الهجرة ومراتب الإيمان
بقلم: الشيخ محمد سليم محمد علي (عضو الاتحاد)
قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) سورة البقرة :218.
فقه الآية الكريمة وفوائدها في المسائل الآتية :
المسألة الأولى: الآية الكريمة جمعت بين أعلى مراتب الإسلام ، وهي: الأيمان، والجهاد، والهجرة.
المسألة الثانية: التلازم موجود بين هذه المراتب الثلاثة ، فلا هجرة من غير إيمان ، ولا تتحقق الهجرة إلاّ بالجهاد ، ومن لم يكن مؤمنا ، فلا عبرة بجهاده وهجرته ، كما قال عزّ وجلّ ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) الفرقان 23.
المسألة الثالثة: والجهاد أربع مراتب ، وهي:
الأولى: جهاد النفس:- والنفس تحتاج إلى جهاد طويل ودائم ، فعلى عاتقها يقوم بنيان أنواع الجهاد الأخرى الباقية ، قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) آل عمران 102.
والنفوس ثلاثة ، واحدة ناجية وهي النفس المطمئنة ، وهي نفس المسلم الصالح التقي، قال الله تعالى ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر 27 30.
والنفس الثانية هالكة ، وهي النفس الأمارة بالسوء ، وهي نفس الكافر ، المتبع للهوى والشهوات (مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) يوسف 53.
والنفس الثالثة النفس اللوامة ، وهي نفس المسلم الذي يذنب ويستغفر ويتوب ، فهو دائم اللوم لنفسه على معاصيها وذنوبها ( وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) القيامة 2.
والنفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة مطالبتان بالتشمير عن ساق التوبة والعمل الصالح بالهجرة من التقصير في طاعة الله تعالى لتنجوان ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من نهى الله ورسوله عنه).
الثانية: جهاد الشيطان:- والشيطان عدو الإنسان منذ أهبط على الأرض ، والواجب على العاقل أن يهجر عدوه الذي يتربص به الموت والهلاك ، وهذا لا يتأتى إلا بمجاهدة الإنسان الأهواء والشهوات ، فهي أكبر !جنود الشيطان ، وبهما يجول ويصول ، وقد أمرنا الله تعالى قائلا ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) ، وما أجهل الإنسان حين يتخذ من عدوه صديقا وهو يعلم عداوته له ، وتربصه به!.
الثالثة: جهاد الكفّار:- وهذا النوع من الجهاد ، لا يستطيع أن يقوم به إلا من جاهد نفسه ، وهاجر بها إلى الله تعالى بالطاعات ، واجتناب المعاصي ،ومن عجز عن مجاهدة النفس والشيطان كان لمجاهدة عدوه أعجز ، ولذلك قدم الإيمان على الهجرة والجهاد ، لأن الإيمان لا يكمل إلا بالعمل الصالح ، والعمل الصالح هو أداء الفرائض ، واجتناب المحرمات ، ومن قام بهما ، حقق الهجرة والجهاد جميعا
الرابعة: جهاد أرباب البدع والضلالات:- وأرباب الضلالات والبدع كثيرون في مجمعاتنا ، ولا يستقيم إيمان المسلم حتى يجاهدهم ، فإن عجز قام بهجرهم حتى يتوبوا.
المسألة الرابعة: وكل مسلم حتى يحقق مرتبتي الإيمان والجهاد ، يجب عليه أن يهاجر إلى الله تعالى ، وهذا لا يكون إلاّ بجهاد النفس والشيطان وأرباب البدع والضلالات ، الهجرة الموافقة للحق ، والجهاد القائم لنصرة الدين ، وللهجرة والجهاد أحكامهما التي يجب على المسلم معرفتها قبل أن يقوم بهذين الواجبين .
المسألة الخامسة: والهجرة بهذا المفهوم أنواع منها:
أولا: الهجرة الفردية: وهي أن يقوم كل مسلم بجهاد نفسه ، وشيطانه ، ومن حوله من أهل الضلال ، وهذه واجبة على كل إنسان ، لأنه لا نجاة له إلا بها ، ولأنه مأمور بها.
ثانيا: الهجرة الجماعية: وهي أن يقوم المسلمون جميعا بالهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي أن تحدث الأمّة في واقعها توبة جماعية ، استجابة لأمر الله تعالى ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ).
المسألة السادسة: والهجرة الجماعية ، أعني بها التوبة الجماعية للأمّة المسلمة ، وهي واجبة عليها ، وبخاصة في هذا العصر ، لأنها تعيش في كبائر المنكرات ، وعلى رأسها ترك التحاكم إلى الإسلام ، واحتكامها إلى المناهج الوضعية ، فأول توبة عليها هي أن تهاجر إلى القرآن الكريم ،وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعيدهما إلى منصة الحكم ، وإلا ذهبت ثوراتها سدى ، واستفاد منها الكافرون .
المسألة السابعة: والهجرة الجماعية على مستويات ، وهي:
أولا: مستوى الأسرة ، وهذه الهجرة يجب أن يقوم بها الأب مع زوجته ، لإقامة بنيان الأسرة على الإيمان بمفهومه الشامل الذي بينت بعضه سابقا ، فالأب قوام ، ومقتضى القوامة يجعله مكلفا ومسئولا عن أسرته .
ثانيا: مستوى التجمعات السكانية للمسلمين (الحارات والأحياء)، فلا بد أن يقوم أولو النهى والدين منهم بدعوة أهل الحيّ جميعا إلى الهجرة إلى الله تعالى بالإيمان والطاعة والصلاح.
ثالثا: مستوى الأمة كلها: وهذه الهجرة سبب في سعادة المسلمين وسائر الأمم في الأرض، وما شقاء البشرية اليوم إلا لترك الأمة المسلمة هذا الواجب ، فالله جعلنا في الأرض لنعبد الناس لربهم ، وكيف نعبدهم لربهم ونحن شاردون عن هذه العبودية ؟ وما جعلنا الله تعالى أمة وسطا ، إلا لأننا نؤمن به ، ونهاجر إليه ، ونجاهد في سبيله جميعا كأمة ، وليس أفرادا أو جماعات .
المسألة الثامنة: قوله تعالى: (يرجون رحمة الله) في بداية الآية الكريمة ، فيه إشارة إلى حسن خاتمة من هاجر وجاهد بعد الإيمان ، لأن الإنسان المسلم لا يعرف بماذا يختم له ، فمن أراد حسن الخاتمة فعليه بهذه الثلاثة المنصوص عليها في الآية الكريمة ، وهذا أفهمه من رجاء رحمة الله لمن آمن وهاجر وجاهد ، فالله لا يذكر الرجاء برحمته إلا إذا كان سيعطيها عبده ، وهو سبحانه لا يخلف وعده (ومن أصدق من الله قيلا).
المسألة التاسعة: قوله تعالى في نهاية الآية (والله غفور رحيم) دال على العاقبة الحسنة للمسلمين إن هم هاجروا إلى ربهم ، وجاهدوا في سبيله ، الجهاد بأنواعه الأربعة السابقة ، وهذه العاقبة حسنة في الدنيا ، وحسنة في الآخرة.
المسألة العاشرة: وكم أن هجرة النفوس واجبة إلى ربها بالمعاني التي ذكرتها ، فهي واجبة بانتقالها من أرض إلى أرض ،نصرة للإسلام ، ونصرة للمسلمين ،وهذه الهجرة لها ضوابطها الشرعية التي يجب وعيها وفقهها قبل العمل بها ، حتى لا يهجر مسلم أرض المسلمين لفهم خطأ ، ظنّه صوابا .
وعلى المسلم في كل أحواله ، أن يعيش مهاجرا إلى ربه ، بإدامة الإيمان ، والارتقاء بالنفس إلى مرتبة الإحسان ، ثم إلى مرتبة اليقين.
وأسال الله تعالى لي ولكم حسن الخاتمة، ودوام الهجرة إلى ربنا العظيم بالطاعات والأعمال الصالحات
ـــــــــــــــــــــــــــ
- الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي - إمام وخطيب المسجد ألأقصى، والأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس.