معه في عام ثلاثة وستين للهجرة وعمره آنذاك في حدود أربع وستين سنة، وبهذا ندرك مبلغ القوة التي كان يتمتع بها أسلافنا؛ حيث قام بتلك الرحلة الشاقة وخاض المعارك الهائلة وقد جاوز الستين من عمره، وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد دام أكثر من أربعين عاماً قضاها في فتوح شمال إفريقيا، ابتداء بمصر وانتهاء بالمغرب الأقصى (الصلابي، الدولة الأموية، 2008، 379).
كانت معركة تهوذة مصيبة على المسلمين، فقد استشهد القائد المجاهد عقبة بن نافع وصحبه، وكان لاستشهاده وقع أليم على المسلمين، وانتابتهم حالة من الهلع والفزع، فمع أن العدد الذي استشهد مع عقبة كان قليلاً ـ قيل: حوالي ثلاثمئة جندي ـ وأن معظم الجيش كان قد سار متقدماً ونجا من المعركة، وكان من الممكن أن يتماسك هذا الجيش ويقاوم، حتى يحتفظ بوجوده في القيروان، إلا أن الحالة النفسية للجنود لم تسمح بذلك.
وفي مقتل عقبة رحمه الله درس بليغ؛ وهو أهمية الحذر من العدو؛ فقد أرسل جنوده وبقي في مجموعة قليلة من المقاتلين رغبة في الشهادة، وهذا مطلب سامٍ وكبير، إلا أن استشهاده كان له اثار سيئة على الفتوحات في شمال إفريقيا، وضاعت القيروان من أيدي المسلمين لمدة خمس سنوات، وتأخرت الدعوة الإسلامية، لذلك يجب على القادة أن يوازنوا بين مصالح الأمة الكبرى وحرصهم على الشهادة (الصلابي، الدولة الأموية، 2008، 380).
المراجع:
- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1989 م، ج2.
- ابن عِذَارى، أبو عبد الله محمد المرَّاكشي، البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ج1.
- أحمد، نهلة شهاب، عقبة بن نافع، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989.
- الحميدي، عبد العزيز بن عبد الله، التاريخ الإسلامي، دار الدعوة، الإسكندرية، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1419هـ - 1998م، ج13.
- خطاب، محمود شيت، قادة فتح المغرب، دار الفكر.
- رحمة، فدوى خالد محمد أحمد، عقبة بن نافع وأثره في الفتوحات الإسلامي، رسالة ماجستير، جامعة أم درمان الإسلامية، الخرطوم، 1999.
- الصلابي، علي محمد، الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 2008، ط2، ج1.
- عبد اللطيف، عبد الشافي محمد، العالم الإسلامي في العصر الأموي، دار الاتحاد التعاوني للطباعة بمصر، الطبعة الثالثة، 1417 هـ - 1996 م.
- العثماني، أحمد، قضايا إشكالية أثارتها حملة عقبة بن نافع على بلاد المغرب، مجلة ليكسوس، العدد 7، نوفمبر 2016.
- الملحم، محمد بن ناصر بن أحمد، موقف كسيلة بن لمزم من الفتح الإسلامي للمغرب (53-69ه، 672-688م)، الملجة العلمية لجامعة الملك فيصل – العوم الإنسانية والإدارية، العدد 1، مارس 2000.