تأملات في المشروع الفكري للشيخ يوسف القرضاوي
أ.د نور الدين الخادمي
اليوم يخص وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية التونسي الأسبق الدكتور نورالدين الخادمي "عربي21" بشهادته في مسيرة الشيخ القرضاوي وأثره في تشكيل الخطاب الإسلامي المعاصر، من موقع العارف بالشيخ القرضاوي.
تأثيره كبير في واقعنا الراهن
طَلَبَ مِنّي الأخ العزيز الإعلامي التونسي الأستاذ عادل الحامدي أنْ أشاركَ في كتابة ما تَيسّر في ملف صحفي عن الشيخ العلّامة القرضاوي بمناسبة المُعايدة الشهيرة بينه وبين الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقد بادرتُ مباشرة بإجابته بالموافقة على ذلك وتقديم بعض الاقتراحات في الموضوع. وقد أخذني الحماس في ذلك لاعتبارين:
الأول: استجابةً لطلب أخينا عادل الذي هو مِن بلدي تونس، ومِن مدينة سيدي بوزيد مُنطلق الإضاءة الأُولى المباشرة في ثورتنا التونسية المضيئة، رغم معاناتها من خُصومها والمُرْجِفين في المدينة.
والاعتبار الثاني: تقديرًا للعلّامة يوسف وآثاره الكبرى في واقعنا الراهن، بعناوين وقضايا ومجالات، هي موضوعات هذا الملف وأمثاله.
ولا أُخفي سِرّا إذا قلتُ بأنّه وبعدَ سرعة إجابتي الطلب المذكور آنفًا، تردّدتُ في المضي في المشاركة، لأعمال وتراكمات وتضايق أوقات، وهذا هَيّن، وإنّما لصعوبة ما سوف أَقْدُم عليه، بالنظر إلى ضخامة عطاء القرضاوي وغزارته ـ بسم الله ما شاء الله ـ وجريانه في مسارات ومجالات وتلبسه بالآخر والذات، وما يَقتضيه ذلك وغيره مِن عناءٍ ودعاءٍ واستقراءٍ، وما لا بُدّ فيه مِن التأليف والتصنيف والتوظيف والتأثيث. كما حَملني الحياء المنهجي على أن لا أكتب نَصّا، يكون أقرب للإنشاء المُجمل منه إلى التحقيق والتدقيق.
وهكذا كان الوعد الذي أنشأتُه، وقد أشغلتُ الذِمّة بِما أُشغِلَتْ به، ولا مَفرّ مِن المشاركة المَيسورة بقدرها الأيسر وبحدّها الأدنى، الذي نأمل أن تَبرأ به الذِمّة وأن نُذكِّر به الأمة، مع الرجاء بأن لا يُحسب هذا المقال قد استوفى اليَسير مِن مَسيرة الشيخ فضلا عمّا فوقه، وهو جُهْد مُقِلّ. وما لا يُدرك كُلّه لا يُترك جُلّه، كما يقول العلماء.
إضاءات لماذا؟
هي مواضع إنارة تُضيء في العِلم والعمل، في قضايا الداخل والخارج، في قديم العِلم وجديده، في عالم الكبار والأحرار، في مواطن السراء والضراء، في مسرح السياسة والفنون ومهبط الوحي ومجمع المتون، في التنظم بأنواعه المدني، والتعبّدي، والفكري، والحَرَكي، والمذهبي، والمدرسي... في تزكية مع تنمية مع تنشئة وتربية، في أصوليات فلسفية وتشريعية وقانونية، وفي جماعات وتشكيلات ومِلَل ونِحَل...
وهي إضاءات خاطفة وسريعة، وليست تَدلّ على فَحْص مَسيرة القرضاوي بالكُلية، وإنّما بإشارات ضوئية وملامح تنوير؛ لكشف ما أمكن مع جُهْد المُقِلّ وقِلّة الحِيلة.
مسيرة لماذا؟
لأنّها سِيرةٌ ومسارٌ ومَسيرٌ، ولأنّ لها حظوظا مِن سِيَر أعلام النبلاء وكبار الفقهاء، وجَهابذة الخبراء وصفوة العلماء، وهي سوف تدخل مدونات السِير الفخمة والتراجم الضخمة بعد رحيل عَالِمنا إلى ربّه في دار القرار، وبعد أنْ قرّر بإذن الله أن يكون من الأعلام الأحرار، في مواجهة الاستبداد، ومِن الأقطاب المحررين في تحقيق الإسناد، ومِن المحررين مِن علماء سلطان وفقهاء خذلان وكثير من ذوي الجحود والنكران.
لماذا القرضاوي؟
هو لقبُ الشيخ يوسف، وأذكرُ في تسعينيات القرن الماضي أنه زارنا أحد الأكاديميين القطريين بتونس، وتحدثنا عن الشيخ القرضاوي قليلا، فقال في ثنايا كلامه عبارة الشيخ يوسف، فقلت له: "من هو الشيخ يوسف؟"، قال لي: "هو الشيخ يوسف القرضاوي"، ونحن في قطر نقول: "الشيخ يوسف"، وهو على خلاف ما يُسمّيه به أهل تونس والغرب الإسلامي ونَواحٍ أخرى كثيرة بالشيخ القرضاوي. ولا مُشاحة في الاصطلاح كما يقول العلماء، والعِبرة للمقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني. والمقصود هو المعنى الذي دَلّ عليه المبنى، المعنى في عقيدة صحيحة وفقه وفكر، وتزكية في سياسة وسياسة في تزكية، معنى في الأمة أصيل، ومعنى في المدونة غزير، ومعنى في الكفاح كثير، ومعنى عند الخصوم عنيد وشديد. وعند الله تَلتقي الخصوم.
الشيخ القرضاوي المظلوم في ذروة نِتاجه وصعوده:
عجبًا كل العجب مِن أبناء جلدة يَظلمون شيخا بالمَعْنَيينِ عُمرا وعِمارة، ويُسارعون في الافتراء عليه بتوصيف بتعنيف، والله ينصر عبده ولو بعد حين. والابتلاءُ عنوان العطاء ومناط التكليف وموضع التمييز والتمحيص. وللشيخ حظوظ وصنوف من الابتلاء بأنواعه، ولم يزده ذلك إلا تقدما وتألقا.
ثلاثة أطوار عَرفتُ فيها القرضاوي:
1 ـ طور ما قبل برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة الفضائية، وهو طور مؤلفاته وتسجيلاته التي كُنّا نتابعها منذ أربعين عاما.
2 ـ وطور الشريعة والحياة، ذلك البرنامج الأسبوعي العلمي العالمي، كُنّا مع بدايات القنوات الفضائية نتابعه ونعده رافدا عِلميا يَنضاف إلى رافد الدرس والخطبة والمحاضرة الجامعية والموعظة الحسنة والمقاربة في فكر وسياسة وإقليم ومجال... ذكر لي أحد الفضلاء أنّ مسؤولا محليا في نظام استبداد كان يُتابع برنامج الشريعة والحياة من دون أن يعلم به أحد من أفراد النظام حتى لا يُصنّف ولا يُعنّف. وفي تلك الأيّام الحالكة كانت هنالك هجومات على الصحوة برموزها، ومنها القرضاوي الذي كان يُقال عنه بأنه زعيمهم الأول الذي علمهم الوسطية والصحوة والعالمية....
أما الطور الثالث، فهو المعرفة القريبة بالشيخ يوسف، في مؤتمرات وندوات ومجالس وتحقيقات، في الفقه والمقاصد والدعوة والصحوة والسياسة والثورة، عرفنا أنّ هذا العالم الجليل واقف رغم قعوده، ومفترى عليه مع صعوده، وهو مع ذلك رجل كريم بشوش مبتسم... والله سبحانه يتولاه بفضله ويغفر له بعفوه.
القرضاوي الخطيب والأديب:
وهذا أتركه لِمَنْ صلى معه ولازمه في جامع عمر بن الخطاب بالدوحة، وفي جوامع أخرى كان القرضاوي فيها الخطيب المُفوَّه والداعية المُوجِّه والمُحقِّق المُدقِّق... وهو مع ذلك الخطيب الأديب والشاعر الأريب وصاحب المُتون والفُنون، جعل الله له ذلك في معالي الرضوان ومكارم الإحسان. وقد كُنّا أحيانا نُتابع عبر بعض الوسائل الإعلامية خُطبه ودُروسه من جامع عمر بن الخطاب بالدوحة.
القراءة مدى الحياة:
مِن خصال الرجل في عالم القراءة: القراءة المستمرة والتأليف المتواصل، وتحقيق المسائل ومراجعة النصوص، وتقليب الكُتب التي يتوسطها لتُحيط به من كل جانب... ما شاء الله وبارك الله في عمر الشيخ التسعيني الذي يقرأ كما لو كان في امتحان وترقية، ومن دون شك، فهو يَقرأ في أوقات تقل عن أزمنة الشاب العشريني والكهل الأربعيني، ولكنه يَقرأ بعقل التسعين بفائدة وبركة المائة مع الزيادة، ويتدبر بملكات مَن أتقن فقه المئين واختزل أطوار السنين؛ فبارك الله في عمره وعمله.
العقل القرضاوي من التدريس إلى التأسيس:
التدريس أمر معروف في مسيرة القرضاوي، والتأسيس أم لا بُدّ أن يعرف، فالرجل يتحرك بعقل مؤسسي، يَنأى فيه بنفسه ومشروعه عن العشوائية والارتجال، ويُرسي فيه أشكالا من التأسيس، على نحو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بدبلن، ومركز المقاصد بلندن، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي كثيرا ما يَتحدث عنه وعن تواصله مع مئات العلماء للتحشيد والتسديد. وكذلك هيئات ومؤسسات، هي جديرة بأن تؤذن في الأمة بفريضة التأسيس وفضيلة الفريق.
الشيخ وفتوى تَعمير المساجد بالنساء:
أذكرُ منذ حوالي سنتين وفي ملتقى كبير دعوات الشيخ يوسف للأمة والعلماء والنساء؛ كي يقتنع الجميع بأَهمية حضور النساء في المساجد ومشاركتهن الرجال في تعميرها وتعظيمها، وبأنه لا يليق أن تبقى مئات الملايين من النساء محرومات من المساجد بموجب فتاوى وأعراف، وأنماط في التفقه والتدين... وقد كرر هذه الدعوات في ذلك الملتقى مرات عدة.
القرضاوي والثورة العربية:
يا ليت قومي يعلمون. مِن أمارات التوفيق وإشارات القَبول بحُسن الظنّ في الله وتمام الرجاء فيه، أن يَرى المرء تطلعاته وأفكاره بأقدار مُتحققة في الواقع، وأن يواكبها تطويرا وتثويرا. وقد كان للقرضاوي وأمثاله قدر من ذلك، حيث كان له فيها المقال، وطول البال، وتحفيز الحال، وتعبئة الأجيال.
عود على بدء، والاعتذار من جديد:
كان لي أنْ أكتب هذه الإضاءات بأكثر إحاطة تدقيقا وتوثيقا، غير أنه ـ وكما قلت هذا آنفا ـ ما لا يُدرك كُلّه لا يُترك جُلّه. وقد جَرت المقادير في عالم التواصل السريع، أن يكون لنا حَظّ مِن التسارع إلى إظهار ما قد نتباطأ فيه لو كان في غير هذا العالم بسرعته وشِدّة تقلبه. والحمد لله أن وفقنا إلى تحبير هذه الوريقات مما أظنه واجب وقت يتعلق بالذِمّة ويُقوّي الهِمّة، في لحظات رداءة بتطبيع وتطويع، وترذيل وتبطيل، لأعلام وأعمال، والله سبحانه الكبير المتعال. وما جَرى على لساني وبُنيان قلمي، فهو مما أظنه بالرجل خيرا وصدقا، وأحسبه كذلك والله حسيبه، وليس لي فيما قلتُ خوف ولا رجاء، إلا ما أظنه حقّا في التعبير وإسهاما في التقرير وعلى وجه الاعتراف والتقدير. والله يتجاوز عمّا قد أكون وقعتُ فيه من غلط أو شطط. وهو نِعم المولى ونِعم النصير.
أطال الله عمرك وأعلى مقامك... شيخنا الحبيب يوسف... وبارك ونفع بجُموع علمائنا ورموز حضارتنا وأعلام ديننا. آمين.