كروتنا الحمراء
بقلم: د. سعد الكبيسي (عضو الاتحاد)
أن يكون الأمر الديني قطعيا وثابتا ومسلّما به لا يعني أبدا عدم جواز الاستفسار عنه وعدم دخول الشبهة فيه على الناس.
إن علينا أن لا نرفع الكارت الأحمر في ساحة الحوار والنقاش في وجه كل سائل ومتشكك، لتحرمه من المتابعة وحقه في الاستفهام والمعرفة.
وإن علينا أن نرجع سيف المسلمات إلى غمده، ونسحب دعوى الثوابت من المرافعة، وأن نتأنى في تنزيل مصطلحات الفسق والكفر والاتهام بعدم التخصص على قول أو فعل لأحد من الناس قبل عقد الحوار معه، وفك العقدة، وتوضيح المشكل الحاصل عنده، وفق الأصول والضوابط التي يريدها القرآن والسنة.
إن الفكرة تقارع بالفكرة والحجة تدحض بالحجة، وإن أكبر مقتل للمحاور أن يتعجل في حسم الحوار، تحت حجة أنه مخالف للثوابت والمسلمات والقطعيات في هروب مبطن من إثبات خطأ الفكرة محل الحوار، إلى طريقة سلبية في الحسم لا تصحح فكرة ولا تقنع محاورا، مع الانتباه إلى أن كثيرا مما نعده ونظنه من الثوابت والمسلمات هو ليس كذلك ولم ينعقد عليها إجماع ولا اتفاق صحيح صريح.
هل هناك قطعي أكبر من استحالة رؤية البشر لله تعالى في الدنيا؟!!
ومن قدرة الله على إحياء الموتى؟!!!!
لقد حاور الله عبده موسى حين طلب النظر إليه ولم يجرمه، بل أثبت له الاستحالة من خلال: دليل نظري: "لن تراني"، ودليل عملي: "انظر إلى الجبل".
وحاور عبده إبراهيم حين طلب رؤية كيفية إحياء الله للموتى، فأثبت له القدرة من خلال:
دليل نظري : "أولم تؤمن"، ودليل عملي: "فخذ اربعة من الطير".
وانظر لحوار إبراهيم مع أبيه آزر حين أثبت له الإيمان بحوار عقلي وعملي، وحواره مع قومه من خلال محاججة بليغة مفحمة، حين أثبت بطلان الأصنام من خلال إثبات عجزها.
وهؤلاء الصحابة مع رسول الله ﷺ يسألونه في أخطر قضية في الوجود، وهي وجود الله تعالى ومن الذي خلقه سبحانه، فيقول : "ذاك صريح الإيمان ".
وهذا شاب يستأذن في محرم قطعي في الشريعة وهو محرم الزنا ويطلب إباحته، فلم يعنفه ويبين له أن ذلك ليس منكرا دينيا فحسب، فهو منكر اجتماعي "أترضاه لأمك لأختك لخالتك لعمتك...".
إن العالم والداعية والمحاور ليس قاضيا يصدر الأحكام، إنما هو صاحب رسالة يتدرج في الإقناع بها ودفع الشبهات عنها، وعند ذاك لن يحتاج مطرقة القاضي عند إصدار الحكم إلا قليلا.
إن كثيرا من الحوار النافع والتلاقح الفكري المثمر نخسره، لمجرد أن أحد الأطراف يظن أن ما يقال مخالف للثوابت، فتنتفض غيرته الدينية لحسم الحوار والنقاش ظانا أنه يحسن صنعا.
وكثير مما تخسره الدول والمؤسسات وحتى العوائل والأسر والأفراد أن لديهم قائمة طويلة من الثوابت والمسلمات _كما يظنونها _ لتحرم نفسها من كثير من التطوير والمراجعة.
إن في الشريعة "خطوطا حمراء وثوابت راسخة"، لكن ليس في الشريعة منع أحد أو تجريمه من الاستفسار عنها أو طرح شبهة دخلت عقل أحد "دون علم ولا تحصين فكري يحميه".
إن الحوار والتعليم والمناقشة هي التي ستظهر الكروت والخطوط الحمراء عند المجادل، ليعرف حينها أن هناك أشياء ينبغي أن تحترم، ولا يمكن تجاوزها فيقتنع ويسلّم، لكن أن ترفع في وجهه من البداية فهذا خطأ جسيم!
ليطرح من شاء ما شاء، فله أن يطرح وللمتخصص والعارف أن يرد ما دام واثقا من منهجه وعصمة دينه.