اللوح المحفوظ .. من أسرار خلق الله وعجائبه
بقلم: علي محمد الصلابي (عضو الاتحاد)
اللوح المحفوظ أحد المخلوقات العظيمة التي خلقها الله في بدايات الخلق، وقد اقترن ذكره بالقلم في أحاديث كتابة القدر، وسماه الله محفوظاً لأنه لا يتطرق إليه العبث ولا تصل إليه الشياطين، فهو محفوظ من كل تغيير وتبديل، محفوظ من أن ينفُذ إليه أو بغير ما فيه من حكم أو قضاء أو قدر. قال ابن كثير: هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل، ومكانه على ما روي عن مقاتل عن يمين العرش. واللوح المحفوظ هو الكتاب الذي لم يفرط فيه الله من شيء، فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله تعالى، وأدلة هذه المرتبة في القرآن الكريم كثيرة، نذكر منها قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [سورة الأنعام: 38]. على أحد الوجهين؛ وهو أن المقصود بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فالله أثبت فيه جميع الحوادث، فكل ما يجري مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [سورة الأنبياء: 105].
فأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية، فهو كائن لا محالة، والآية دالة على مرتبة الكتابة عند من فسّر الزبور بالكتب بعد الذكر، والذكر أمّ الكتاب عند الله، وهو اللوح المحفوظ.
وقال تعالى في قصة أسرى بدر: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة الأنفال: 68]. أي: لولا كتاب سبق به القضاء عند الله أنه قد أحلّ لكم الغنائم، وأن الله رفع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم العذاب، لمسّكم عذاب عظيم، فالآية دليل على الكتاب السابق. وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [سورة الحج: 70]. وهذه الآية من أوضح الأدلة على علمه المحيط بكل شيء، وأنه علّم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب الله ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، فالآية جمعت بين المرتبتين.
وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة النمل: 75]. أي: خفية أو سر من أسرار العالم العلوي والسفلي ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، فقد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة، فما من حادث جليّ أو خفيّ، إلا وهو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ.
وقال تعالى في آية جمعت بين مرتبتي العلم والكتابة: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة يونس: 61]، "وما يعزب عن ربك" أي: ما يغيب عن علمه وبصره وسمعه ومشاهدته أي شيء؛ حتى مثاقيل الذر، بل ما هو أصغر منها، وهذه مرتبة العلم، وقوله: "إلا في كتاب مبين" مرتبة الكتابة، وكثيراً ما يقرن الله سبحانه بين هاتين المرتبتين.
وقال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [سورة يس: 12]. أي: جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور، مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين ها هنا هو أم الكتاب. وقال تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [سورة القمر: 52-53].
أي: مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام، "وكل صغير وكبير" أي: من أعمالهم "مستطر" أيّ: مجموع عليهم، ومسطّر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقال تعالى عن موسى عليه السلام حين قال له فرعون: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 51‑52].
إن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدّر وهدى شرع يحتج بالقرون الأولى؛ أي الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول: لم يعبدوه بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال، "لا يضل ربي ولا ينسى" أي: لا يشذّ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئاً، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتعالى وتقدس وتنزه، فإن علم المخلوقات يعتريه نقصانان؛ أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء. والآخر: نسيانه بعد علمه، فنزّه نفسه عن ذلك.
وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [سورة فاطر: 11].
وظيفة اللوح المحفوظ:
إن وظيفة اللوح المحفوظ -كما في الآيات والأحاديث- محل كتابة القدر، فقد أمر الله القلم فكتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة، قال القرطبي: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم، والأقضية النافذة فيهم، ومآل عواقب أمورهم، وهو أم الكتاب. وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: اللوح المذكور هو الذي كتب مقادير الخلائق فيه.
القرآن محفوظ في اللوح منذ الأزل:
كتب الله فيه القرآن وحفظه فيه منذ الأزل، وهذا معنى قول الله سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [سورة البروج: 21-22]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [سورة الزخرف: 4]. قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ يعني: القرآن في اللوح المحفوظ. وقال ابن القيم في شفاء العليل: والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض، كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [سورة البروج: 22].
وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة على أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب، وقد دل القرآن على أن الرب تبارك تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح أفعاله وكلامه؛ فتبت يدا أبي لهب، في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب.
وقال ابن كثير: في قوله سبحانه: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [سورة الإسراء: 106]. معنى فرقناه: فصَّلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرَّقاً منجَّماً على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، قاله عكرمة عن ابن عباس.
واللوح المحفوظ في خلقه ووظيفته مظهر من مظاهر قدرة الله الباهرة، والعظمة التي لا تدانيها عظمة، والجلال الذي يقصّر دونه كل جلال، وهو في ذاته كمال وأي كمال، وآية على علم الله المحيط بكل شيء، وإرادته التي لا يحول دونها حائل، ولا يندّ عنها أو يتجاوزها ذو قدرة أو سلطان، وهو معبّر عن عدل الله المطلق الذي لا يتطرق إليه ظلم ولا جَور، فسبحان الله وتقدس في ذاته وصفاته عن كل ما ببال، أو يرد به خيال، وسبحانه وتعالى عن كل ند أو مثيل قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [سورة البقرة: 255]. وقال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل﴾ [سورة الأنعام: 102]. وسبحانه وتقدّس عما يتقول به المتقولون، أو يتأوّل المتأولون، أو تطيش به عقول القاصرين، وتتردد فيه أفهام ضعفاء المخلوقين.
المراجع:
1- علي محمد محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، دار ابن كثير، ص 176:170.
2- محمد بن عبد الله الخرعان، قصة الخلق، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1، 2008، ص 84، 85، 88.
3- عبد الرحمن بن صالح المحمود، القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، دار الوطن، ط 2، 1997، ص 60.
4- مصطفى العدوي، صحيح تفسير القرآن العظيم، دار ابن رجب، ط 1، 2010، 3/177.
5- عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000م، ص 5/598، 3/366.
6- علي محمد الصلابي، الإيمان بالقدر، دار المعرفة، ط 2، 2011، ص 48.