قالوا في سماحة الإسلام (2)
الشيخ إبراهيم النعمة (عضو الاتحاد)
حديث في المستشرقين : الدكتور غوستاف لوبون[1]
الدكتور غوستاف لوبون مستشرق فرنسي ولد سنة 1841م وتوفي سنة 1931م ويُعَدُّ من فلاسفة علم الاجتماع الفرنسيين. وقد كان منصفاً في أكثر كتاباته، دافَعَ فيها عن الحضارة العربية وعن حقوق المسلمين، وانتقد ظلمَ الدول الأَوربية المستعمرة، وانتقد قومَه الفرنسيين الذين ظلموا الشعبَ الجزائري. له مؤلفات مهمة منها (سرُّ تطور الأُمم)، و(روح الجماعات)، و(الآراء والمعتقدات)، و(روح الثورات والثورة الفرنسية)، و(روح الإشتراكية)، و(حضارات الهند)، و(الحضارة المصرية)، و(حضارة العرب في الأَندلس)، و(حضارة العرب) الذي نقلنا منه شيئاً من أَقواله. ولم يثن (لوبون) على العرب في كتابه (حضارة العرب) وحده، بل أَثنى عليهم في كتابه أيضاً الموسوم (روح الثورات والثورة الفرنسية) الذي قال فيه:
«لقد أَثبتَ التاريخ ما للمعتقد القويّ من القوة التي لا تقاوم: فخضعت دولةُ الرومان المنيعة لجيوش من رعاة البدو، الذين أَضاء قلوبَهم ما جاء به محمد ﷺ من الإيمان»([2]).
وقال «وسيرى القارئ حين نبحث في فتوح العرب وأَسباب انتصاراتهم: أنَّ القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العربُ المغلوبين أَحراراً في أَديانهم. فإذا حدث أن اعتنق بعضُ الأَقوام النصرانية الإسلام، واتَّخَذُوا العربيةَ لغة لهم؛ فذلك لما رأَوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثلَه من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل. وقد أَثبت التاريخ أنَّ الأَديان لا تُفْرضُ بالقوة: فلما قهر النصارى عرب الأَندلس، فضَّلَ هؤلاء القتلَ والطردَ عن آخرهم على ترك الإسلام. ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقت الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول»([3]).
ونقل (لوبون) قول الراهب (ميشو) في كتابه (رحلة دينية في الشرق):
«من المؤسف ألَّا تقتبس الشعوبُ النصرانيةُ من المسلمين التسامحَ الذي هو آية الإحسان بين الأُمم واحتدام عقائد الآخرين، وعدم فرض أيِّ معتقد عليهم بالقوة»([4]).
ونقل (لوبون) ما قاله (ميشود) في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية):
إنَّ القرآن الذي أَمَرَ بالجهاد، متسامح نحو أَتباع الأديان الأُخرى: وقد أَعفى البطاركة والرهبان وخَدَمَهم من الضرائب، وحرَّم محمد ﷺ قتل الرهبان لعكوفهم على العبادات، ولم يمسَّ عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، فذبح الصليبيون المسلمين بلا رحمة وقتما دخلوها»([5]).
وقال: «رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفاً: أنَّ مسامحة محمد ﷺ لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأَديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسترى كيف سار خلفاؤه على سنته. وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أَوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أَنعموا النظر في تاريخ العرب، والعباراتُ الآتيةُ التي أَقتطفها من كتب الكثيرين منهم، تثبت أنَّ رأينا في هذه المسألة ليس خاصاً بنا. قال (روبرتسن) في كتابه (تاريخ شارلكن): [إنَّ المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأَديان الأخرى، وأَنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم (كذا)، تركوا من لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية] »([6]).
وقال: «وكان محمد ﷺ كثير المسامحة لليهود والنصارى؛ خلافاً لما يظن»([7]).
وقال: «وكان عمرو بن العاص سمحاً رحيماً نحو أَهل الإسكندرية مع تلك الخسارة التي أُصيب بها العرب، ولم يقسُ عليهم، وصنع ما يكسب به قلوبهم، وأَجابهم إلى مطالبهم، وأَصلح أَسْدادهم وتُرَعَهم، وأَنفق الأَموال الطائلة على الشؤون العامة»([8]).
وقال: «كان يمكن أنْ تُعميَ فتوح العرب الأولى أَبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئُوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم. ولكنَّ العرب اجتنبوا ذلك، فقد أَدرك الخلفاءُ السابقون ــ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ــ أنَّ النظم والديانات ليست مما يُفرض قسراً([9])، فعاملوا ــ كما رأينا ــ أَهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطفٍ عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً في مقابل حفظ الأمن بينهم. فالحق أنَّ الأُمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم»([10]).
وقال: «ومما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأَسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثيرٍ من الأُمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمةً حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم»([11]).
[1] من كتاب صور من سماحة الإسلام من غير المسلمين لفضيلة الشيخ إبراهيم النعمة
[2])) روح الثورات والثورة الفرنسية تأليف: غوستاف لوبون ص20.
[3])) حضارة العرب تأليف غوستاف لوبون ص127-128، نقله إلى العربية: عادل زعيتر، الطبعة الثالثة، دار إحياء الكتب العربية، 1956م، القاهرة.
[4])) حضارة العرب ص128، الهامش.
[5])) حضارة العرب ص128، الهامش.
[6])) حضارة العرب 128 في الهامش.
[7])) حضارة العرب ص155.
[8])) حضارة العرب ص213.
[9])) صحيح أن الخلفاء الراشدين كانوا عباقرة، لكن سياسة التسامح مع إقامة موازين العدل والمساواة بين الناس التي طبقها الخلفاء الراشدون وقادتهم كانت بفضل شريعة الإسلام، فكان القادة يسيرون على وفقها، وليست المسألة مسألة عبقرية سياسية فقط.
[10])) حضارة العرب ص605.
[11])) حضارة العرب ص605.