التغريب.. والاقتصاد الإسلامي
بقلم: د. أشرف دوابة (عضو الاتحاد)
قضية التغريب من القضايا التي تفرض نفسها في الساحة الإسلامية، وتشهد لهيباً محموماً في هذه الأيام، خاصة في ظل دعاة العلمانية في عالمنا العربي الذين يتقبلون أي دين أو مذهب وضعي إلا دين الإسلام، ولم يقتصر التغريب على الجانب السياسي والاجتماعي، بل الجانب الاقتصادي أيضاً.
عرَّفت الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة التغريب بأنه «تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي؛ وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة، وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية».
فالتغريب لا هدف من ورائه سوى صبغ حياة المسلمين باللون الغربي بحلوه ومره، خيره وشره، والدعوة إليه والتغني به باسم التقدم والحداثة، ومنها الحياة الاقتصادية، مع أن الحداثة بمفهومها الصحيح لا غبار عليها إذا كانت لا تصطدم بالأحكام الشرعية، فـ»الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها»، وشتان ما بين التغريب والحداثة، فالأخيرة تعني الانتقال من حالة قديمة إلى حالة جديدة، تشمل وجود تغيير ما، وتيسر لنا الاستفادة من كل جديد نافع، بينما التغريب يبدل ثقافة شعوبنا ويقوم على نبذ القيم والثقافة الإسلامية، وإحلال القيم الغربية مكانها، فهو انسلاخ من حضارتنا وقيمنا، وتكريس للتبعية الغربية المادية فينا.
ولو تطرقنا إلى التغريب في الاقتصاد لوجدنا الرأسمالية المتوحشة هي سيدة الموقف بويلاتها وأزماتها وثقافتها التي جعلت الربا أمراً لا فكاك منه، والمقامرة من مشتقات مالية ونحوها دواء لا بد منه، والاستهلاك الترفي متاعاً لا بد من التمسك به، وحرية السلع دون الأفراد مسلكاً محموداً، وفرض الضرائب وإهمال الزكاة منهجاً، وحصر دولنا الإسلامية في الإنتاج الريعي والتقنية المتقادمة، وتحويل الدولة من راعية للاقتصاد إلى حارسة له، بل وتفريغ العديد من البنوك الإسلامية من منهجها بالتحايل المقيت ببيع العينة والتورق المصرفي المنظم.
ومن أشد أساليب التغريب في الاقتصاد أيضاً الركون إلى المنهج التجريبي وحده دون غيره، والاستسلام لمقولة العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، ولا مكان للدين والأخلاق سوى التحييد.
إن المعرفة تشمل كل ما يتجمع لدى الإنسان من المعلومات العامة أو الحقائق القائمة على التجربة أو الإدراك الحسي أو التأمل الفلسفي أو الجهد الفكري المنظم، والعلم هو المعرفة المنظمة التي تنشأ عن الملاحظة الحسية التي تعرضت للفحص والتدقيق والتحليل والتجريب بغرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تم دراسته، ولا علم بدون منهج، ولا ممارسة للعلم بدون قاعدة علمية وضوابط منهجية، والمنهج هو الطريقة الواضحة التي ينتهجها العقل للتوصل إلى الكشف عن الحقيقة التي يريد الباحث الوصول إليها، مستعيناً في ذلك بمجموعة من القواعد العامة التي يخضع لها العقل في عملية البحث عن طريق بعض أدوات التحليل، ومنها: أدوات التحليل المنطقي التي تضم الطريقة الاستنباطية والطريقة الاستقرائية.. إلخ، وذلك بهدف التوصل -من خلال عملية التحليل- إلى أفكار ومقولات عامة.
والإسلام يؤمن بالمعرفة والعلم، ويثمن على منهج البحث في علم الاقتصاد الذي يرتبط بالسلوك الإنساني، وينصرف إلى طرق الدراسة والتحليل التي تستخدم من خلال الفكر المتتابع والمنتظم عن دراسة موضوع معين بهدف التوصل إلى قانون عام يحكم الموضوع محل الدراسة، ولكن السلوك الإنساني في الإسلام ليس سلوكاً عشوائياً ولا سلوكاً يحكمه التجريب فقط، بل يحكمه العقل والوحي المرشد لهذا العقل.
النظرية الاقتصادية
والاقتصاد الإسلامي كعلم ينشغل بالسلوك الاقتصادي للإنسان في إطار الأصول الشرعية والجوانب العقدية والأخلاقية، فهو يتضمن الأحكام التقريرية (الوضعية)، والتقديرية (المعيارية) معاً، فدراسة الجوانب الواقعية من السلوك الاقتصادي لا تقل أهمية عن دراسة الجوانب المعيارية فيه، والنظرية الاقتصادية الواقعية هي نظرية علمية يتحدد إطارها بملاحظة الواقع وتفسيره، مثل قانون الطلب الذي يعكس العلاقة العكسية بين الكمية المطلوبة والسعر، فهي تستند لمعايير واقعية.
والنظرية الاقتصادية المعيارية لا تعني انفصال النظرية الاقتصادية عن الواقع تماماً، حيث تصبح هذه المثالية مسألة خيالية خارجة عن نطاق اهتمام الاقتصاديين، إنما المقصود بالمفهوم المثالي هو ارتباط النظرية الاقتصادية بعض الأهداف المرغوبة التي يظن صاحب النظرية أنه ينبغي تحقيقها في الواقع، فقد تتضمن النظرية الاقتصادية فرض التوزيع العادل للدخل القومي في المجتمع، بينما أن التوزيع السائد في الواقع غير عادل، وفي مثل هذه الحالة لن يمكن اختبار النظرية الاقتصادية مثلما هي الحال في المفهوم الواقعي للنظرية، حيث يقتصر ذلك فقط على تحقق الهدف المثالي على أرض الواقع، حيث يمكن حينئذ اختبار النظرية وتنتفي منها الصفة المثالية وتصبح واقعية، ومعظم ما يتكلم عنه البعض في نظريات اقتصادية في إطار قيم أخلاقية معينة أو عقائد دينية يدخل في نطاق المفهوم المثالي، حيث لا تخلو النظرية من بعض فروض غير موجودة في الواقع، ومع ذلك يرى أنه ينبغي أو يجب تحقيقها.
إن المفهوم المثالي للنظرية الاقتصادية أو ما يطلق عليه الأحكام التقديرية يقوم على أحكام قيمية معيارية (أي شخصية) تخضع لقيم الإنسان ومعتقداته أو انتمائه الفكري والسياسي والاجتماعي، ويقصر البعض البحث العلمي على الأحكام التقريرية أو الوضعية دون الأحكام التقديرية أو المعيارية، باعتبار الأولى تختص بما هو كائن فعلاً، وأي اختلاف فيها يمكن حسمه باللجوء إلى الحقائق المشاهدة، بينما الثانية تختص بما ينبغي أن يكون، ومن ثم فهي تتضمن أحكاماً شخصية تعكس وجهات نظر الأفراد وميولهم ومعتقداتهم، ومن ثم تعذر حسم أي خلاف بشأن هذه الأحكام.
والواقع أن منهج البحث في العلوم الاجتماعية يختلف عنه في العلوم الطبيعية، والاقتصاد كعلم اجتماعي محوره الإنسان ككل في نطاق الإنتاج والاستهلاك والتوزيع إشباعاً لحاجاته، وهو مجال يختلف عن مجال بحث وأهداف العلوم الطبيعية، وإن كانت جميعها في النهاية تخدم الإنسان، ومن ثم فإن الدراسة العلمية لا تقتصر على مجال الأحكام التقريرية، وإنما تمتد إلى مجال الأحكام التقديرية كذلك.
وعلى ذلك، فإن علم الاقتصاد الإسلامي لا يقف عند دراسة الواقع فقط، بل يتجاوزه إلى دراسته كما ينبغي أن يكون، ثم تحديد الخطوات العلمية والعملية لتعديل الواقع القائم ليصبح هذا الواقع كما ينبغي أن يكون، بمعنى آخر؛ إن مهمته وهدفه هي مهمة وضعية ومعيارية معاً.
والباحثون في الاقتصاد الإسلامي مطالبون بالنظر في الكتاب والسُّنة وأقوال الفقهاء والعلماء في الكتب الشرعية وكتب الفكر الاقتصادي وكتب التاريخ ورؤيتهم للظاهرة الاقتصادية في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والنقود والتجارة الدولية.. إلخ، وكذلك دراسة الواقع من حيث وصفه وتفسيره.
النظرية الاقتصادية الوضعية والإسلامية
وقد عجزت النظريات الاقتصادية الوضعية التي يسعى أهل التغريب لجعلها منهجاً لنا عن حل المشكلات الاقتصادية المعاصرة، وركزت على الماديات وأهملت الروحانيات وحيدت الأخلاق، وسارت في ركب الحياد العلمي للنظرية الاقتصادية الذي تبنته المدرسة التقليدية الجديدة بمناداتها بتجريد الظاهرة الاقتصادية عن غيرها من الظواهر الاجتماعية والأخلاقية، بينما النظرية الاقتصادية الإسلامية تنبع من القيم الإسلامية، وتوازن بين المادة والروح، وهدفها بناء الإنسان الاقتصادي الصالح الذي استخلفه الله لعمارة الكون بحوافز مادية وإيمانية وأخلاقية، لا الإنسان الاقتصادي المادي الذي على أساسه تم إقرار تعظيم الربحية للمنتج وتعظيم المنفعة للمستهلك بحوافز مادية بحتة.
وبناء نظرية اقتصادية إسلامية ينبغي أن يكون في إطار الثوابت، بالاستفادة من دراسة النظريات الاقتصادية الغربية رغم ارتباطها بفلسفات وبيئات مختلفة، ولكن مع ذلك يمكن البناء عليها بما يلائم واقعنا، ودون اصطدام مع أحكام شريعتنا، سواء بمفهوم المخالفة إذا كنا مختلفين تماماً، أو بمفهوم المشابهة في بعض الأحيان إذا كان هناك تشابه، فنحن لا نبدأ من الصفر ولا نهدر القوانين الاقتصادية التي ثبت صحتها ولا تصطدم بشريعتنا، فالمعرفة تراكمية، والتعديل والتطوير للنظريات الاقتصادية المعاصرة لا غبار عليه، لا سيما وأننا نمتلك تراثاً فقهياً عظيماً يمكننا من الربط بين الأصالة والمعاصرة.
وإذا كانت النظرية الوضعية تتطلب اختبار فروضها الاحتمالية بالرجوع إلى الحقائق والمشاهدات التي تؤيد ذلك، فإن النظرية الاقتصادية الإسلامية لا تحتاج إلى مثل هذا الاختبار على أساس أن الثوابت مسلمات في الاقتصاد الإسلامي يوقن بها الباحث يقيناً لا شك فيه، فحينما يقول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276) فهذا من المسلمات ولا مجال لاختباره حتى نثبت صحته.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول: إن النظرية الاقتصادية الإسلامية يمكن أن تحتوي الممارسات المادية بعد تهذيبها وفقاً للمبادئ الإسلامية، فالعقل ليس المصدر الوحيد للمعرفة، بل العقل والوحي المرشد له، مع أهمية تفسير النتائج المتأتية منها بعناية، ويجب ألا تلتبس بشريعة الإسلام وعصمتها، فالباحثون متفاوتون في المقدرة على الفهم والاستنباط، بل ومتفاوتون في معرفة هذه الأصول الشرعية والإحاطة بها، فالنظرية الاقتصادية الإسلامية وإن استمدت مسلماتها وأطرها العامة من الوحي، فإنها ليست في نفسها وحياً منزلاً، وإنما هي بالضرورة مشتملة على اجتهادات وأفكار وتفسيرات بشرية ضمن مكوناتها الرئيسة، وفي كل ذلك قد يرد الخطأ، وهذا الخطأ لا يمكن أن يمس عصمة الشريعة، فهو مجهود بشري مستنبط من النصوص ويرجع على قائله ومفسره.