احرصوا على الذكر الحسن بعد الموت
بقلم: الشيخ أحمد نصار (عضو الاتحاد)
الموت باب كلُّ الناس داخلوه، وكأس لا بد من شربه، وإن طال بالعبد المدى وعمّر سنين، لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت)، ولم يستثني الله عز وجل من هذا الحكم أحداً من الخلق، حتى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم أصابه الموت كما أصاب سائر الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين فقال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ). فالخلق كلهم متساوون في حكم الموت لا فرق بينهم، ومهما حاول الإنسان البعد عن الموت فلن يستطيع دفعه (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، فما لنا عن ذكره مشغولين؟! وعن الاستعداد له متخلفين؟! (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أنتم عنه معرضون).
لقد أوجد الله تعالى عباده في الدنيا، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياة والموت، فتنة منه سبحانه ليمتحنهم أيهم أحسن عملاً، كما قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). فلا خلودَ في الدنيا لأحَد، وإنّما الأعمال الجليلَة، والآثار الجميلَة، والسنَن الحسَنة، تخلِّد ذكرَ صاحبها بين الناس، وتورثه في حياتهِ وبعدَ مماته ذكراً وحمداً وثناء ودعاءً.
وبقاءُ الذّكر الجميل، واستمرارُ الثناء الحسَن، والصيتِ الطيب للعبد بعدَ رحيله عن هذه الدار، نعمةٌ عظيمة يختصّ الله بها من يشاء مِن عباده ممن بذَلوا الخير والبرّ، ونشروا الإحسان، ونفعوا الخلق، وجمعوا مع التقوى والصلاح، مكارمَ الخصالِ، وجميلَ الخلال، وجاهدوا في الله حق الجهاد، وهو ما سأل الخليل إبراهيم عليه السلام ربّه (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ)، أي واجعل لي في الناس ذكراً جميلاً وثناءً حسناً باقياً فيمن يجيء من بعدي، فأراد نبي الله إبراهيم ذكراً طيباً وعملاً يقتدى فكان قدوة الموحدين وخليل رب العالمين، وقد استجاب الله تعالى له فقال بعد ذكره إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام: (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّا)، أي: الثناء الحسن.
وأرفعُ الناس قدراً وأبقاهم ذكراً، وأعظمُهم شرفًاً، وأكثرهم للخَلق نفعاً: النبيُّ المعظَّم، والرسول المكرَّم، محمّد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ). وهو حال كل الأخيار والصالحين ممن أخلص لربه، وسار على درب النبي صلى الله عليه وسلم، وستنّ بسنته؛ كالشجاع الذي يحمي حياض وطنه، ويدافع عنه، ويقاوم الغاصب والمحتل، وينتصر لدينِه وعقيدته وأرضِه، تراه معظَّماً في النّفوس، كبيراً في أعينِ النّاس، جليلاً عند أهلِ الإسلام. وكالمعلّم التقيّ المتواضِع للناس، الذي يسعَى في نفعِهم وتعليمِهم، والإحسانِ إليهم، ويخطب فيهم بكلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، يعلُو في الأرض ذكرُه، ويرتفع في النفوس قدرُه، ويبقى بين الخلق أثره. وكالغنيّ الجواد الكريم، السخيّ المعطاء، الذي يعطِف على الفقراء والأرامل، ويكفل الأيتام، ويرحَم المحتاجين، ويشفِق على المساكين، ويجاهد في ماله مع المجاهدين إعلاء لكلمة الله، فإنّ العامّة تضِجُّ بالدعاء له، وذِكرِ محاسنه، ويُكتَب له قبولٌ تامّ، وجاهٌ عريض. وكالعافّ عن المحارِم، الكافّ عَن أعراضِ الناس، الذي يبذُل الندى ويكُفّ الأذى، ويحتمل المشقّة، ويرضِي الناس في غير معصية، بأصالةِ رأي، ورجاحَة عقل، وسلامة قلب، وعِفّةٍ في الفرج واليد واللسان، فذاك السيّد الوجيهُ الذي يُقدَّمُ على الأمثال، وتهابُه الرّجال، ويَبقَى ذكرُه في الأجيال. ومِن الأعمال الصالحة التي تُفتَح للموفَّقين، فيرضَى الله بها عنهم، ويُرضي بها خَلقَه، ويلحقهم أجرها بعد الممات: إقراء القرآن، ونشر سنّة النبي العدنان، وبناء المساجِد والمدارِس والمعاهد والمشافي، وحفر الآبار، وكثرة الصدقة، وتزويج المعدوم، وإنصاف المظلوم، والأداء عن المحبوس المديون، وقضاء الحوائج، وإدخال السّرور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحكمة، والنصيحة للمسلمين، والإصلاح بين المتخاصمين، وجمع كلمةِ الأمّة على الخير والهدى والتقوى والصلاح، إلى غير ذلك من طرقِ الخير، ووجوه البر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْماً، أَوْ كَرَى نَهَراً، أَوْ حَفَرَ بِئْراً، أَوْ غَرَسَ نَخْلًاً، أَوْ بَنَى مَسْجِداً، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًاً، أَوْ تَرَكَ وَلَداً يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْماً عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَداً صَالِحاً تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًاً وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِداً بَنَاهُ، أَوْ بَيْتاً لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْراً أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ).
إنّ الأخيار والصالحين بعد مماتهم يفقدهم الإنسان وكلّ ذي روح وحتى الجماد، وفي الحديث (ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه. فذلك قوله: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ))، فالأخيار والصالحون أصحاب الذكر الحسن والسمعة الطيبة، تبكي الأرض لفقدهم كما تبكيهم السماء، وأما غير الأخيار والصالحين أناس كثر يموتون فلا يُؤسَف على فراقهم، ولا يحزن على فقدهم؛ إذ لم تكن لهم آثارٌ صالحة، ولا أعمالٌ نافعة، ولا إحسانٌ إلى الخَلق، ولا بَذل ولا شَفَقَة، ولا عَطف ولا رحمة، ولا خُلُق حسن، وفي أمثال هؤلاء قال الله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) فلا يُرى لهم في الأرض شاكِر، ولا لهم بالخير ذاكر.
والمؤمن الصالح لا يبذُل الخير طلباً للمدح، ولا رغبةً في الثناء، ولا طمعاً في الذكر، وإنما إرضاءً لله سبحانه، وبذلك يقبل الله سَعيَه، ويضَع له القبول والحبَّ بين عبادِه، ونشَر له الذّكرَ الحسن، والثناء والدعاء في حياته وبعدَ مماته؛ قال صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ أن تعرفوا أهلَ الجنةِ من أهلِ النارِ قالوا بم ذاك يا رسولَ اللهِ قال بالثناءِ الحسنِ والثناءِ السيِّئِ أنتم شهداءُ اللهِ بعضُكم على بعضٍ)، وحين يذكر الإنسان بالخير والثناء الحسن كان ذلك عاجل بشرى المؤمن، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عليه؟ قالَ: (تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ).
فاحرصوا على الذكر الحسن بعد الموت؛ فالحبّ يسرِي، والحمدُ يَبقى، والثناء والدعاءُ يدوم لمن عمَّ نفعُه، وشمِل عطاؤُه وإحسانه، وتواصَل برُّه وخيره. احرصوا على الذكر الحسن بعد الموت وقدِّموا لأنفسكم من الآثارِ الطيّبة، والأعمالِ الصالحة، والقُرَب والطاعات والإحسان ما لا ينقطِع بها عَمل، ولا تقِف معها أجور، مع تواصل الدعواتِ الصادقة لكم منَ المسلمين على مرّ الأيام والأعوام (فأَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ).