بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
مقولة "تملك الجسد" في الميزان
بقلم: عبد المجيد بنمسعود (عضو الاتحاد)
من المقولات التي باتت تلوكها الألسن في دائرة التيار العلماني، وتجري محاولة ترسيخ تداولها عبر وسائل النشر الثقافي والإعلامي، لتصبح، بعد حين، مفردة من مفردات الجهاز المفاهيمي لدى الناس: " مقولة" " تملك الجسد".
وإن من يجهدون أنفسهم في هذا المسعى من دعاة الفكر العلماني، ليراهنون - بلا ريب – على أمرين اثنين: أما الأول فيتعلق بالعزف على وتر الغرائز، والاستجابة لنزوع النفوس الهشة إلى التحرر من القيود فيما تأتيه من تصرفات وأفعال، فتصبح- في حسبانها – طليقة لا تحد حركتها حدود، ولا تقف دون سلوكها سدود.
وأما الأمر الثاني فيتعلق باستغفال الناس، والانطلاق من واقع قصور قطاع واسع منهم عن استعمال آليات التفكر الرشيد والمنطق السديد في تحليل الظواهر والأفكار، والتي من شأنها أن تجنبهم الزيغ عن الصواب، والسقوط في التهافت، بسبب ذهولهم عن حقائق ناصعة، وسنن ثابتة، تتعلق بتلكم الظواهر والأفكار. ومعنى هذا أن أرباب التيار العلماني يدأبون على ركوب مطية الديماغوجية والهرطقة التي تستهدف جمهورا بعينه، يراد له أن يتلقف بسرعة، ما يقذفون به إليه من مفاهيم زائفة ومقولات زائغة، تحت طائلة الحرمان من نعمة حضور العقل الذي يزن الأشياء، ويميز فيها بين الحق والباطل، وبين الصحيح والزائف.
إن الوقوف عند مقولة "تملك الجسد" ووضعها في ميزان النقد وفحصها من جوانبها، يكشف عن زيفها الفاضح، وتهافتها الشنيع، فهي تنطوي على مناقضة صريحة للواقع، ذلك أن المرء البسيط يكشف بمجرد استخدام الحد الأدنى من التفكير بصدد هذه " المقولة" ، أننا أمام عبارة زائفة جوفاء لا حظ لها من الواقع المعيش، بل إنها لتناقضه بشكل صارخ، يدركه كل من كان به مسكة من عقل.
إن مما يفيده ظاهر هذه العبارة أن من يعتقدون بها ويتبنونها، يتحكمون في حركة أجسادهم، بكل ما يتعلق بتلك الحركة من تفاصيل، ومن تطورات وأوضاع، فلا يند شيء مما يحصل لجسد الواحد منهم عن علمه ولا مراقبته، وهو يملك توجيه ذلك الجسد فيزيولوجيا وبيولوجيا ونفسيا في الاتجاه الذي يريد.
وإن من حق الواقف عند هذه العبارة الزائفة، أن يطرح السؤال على من يعتنقونها ويروجون لها، عن المرحلة الزمنية أو اللحظة التي يشرعون فيها في ممارسة تملكهم لأجسادهم، هل هي مرحلة الطفولة والصبا، أم المراهقة أم الشباب؟ أم الشيخوخة والهرم؟
من المفترض أن يكون جواب هؤلاء بحكم قرائن الأحوال، أن بداية تملكهم لأجسادهم تقترن بمرحلة المراهقة والشباب، بحكم انبثاق الوعي بالواقع خلالها، وتشكل قدر من آليات الموازنة والحكم على الوقائع والأشياء.
ومن ثم فلا يجرؤ هؤلاء أن يزعموا أنهم كانوا يتملكون أجسادهم في المرحلة السابقة على مرحلة المراهقة والشباب، وهذا يعني، إلى هذا الحد، أن مفهوم تملك الجسد يفتقد إلى الاستغراق والشمول، مما يفرض السؤال عن الجهة التي كانت تتملك أجسادهم في المرحلة السابقة على مرحلة المراهقة والشباب. وهل يمكن القول إن أجسادهم في المرحلة التي يزعمون فيها ملكيتهم لها، بإمكانها أن تتحرر من آثار ما خضعت له من تشكيل في المراحل السابقة على جميع المستويات.
وإذا نحن غضضنا النظر عن مقتضيات هذه المساءلة، وما يمكن أن يجيب به مدعو أو دعاة " ملكية الجسد"، فيمكن أن نعفيهم من مشقة اصطناع جواب على السؤال المطروح، ونكتفي بحصر المناقشة في المرحلة التي ينظرون فيها إلى أنفسهم، على أنهم يتملكون أجسادهم فيها.
وعلى هذا الأساس فإننا نستفسر مدعي ودعاة تملك الجسد، عما إذا كان الواقع يصدق مقالهم ودعواهم.
إن أيا منهم لا يستطيع أن يزعم الجواب بالإيجاب، إلا إذا ركب متن المكابرة والعناد، وأغمض البصر عن الواقع الصارخ الذي يكشف بجلاء، عن استحالة تملك هؤلاء الأدعياء لأجسادهم، حتى بمفهومهم لذلك التملك، وهو قدرتهم على إطلاق العنان لشهواتهم المجنونة وغرائزهم الجامحة، من جهة، وعلى إخضاع أجسادهم لعمليات تغيير خلق الله، من قبيل إجراء عمليات تغيير الجنس من الذكورة إلى الأنوثة، وما يرتبط بها من ملحقات، أو من قبيل العبث بتفاصيل تتعلق بأعضاء الجنس الواحد، وخاصة جنس الأنثى، من جهة أخرى. ذلك أن هيجان الغرائز وجموح الشهوات لا يستقيم معه أي معنى لامتلاك ناصية الجسد، لأن الجسد في هذه الأحوال يكون تحت طائلة قوى طاغية، هي بمثابة الوحش المفترس الهصور الذي يعرض الجسد إلى زلازل وهزات، تخرج عواقبها عن المراقبة والحسبان، إلا ما تعلق بطبيعة تلك العواقب في مفهومها العام، أي بحسبانها عواقب مدمرة، يصل أقصاها درجة تدمير الجسد، ومحوه من الوجود. فأي شكل من أشكال تملك للجسد يمكن أن يستتب في ظل هذا الواقع المأساوي المتمثل في اغتيال الجسد جملة وتفصيلا؟
هذا على مستوى تداعيات تفلت جماح غرائز الجسد، وما تمثله من تمظهر صريح لأعتى أشكال الحتمية والإرغام.
أما على مستوى ما يجري من تفاعلات كبرى داخل الجسد، لا قبل لأحد بالتدخل فيها، أو تغيير مسارها، مما له علاقة بما هو فزيولوجي، أو بيولوجي، أو سيكولوجي، فحدث ولا حرج.
فمن من مدعي أو دعاة تملك الجسد، يجسر أن يعاند تلك الحقائق والسنن؟ هل يستطيع أحد من معتنقي هذه المقولة الزائفة أن يزعم لنفسه القدرة على التحكم في خلايا الجسد وما يعتمل فيها من أسباب الصحة والمرض، أو يتصرف في عوامل وجينات النمو، المتحكمة في جميع تفاصيل الجسد؟ لا أحد بالطبع يمكن أن يزعم ذلك، إلا من باب الخوض في اللجاج، والإمعان في الالتواء والدوران.
إن الذين يرفعون شعار" تملك الجسد" من بني علمان، رجالا ونساء، لا يجترحون صنيعهم هذا إلا وهم فاقدون للالتزام بأدنى حد من حدود اللياقة العلمية والأدبية، وللارتباط بمجتمعهم بأدنى وشيجة من وشائج الثقافة والأخلاق، ومن ثم الانتماء للوطن الذي يقتاتون من خيراته، ويتنفسون هواءه.
إنهم يدأبون على التغريد خارج السرب، ووضع العصا في العجلة، ولا تحلو لهم حياة إلا والمجتمع يشكو من التشوه والكساح، الذي هو قرين التنصل من الجذور، والانسلاخ من مرجعية الأمة التي هي الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة. وهم يظنون مع ذلك أنهم يحسنون صنعا، مصداقا لقول الله تعالى: (“قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الآيتان 103 و104).
إنه أحرى وأجدر بمدعي ودعاة " تملك الجسد" أن يضعوا هذه العبارة في ميزان المنطق السليم، ويصغوا لصوت العقل، ليتبين لهم عوارها وبعدها عن الواقع ما بعدت الأرض عن السماء، ويعودوا أدراجهم إلى حضيرة الحق والصواب، ويتخلوا عن الأكاذيب والأغاليط والترهات، التي لا يغني عنها التلفع بالخدع السحرية والشقشقات.
إن البديل الاصطلاحي الذي يجدر بهؤلاء القوم أن يتفاعلوا معه ويتحاوروا بشأنه، هو " تملك النفس" والبحث عن الثقافة التي تمكن من ذلك، بحكم ما توفره من قيم البناء لشاكلة الإنسان النافع الذي يمشي على الأرض هونا، ويبذل قصارى جهده من أجل اقتلاع الأشواك وكسح الألغام، وتطهير الأرض من عوامل الوباء.
ومعنى "تملك النفس"، أن يجهد الإنسان الرسالي نفسه من أجل كبح جماح النفس الأمارة بالسوء، ويخفف من غلوائها، وينتقل صعدا إلى درجة النفس اللوامة التي تلوم صاحبها وتؤنبه عن الذنوب والمعاصي، ويجمع همته بالليل والنهار، ليرتقي إلى مقام النفس المطمئنة التي تطمئن إلى طريق الطاعة، وتأنس بالقرب من الله عز وجل، يحدوها في ذلك وإليه، طلب رضا الله عز وجل والفوز بجنته.
و"تملك النفس" في منظور الإسلام ليس معناه قتل الغرائز واستئصالها، وإنما معناه صرف تلك الغرائز في القناة السليمة التي خلقت من أجلها، لتؤدي وظيفتها، وتؤتي ثمارها بإذن ربها، في إطار من التوازن البديع، الذي تينع معه الحياة، وتزهر وتزدهر، وتغمر السعادة والطمأنينة ذلك المجتمع الطاهر الذي ينأى بنفسه عن سفاسف الأمور، وينزع نحو معالي الأمور، ولا يتوقف عن السعي إلى الارتقاء، حتى يأتيه اليقين.
إن مفهوم "تملك النفس" في منظور الدين القيم، من شأنه أن يعطي الإنسان المسلم فسحة من الشعور العميق بالتحرر وصلابة الإرادة وقوة العزم، التي لن ينعم بها أبدا مدعو ودعاة " تملك الجسد"، لأن مفهومهم لهذه العبارة يعني انسياح النفس والجسد معا وراء تيار جارف من الشهوات والنزوات التي تنتهي بصاحبها حتما إلى عالم البوار والانهيار، والتي تمثل بابا واسعا لأفول الحضارة الإنسانية، وانقراض مقدراتها وانكساف شمسها.
إن الإنسان المسلم الذي يتوقف عليه بقاء الحضارة ينطلق في منظوره للحياة من استحضار معية الله عز وجل، الذي لا يقوم أي شيء في الكون إلا بإذنه وعلمه، ورحمته وقيوميته، ومن الاعتقاد الجازم والراسخ بأن أمره بين يديه، جسمه وروحه ونفسه وسائر كيانه، ولا ملجأ منه إلا إليه، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ في كتابه جل وعلا قوله سبحانه:" (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24). وقوله عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(ق: 16).وقوله تعالى ( ا لَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)( البقرة 275).
ويلهج بالدعاء المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وبدعائه عليه الصلاة والسلام:" اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا"(الحديث).
وليعلم مدعو "تـملك الجسد" ودعاته، أنهم بهذه الدعوة السقيمة والباطلة، إنما يتسببون في إحداث خرق واسع وخطير في سفينة المجتمع، يتكبد من جرائه خسائر فادحة، وينفتح واقعه على هوة سحيقة القرار، يتجرع فيها ألوان الشقاوة والعذاب.
وليعلموا أنهم بدعوتهم هذه يسيئون إلى مجتمع أنشأه الإسلام على عينه، وغذاه بنافع زاده، وطوق عنقه بسامي فضائله وقيمه، وأنهم يسيئون إلى أنفسهم بإعلانهم الحرب على مجتمع ينتسبون إليه شكلا وينفصلون عنه جوهرا ومضمونا.
إن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى من يحدوها بحداء القيم النبيلة والثقافة الأصيلة، وينعش روحها بالرجوع إلى المعين الصافي، لتغتسل من أدرانها، وتتخفف من أوزارها، لا لمن يغمسها في حمأة الرذائل والموبقات، ويعطل عجلتها بالمعاصي والمنكرات.
وما أجدر الأمة المسلمة أن تتمثل موقف نبي الله أيوب عليه السلام وهو ينفذ أمر ربه جل وعلا، (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (ص:42)، لتعافى من عللها وأسقامها.