الرابط المختصر :
قواعد الفكر المنهجي في القرآن الكريم
بقلم: أ.د أحمد الريسوني
ألقى الدكتور أحمد الريسوني المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر القرآني العالمي الذي تنظمه جمعية المحافظة على القرآن الكريم بعمان ، في موضوع: (قواعد الفكر المنهجي في القرآن الكريم). في مقدمة المحاضرة، أشار إلى أن القرآن الكريم يتضمن – من جهة – حقائق وأحكاما محددة جاهزة للاهتداء بها والعمل مباشرة بمقتضياتها. ولكنه يتضمن أيضا قواعد منهجية ، تمكن الإنسان من التفكير والنظر والفهم والاستنتاج، بشكل سليم وسديد، و تتيح له إدراك مزيد من المعارف والأحكام. وفيما يلي تلخيص وجيز لما ذكره من هذه القواعد:
البعد المنهجي للحكمة
ذكر الله تعالى في كثير من الآيات أنه أنزل على رسله الكتب والحكمة، وأنه أرسلهم ليعلموا الناس الكتاب والحكمة. والحكمة ليس سوى الفهم السديد السوي للأمور، والعمل بمقتضى ذلك. الحكمة إتقان العلم والعمل. الحكمة تنزيل الأقوال والأحكام والأفعال في مواضعها المناسبة. ولهذا قال الله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة/269) فالحكمة وتعليم الحكمة تعبير جامع عن المنهج القويم الذي بعث به كافة الأنبياء، كما هو مصرح به في كثير من الآيات، من مثل هذه النماذج:
– لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (آل عمران/164)
– وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ (البقرة/231) – وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ (لقمان/12).
الدعوة إلى الحجة والبرهان
وأول ما تستلزمه الحكمة العلمية والعملية، أن يكون الفكر والحكم في أي شيئ قائما على الحجة والبرهان. ولذلك دعا القرآن الكريم كل من يعتقد شيئا، أو يؤمن بشيئ، أو يحكم بشيئ، أن يقدم على ذلك الحجة والبرهان.
– {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة/111)
– {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنبياء/2422)
– {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف/4).
استعمال العقل والحواس
الآيات القرآنية الداعية إلى استعمال العقل والسمع والبصر، لأجل الفهم والعلم والتحقق من الأمور، كثيرة ومتنوعة في سياقاتها وتعابيرها. ومعلوم أن هذه النِّعم الثلاث (العقل والسمع والبصر)، هي أهم وسائل الإنسان للعلم والبحث والفهم. ومن الآيات الواردة في الموضوع:
– {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل/79 ,78).
– {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء/36).
وقد وصف القرآن الكريم من يعطلون عقولهم وأسماعهم وأبصارهم ولا يستفيدون منها، ولا يستعملونها كما ينبغي، بأنهم كالأنعام أو أسوأ، وبأنهم يسيرون وينظرون بكيفية منكوسة مقلوبة.
– {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (الملك/23 ,22)
– {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف/179)
ضرب الأمثال
من المعلوم أن القرآن الكريم أكثر من ضرب الأمثال بدرجة بارزة لافتة. بل صرح بذلك ونبه على أهميته، وحث على فهم هذه الأمثال وإلى التفكر والتدبر في مغازيها ومراميها التعليمية والمنهجية.
– وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (العنكبوت/43).
– وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الحشر/21)
– وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (الزمر/27) وضرْبُ الأمثال يعلم الناس الانتقال بفكرهم من الخاص إلى العام، ومن المشخص إلى المجرد، ومن الجزئي إلى الكلي. فالأمثال عبارة عن أشياء وحالات جزئية معينة؛ من أشخاص وتصرفات وصفات. ولكنها نموذجية قابلة للتكرر، سواء كانت حسنة أو سيئة. فسُنَنُ الله تعالى المطَّردة الجارية في خلقه، تسمح بأن يكون المثل الجزئي المضروب، ذا دلالة وعبرة وفائدة كلية في أمثاله ونظائره. فالله عز وجل – مثلا- حينما يقول لنا: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا…} (الجمعة/5)، فهذا يسري ويصدق على كل الحالات المماثلة إلى يوم القيامة. فهو تنبيه عام وتحذير متجدد…!
الوجه الآخر للقضية
وبعد ذكر هذه الأسس المنهجية، انتقل المحاضر إلى الوجه المعاكس، حيث ذكر أن القرآن الكريم، لم يكتف بالتعليم والتثبيت لقواعد التفكير السليم، بل نبه بقوة على بعض الآفات والعوائق التي تعترض التفكير البشري، وقد تنحرف به وتفسده. ومنها:
التبعية والتقليد
هبة العقل والفكر التي منحها الله تعالى للإنسان، جعلها سبحانه هبة عينية لا كفائية. ولذلك يجب على كل واحد بصفة عينية، أن يفكر لنفسه وبنفسه، وخاصة في القضايا المصيرية. فالتفكير في القضايا المصيرية لا يقبل الوكالة ولا التفويت.
نجد القرآن الكريم انتقد مرارا وبشدة، ما يقع فيه كثير من الناس من تعطيل لعقولهم، مع الانسياق والتبعية لغيرهم، دون تفكير ولا تمييز. ومن ذلك:
– قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة/171- 170).
– وقال أيضا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة/104).
اتباع الخرص والظن
وهذه آفة أخرى ومنزلق آخر، ينحرف به الفكر عن موضوعيته واستقامته. فكثير من الناس، يندفعون وراء الظنون والتوهمات والتخيلات المنطبعة في نفوسهم، ولا يصبرون على التريث والتثبت والتحقق من الأمور بأدلتها ومن مصادرها.
قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (يونس/36)
وقال أيضا:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الأنعام/116) وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى} (النجم/2523)
التسوية بين المختلفات وعدم التمييز بين المشتبهات
وهذا أيضا أثر من آثار التعجل والسطحية والعشوائية. فسنة الله وعدله مَبنيان على التفريق بين المختلفات وإعطاء كل ذي حكم حكمَه وكل ذي حق حقَّه. وهو سبحانه ينكر أشد النكير، على من يخلطون ويلبسون ولا يميزون بين المختلفات والمتفاوتات، كما يظهر جليا في هذه الآيات:
– {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (9/20 ,19)
– {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2/275).
– {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} (القلم38-35)
– {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية).