الإنفاق العام عند لخليفة العادل عمر بن عبد العزيز: سياسة الاتزان والوسطية
بقلم: د. علي محمد محمد الصلابي
إنفاق عمر على الرعاية الاجتماعية:
لتحقيق هدف إعادة توزيع الدخل والثروة سعى عمر إلى زيادة الإنفاق على الفقراء والمحتاجين، وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية لهم، وهذه مطالب شرعية جاءت في القران الكريم والسنة النبوية، ولقد اهتم منذ الأيام الأولى لخلافته باتباع الشرع والتزام الحق والعدل، فأرسل إلى العلماء يستفسر، وقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر كتاباً عن مواضع السنة في الزكاة ليعمل بها في خلافته، فذكر فيها: إن فيها نصيباً للزمنى والمقعدين (أصحاب العجز الأصلي)، ونصيباً لكل مسكين به عاهة لا يستطيع عَيْلة وتقليباً في الأرض (أصحاب العجز الطارئ؛ كالعامل الذي يصاب في عمله، والمجاهد الذي يصاب في الحرب). ونصيباً للمساكين الذين يسألون ويستطعمون الغني حتى يأخذوا كفايتهم (ولا يحتاجون بعدها إلى سؤال).. ونصيباً لمن في السجون من أهل الإسلام ممن ليس له أحد... ونصيباً لمن يحضر المساجد الذين لا عطاء لهم ولا سهم (أي ليست لهم رواتب ومعاشات منتظمة) ولا يسألون الناس... ونصيباً لمن أصابه فقر وعليه دين ولم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه.. ونصيباً لكل مسافر ليس له مأوى، ولا أهل يأوي إليهم، فيُؤوى ويُطعم وتُعلف دابته حتى يجد منزلاً أو تقضى حاجته.
الإنفاق على الفقراء والمساكين:
فقد كان يفكر في الفقراء والمساكين، ويسعى إلى إغنائهم، فقد مرت معنا قصته مع زوجته فاطمة عندما سألته عن سر بكائه، فقال لها: تقلّدت أمر أمة محمد (ص)، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد (ص)، فخشيت ألا تثبت حجتي عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.
هذه الحادثة تلخص سياسة عمر في الإنفاق على الفئات المحتاجة، والحادثة مليئة بالمعاني وتحتاج إلى وقفات؛ فقد شعر عمر بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه؛ قال رسول الله (ص): «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته».
وقد عمل عمر على سـد احتياجات الناس، جاء رجل لعمر فقام بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين! اشتدت بي الحاجـة، وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي غداً بين يديه، وكان عمر قد اتكأ على قضيب، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب، ثم فرض له ولعياله، ودفع له خمسمئة دينار حتى يخرج عطاؤه.
وكان رحمه الله يهتم بشأن الأرامل وبناتهن كما حدث مع المرأة العراقيـة التي مرّ ذكرها، وقد قال (ص): «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل».
وقد خصّص عمر داراً لإطعام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ولم يكتفِ عمر
بالاعتناء بالفقراء فحسب، بل امتدت رعايته إلى المرضى وذوي العاهات والأيتام، فقد كتب كتاباً إلى أمصار الشام: ادفعوا إليّ كل أعمى في الديوان أو مقعد، أو من به فالج، أو من به زمانة، تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة. فرفعوا إليه، فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزمنى بخادم.. ثم كتب: ارفعوا إليّ كل يتيم، ومن لا أحد له... فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعون بينهم بالسوية.
الإنفاق على الغارمين:
من الفئات التي اهتم بها عمر الغارمون، فقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر عن سهم الغارمين: لمن يصاب في سبيل الله في ماله.. ولمن أصابه فقر، وعليه دين لم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه. ولذلك أمر عمر بقضاء الدين عن الغارمين، فكتبوا إليه: إنا نجد الرجل له المسكن، والخادم، وله الفرس، والأثاث في بيته، فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من سكن يأوي إليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوّه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه.
وكتب إليه والي الكوفة وقد اجتمعت عنده أموال، فسأل عمر عنها فأجاب: كتبت تذكر أنه قد اجتمعت عندك أموال بعد أعطية الجند، فأعطِ منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوّج فلم يقدر على نقد والسلام. وكتب كتاباً قُرأ في مسجد الكوفة: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج امرأة فلم يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله.
الإنفاق على الأسرى:
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا *} [الإنسـَـان: 8-10]. اهتم عمر بن عبد العزيز بالأسرى وبالإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين، فقد كتب كتاباً إلى أسرى المسلمين في
القسطنطينية، وقد تحدثت عن الكتاب في كلامي عن الحياة الاجتماعية، واهتم بالسجناء في سجون المسلمين بسبب جرم أو قصاص، فقد أمر عمر برعايتهم والإنفاق عليهم. وكتب عمر إلى العمال: لا تدعُنَّ في سجونكم أحداً من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلي قائماً، ولا يبيتنّ في قيد إلا رجل مطلوب بدم، وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وإدامهم. وأمر لأهل السجون برزق وكسوة في الصيف والشتاء.
د ـ الإنفاق على المسافرين وأبناء السبيل:
اهتم عمر بالمسافرين وأبناء السبيل، فأمر عماله ببناء بيوت الضيافة على الطرق لرعاية المسافرين والاهتمام بهم، وكتب إلى أحد عمّاله: اعمل خانات في بلادك، فمن مرّ بك من المسلمين فأقروهم يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علَّة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده. وأمر عمر بالاهتمام بالحجّاج، والإنفاق عليهم ورعاية ضعيفهم وإغناء فقيرهم.
الإنفاق لفك الرقاب:
بعد أن أنفق عمر على الفقراء والمساكين، والعاجزين، والغارمين وأبناء السبيل وجه الأموال لفك رقاب المستعبدين، وقال عامل صدقات إفريقية: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً.. فاشتريت بها رقاباً ولاؤهم للمسلمين.
الإنفاق في وجوه أخرى:
وقد مرّ معنا إنفاق عمر على العلماء لكي يتفرغوا لدعوة الناس وتعليمهم، واتسعت رعايته الاجتماعية لتشمل جميع فئات الأمة حتى الأطفال الصغار، وحدّد لهم مبلغاً من المال ليستعين به ذووهم على تربيتهـم، واهتم بمواطنيـه من أهل الذمـة، فكان ينفق على فقرائهم ومحتاجيهم من بيت المال، كما أنه لابد من الإشارة إلى أن سياسة
عمر بن عبد العزيز الراشدة ساهمت في إغناء عدد كبير من المسلمين وزيادة ثرواتهم في المجال التجاري والزراعي وغيرها، وساهمت في سريان روح التدين وحب الاخرة في نفوس الناس، ورغبوا في الإكثار من فعل الخيرات ابتغاء مرضاة الله تعالى والرغبة فيما عند الله، فكثر الإنفاق في سبيل الله لمساعدة الفقراء والمساكين والأرامل، وبناء المرافق العامة وحفر الابار، وتشييد المساجد وغير ذلك، وهذا يخفف الأعباء المالية على بيت مال المسلمين في العاصمة وأقاليمها الواسعة.
المصادر والمراجع:
– علي محمد محمد الصلابي، عمر بن عبد العزيز ومعالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة، ص 295:290.
– الثمر الداني في تقريب المعاني، شرح رسالة أبي زيد.340.
– الحياة الاقتصادية والاجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي، عبد الله محمد السيف، مؤسسة الرسالة، 1403 هـ 1983 م.
– ابن الجوزي، سيرة عمر بن عبد العزيز ص 280.