التدين الفاسد
بقلم: الشيخ محمد الغزالي
تجاربي في الدعوة:
تخرجت من الأزهر سنة 1360 هجرياً الموافق سنة 1941 م ومنذ ذلك الوقت وأنا أعمل في خدمة الإسلام دعوة وتدريساً.
وفى رأيي أن الدعاة إلى الله ، في هذا العصر غيرهم في العصور الماضية فقديماً كانوا يدركون حظاً من النجاح بمعرفة محدودة وتقوى ظاهرة .
أما في هذا العصر فإن أعداء الإسلام قد تضاعف نشاطهم ونمت أحقادهم وكثرت العقبات التي وضعوها في طريق الدعاة واستطاعوا استغلال التفوق الحضاري لوقف الزحف الإسلامي في أقطار كثيرة ، بل ولعلهم استغلوا ثراءهم وقدرتهم في فتنة طوائف من المسلمين في إفريقيا وآسيا وأوروبا ، ولذلك لا يكفى أن تعمل أجهزة الدعوة الإسلامية ، بل لابدٌ وأن تكون من ورائها خدمات شتى اجتماعية وصحية وتعليمية وثقافية … إلخ.
شروط الداعية:
والدعوة إلى الله لا يصلح لها بداهة أي شخص ، إنَّ الداعية المسلم في عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية ، بمعنى أن يكون عارفاً للكتاب والسنة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية ، وفى الوقت نفسه يجب أن يكون ملماً بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التي تتصل بشتى المذاهب والفلسفات.
ويجب على من يدعوا إلى الله أن يتجرد لرسالته التي يؤديها فتكون شغله الشاغل وعليه أن يبادل الناس بقلب مفتوح فلا يكون أنانياً ولا حاقداً ولا تحركه النزوات العابرة ولا ينحصر داخل تفكيره الخاص فهو يخاطب الآخرين ، وينبغي أن يلتمس الأعذار للمخطئين وألا يتربص بهم ، بل يأخذ بأيديهم إذا تعثروا .
ويحتاج الداعية المسلم في هذا العصر إلى بصر بأساليب أعداء الإسلام على اختلاف منازعهم سواء كانوا ملحدين ينكرون الألوهية أو كتابيين ينكرون الإسلام.
وقد لاحظت أن هناك أصنافاً من الناس في ميدان الدعوة تسئ إلى الإسلام أشد الإساءة منهم الذى يشتغل بالتحريم المستمر فلا تسمع منه ، إلا أن الدين يرفض كذا وكذا دون أن يكلف نفسه أي عناء لتقديم البديل الذى يحتاج إليه الناس .. وكأن مهمته اعتراض السائرين فى الطريق ليقفوا مكانهم دون أن يوجههم إلى طريق آخر أرشد وأصوب.
وهناك دعاة يعيشون في الماضي البعيد وكأن الإسلام دين تاريخي وليس حاضراً ومستقبلاً ، والغريب أنك قد تراه يتحامل على المعتزلة والجهمية مثلاً وهو محق في ذلك ، ولكنه ينسى أن الخصومات التي تواجه الإسلام قد تغيرت وحملت حقائق وعناوين أخرى.
وهناك دعاة آخرون لا يفرقون بين الشكل والموضوع أو بين الأصل والفرع ، أو بين الجزء والكل ، بأي شكل من الأشكال ويبددون قواهم كلها في محاربة هذا الشكل ، أما الموضوع فهم لا يدرون ماذا يصنعون إزاءه ولهؤلاء عقلية لا تتماسك فيها صور الأشياء بنسب مضبوطة ، ولذلك قد يهجمون شرقاً على عدو موهوم ويتركون غرباً عدواً ظاهراً ، بل ربما حاربوا في غير عدو … وهؤلاء وأولئك عبء على الدعوة الإسلامية يجب إصلاحهم كما يجب إصلاح الذين يدخلون ميدان الدعوة بنية العمل لأنفسهم لا لمبادئهم فإن العمل الذى يستهدف القيم الإسلامية غير العمل الذى يدور حول المآرب الشخصية.
تبيٌن لي بعد أربعين سنة من العمل في الدعوة الإسلامية أن أخطر ما يوجه العمل الإسلامي هو التدين الفاسد أي استناد النفس إلى قوة غيبية وهي تعمل للخرافات والأوهام، أو هي تعمل للأغراض والمآرب الدين مثلاً يقظة عقلية وهؤلاء يعانون تنويماً عقلياً متصلاً والدين قلب سليم وهؤلاء استولت على قلوبهم علل رديئة.
والأمر في كشف التدين الفاسد يحتاج إلى تفاصيل للتعامل مع الآفات النفسية والعقلية التي تسبب هذا البلاء ، وقد خصص أبو حامد الغزالي جزءاً ضخماً من كتابه (الإحياء) في علاج هذه الآفات والتحذير منها ، كما وضع ابن الجوزي كتاب (( تلبيس إبليس)) للكشف عن صور التدين الفاسد وإبعاد العامة والخاصة عنه.
وقد ألفت بعض كتبي وأنا مستغرق في محاربة هذا الجانب من التدين المعلول سواء كان رسمياً ، أو شعبياً مثل كتاب: (تأملات في الدين والحياة) وكتاب: (ليس من الإسلام) وكتاب: (ركائز الإيمان بين العقل والقلب) وأخيراً كتابي: (الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر).
والحقيقة أن التدين الفاسد سر انحراف كثير من العقلاء لأنهم ينظرون إلى الدين من خلال مسالك بعض رجاله وآثارهم في الحياة العامة ، والواقع أن بعض المتدينين كانوا في القديم والحديث بلاء على الدين.