البحث

التفاصيل

جواب على استشكال في التهنئة..

الرابط المختصر :

جواب على استشكال في التهنئة..

بقلم: د. فضل مراد

(أمين سر لجنة الفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

 

الحمد لمن تقدست أسماؤه وتعالى سبحانه عن الصاحبة والولد، والصلاة والسلام على النبي الأمي سيد ولد آدم المبعوث رحمة للعاملين ...

أما بعد فقد أشار إلي بعض العلماء ببعض الإشكالات على ما كنت بحثته واخترته في مسألة جواز التهنئة بعيد الميلاد..

 

وسأعرج على هذه الإشكالات وأجيب عليها..

أولا: جعل التهنئة من الكبائر كدخول الكنائس أمر غير صحيح؛ لأن دخول الكنائس للمسلم مباح بإجماع الصحابة.. كما نقله ابن قدامه في المغني

المغني لابن قدامة (7/ 283)

قائلا: إن النصارى صنعوا لعمر - رضي الله عنه -، حين قدم الشام، طعاما، فدعوه، فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة، فأبى أن يذهب، وقال لعلي: امض بالناس، فليتغدوا. فذهب علي - رضي الله عنه - بالناس، فدخل الكنيسة، وتغدى هو والمسلمون، وجعل علي ينظر إلى الصور، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل،

وهذا اتفاق منهم على إباحة دخولها وفيها الصور انتهى كلامه

ثانيا: السؤال هل هو ديني أم دنيوي يعني التهنئة ..

ليس السؤال صحيحا؛ لأنه مجمل، فماذا المقصود به؟.

لأن الدين إن قصدت به التحليل والتحريم (وهو ما يتبين من كلامه) فهو داخل في كل مفاصل الحياة الدنيوية اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وغيرها، لا يخلو منها شيء ليس فيه حكم إما حلال أو حرام، والحلال شامل للواجب والمندوب والمباح، وبقي من المراتب مرتبة المشتبهات، ولم يذكرها الأصوليون في تقسيم الأحكام فقد اقتصروا على الأحكام الخمسة ولم يتعرضوا للسادس وهو المشتبهات. مع نص الحديث عليه قسيما ثالثا.

وقد بينا الكلام عليها في غير هذا الموضع.

وعلى ما تقدم يكون كل شيء دينيا.

فمن هنأ أحدا على تخرجه يمكن أن يقال له ما حكم تهنئتك، حلال أم حرام. وكذا من هنأه بنجاح عملية جراحية، أو زواج،

وهكذا يجرى سؤال الحل والحرمة في الأموال والبيع والشراء والدماء وأمور الأسرة والمجتمع والسياسات، والإعلام، والجيش، والسياحة، والفنون، التكنلوجيا.

و الأصل الحل، لعدم دليل الحرمة.

ولأن الحرام مفصل مبين محدود وما سواه حلال هذا هو الأصل.

ولأنها معللة، بعلل بينات منضبطة، ومقاصد واضحات، وقد دلت الأدلة الكلية، والجزئية الشرعية والعقلية على أن العلل مثارات الأحكام ومنبهات عليه.

وعلى ما تقدم فالمسائل كلها دينية لتعلق الحل والحرمة بكل تفاصيلها.

فالسؤال غير صحيح وما بني عليه غير صحيح.

 

ثالثا: هل التهنئة دينية أم دنيوية؟

والجواب بسؤال هل التهنئة بين المسلمين بعيد الفطر أو عيد الأضحى مسألة دينية أم دنيوية عادية

فإن قلت دينية فأين النص عليها في القرآن والسنة وإجماع الصحابة

ولما لم يوجد فيها نص ولا إجماع فليست من مسائل العقائد ولا الشعائر ولا التعبدات

بل حملها العلماء أنها من الأمور العادية لا العبادية بيان ذلك ...

أن العيد الديني له جهة شعائرية محضة كصلاة العيد عندنا أهل الإسلام

وله جانب عادي كالتهنئة به قبله في ليلته وفيه وبعده بيوم أو يومين.

وإنما قلنا عادي لأن الرسول لم يثبت أنه أرسل تهنئة لأحد أو هنأ أحد بعيد

ولم يثبت عن الصحابة قط أنهم هنأوا بالعيد كما يحصل فيه هذه الأيام.

إنما قال بعضهم بعد الصلاة تقبل الله منا ومنكم ولم يقله البعض.

فلو كانت التهنئة بعيد الفطر أو الأضحى، شعيرة دينية أو تعبدية لنقلت عن رسول الله وعن إجماع الصحابة.

ولما لم ينقل وشاع بين الناس التهاني بالعيد قبله وبعده وفي يومه اضطر العلماء إلى الفتوى فيه على أصل العاديات لا التعبدات ولا العقائد

فجاء في حواشي الشرواني ...لكن جرت عادة الناس بالتهنئة في هذه الأيام ولا مانع منه ; لأن المقصود منه التودد وإظهار السرور ، ويؤخذ من قوله يوم العيد أيضاً : أن وقت التهنئة يدخل بالفجر لا بليلة العيد خلافا ، لما في بعض الهوامش ا هـ ، وقد يقال : لا مانع منه أيضاً إذا جرت العادة بذلك ؛ لما ذكره من أن المقصود منه التودد وإظهار السرور ، ويؤيده ندب التكبير في ليلة العيد " انتهى من "حواشي الشرواني على تحفة المحتاج" (2/57).

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (2/228): هَلْ التَّهْنِئَةُ فِي الْعِيدِ وَمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: " عِيدُك مُبَارَكٌ " وَمَا أَشْبَهَهُ ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، أَمْ لا؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا الَّذِي يُقَالُ؟

فأجاب:

"أَمَّا التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلاةِ الْعِيدِ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ , وَأَحَالَهُ اللَّهُ عَلَيْك , وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ , الأَئِمَّةُ , كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . لَكِنْ قَالَ أَحْمَدُ : أَنَا لا أَبْتَدِئُ أَحَدًا , فَإِنْ ابْتَدَأَنِي أَحَدٌ أَجَبْته , وَذَلِكَ لأَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ وَاجِبٌ , وَأَمَّا الابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا بِهَا , وَلا هُوَ أَيْضًا مَا نُهِيَ عَنْهُ , فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ , وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" اهـ.

ولهذا قال ابن عثيمين في حكم ما في عصرنا من التهاني العيدية والمصافحات والمعانقة ولم يثبت ذلك عن الرسول ولا أصحابه.

 هذه الأشياء لا بأس بها؛ لأن الناس لا يتخذونها على سبيل التعبد والتقرب إلى الله عز وجل ، وإنما يتخذونها على سبيل العادة ، والإكرام والاحترام ، ومادامت عادة لم يرد الشرع بالنهي عنها فإن الأصل فيها الإباحة" اهـ .

"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (16/208-210).

 

فتبين من هذا أن التهنئة بالعيد ليست عبادة ولا شعيرة بل عادة من العادات.

ويبقى السؤال هل يلزم من تهنئة النصراني للمسلم بعيده أنه دخل الإسلام

أو أقر به..

لا تلازم أبدا بين هذا وهذا...

 

فإن قيل فهل يلزم المسلم إن هنأ النصراني بعيد راس السنة الميلادية التي هي عندهم عيد ميلاد المسيح

هل فعله فعل كفري أو يلزم منه الكفر... أو الحرمة فقط 

الجواب الفعل الكفري أو القول الكفري يجب أن يكون عليه نص عن الله ورسوله أو إجماع قاطع.

كالسجود للصنم أو القول بأن الله ثالث ثلاثة أو أن له ابنا تعالى الله عما يقولون أو مشاركة الكفار في صلاتهم..

أما اللوازم فلا يجوز لأحد أن يكفر أحدا باللوازم

ولو فتح هذا الباب لاستحلت الدماء والأنفس كما جاء عن بعض الفرق

كما أن اللوازم لا تطرد في العقيدة ومسائل الفقه والعلوم الإنسانية ولا تطرد إلا في العقليات

لأن المسائل الفكرية فيها هامش من الاحتمال موجود، فاللازم لا يطرد وما كان كذلك فلا يصح أن يجعل دليلا ولذلك قال العلماء لازم المذهب ليس مذهبا ..

أما الجواب على الثالث فهو قولك ‘ن التهنئة حرام

لماذا.. أين الدليل على الحرمة

لأن التحليل والتحريم لا يجوز إلا بنص

فإن قلت لأنها دينية قلنا أين الدليل على أنها دينية،

ثم ليس كل ما هو ديني باطل في دين النصارى بل نحن نؤمن بعيسى ورسالته وكتابه

ونكفر بقولهم إنه ابن الله

فلماذا جعلتم التهنئة يلزم منها شق الكفر ولا يلزم الشق الآخر.

وترجيح أحد اللازمين على الآخر بدون مرجح باطل. والمرجح هنا النية فالعبرة هنا بنية القائل وقصده... هذا إن قلنا بأنه لازم وإلا فليس بمسلم التلازم أصلا ...

وانظر إلى أكل ذبيحتهم حتى لو ذبحوها باسم المسيح والذبح من مسائل الدين والعقيدة

ولا يلزم إقرارهم على ذلك ولو سمعتهم بأذنك يهلون على الذبيحة

وكذلك عقد النكاح أمر ديني في الشرع عندنا وعندهم ومع ذلك جاز نكاح نسائهم وهي تقول المسيح ابن الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا

 

رابعا: أما قولك ومسائل العقائد لا مكان فيها للإجماع.. وإنما يؤخذ فيها بمذهب السلف لأنه معصوم؛ لأنه متوارث عن أصحاب رسول الله المعصومين في عقيدتهم.. ففيه ما يلي:

  1. جعل مسألة التهنئة عقائدية.

جعل الشيء من العقائد دعوى لابد فيها من دليل صحيح صريح خال عن المعارضة

وأين الدليل بل الوارد على عكس هذا وهو أن صلاة العيد عندنا عبادة والتهنئة بالعيد ليس من العبادات ولا العقائد بلا خلاف وإلا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بل تركها وتركها أصحابه.

  1. لو سلم أنها من العقائد فكون الشيء من العقائد لا يلزم منه الكفر أو الإيمان أو التحريم

ومن قال ذلك فقد أخطأ إلا في مسائل منصوصة فقط هي قواطع الدين.. وهذه كتب العقائد دونك فقد ذكر فيها مسائل تتعلق بالأيمان والكفر ومسائل ليست كذلك وإنما الخلاف فيها كالخلاف في الفروع الفقهية..

فإذا تبين أنها ليست من العقائد تبين أن ما بني عليه باطل..

  1. دعوى أن الإجماع لا مكان له في العقيدة

إن كانت هذه الدعوى منقولة فأثبت النقل وصححه، وأثبت الاتفاق على ذلك .

وإن كان من عندك فلا نسلم..

بل نقل علماء الأصول أن الاجماع معتبر عن الصحابة ومن بعدهم مطلقا في العقائد وغيرهم وصنف في الإجماع في مسائل العقيدة علماء ... ولم يقصر الاجماع على زمن الصحابة مطلقا سوى داود ... قاله الباجي وغيره

كما أن الاجماع في مسائل العقائد لا يعتبر إلا بمستند كان الاجماع من الصحابة أو غيرهم لأنها سماعية فالإيمان والإسلام وما تعلق بالغيب كله لا يمكن حصول إجماع عليه إلا بنص

فكيف يجمعون على استواء الله على العرش إلا بنص

وعلى الميزان إلا بنص

وعلى أن الصلاة ركن من أركان الإسلام إلا بنص

أما أن يجمعوا على أمر في العقيدة بلا نص فأين هو؟

ولذلك لم ينقل لهم في مسألتنا قول فضلا عن دعوى الإجماع الذي هو أضعفها وهو السكوتي أو التركي.

وإنما لم يهنئوا النصارى لأن التهنئة لم تكن عندهم حتى في أعيادهم كما قدمنا لا لأن الله نص أو رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك...

خامسا: القول أنه يلزم من جواز تهنئة النصارى جواز تهنئة عباد البقر والأوثان

غير لازم؛ لأن اللوازم في مسائل النظر في الفقه والعقائد وغيرها غير مطردة وما ليس كذلك فلا يستدل به.

وثم أمر هام جدا هو أن قياس الشيء على الشيء أو إلزام أن يأخذ الشيء حكم الشيء لا يصح إلا بالتساوي من كل وجه وليس كذلك في مسألة تهنئة النصارى..

فكيف يقاس عليها تهنئة عباد البقر بعيدهم والأصل مختلف عن الفرع.

فنحن نؤمن بعيسى وبرسالته وبكتابه ونكفر بقولهم إنه ابن الله ونتزوج نساءهم وهن يقلن ذلك، ونأكل ذبيحته التي ذبحها على اسم المسيح بإطلاق النص ونأخذ عليهم الجزية ونقرهم على دينهم.

فنحن مأمورن بالأيمان بعيسى ورسالته بل من ذلك من أركان الإيمان

بخلاف غيرهم من عبدة الأوثان والأبقار فنحن مأمورن بالكفر بهم والبراء منهم ...

فكيف يقاس هذا على هذا وكيف يلزم هذا بما يلزم به هذا

فليس كل ما يجوز مع النصارى وأهل الكتاب يجوز مع غيرهم بجامع الكفر

وإلا لجاز نكاح الوثنيات وعابدات البقر وجاز أكل ذبيحتهم؛ فلما لم يلزم هذا لم يلزم هذا فبطل اللازم والملزوم أبطل....

سادسا: قولك هل إذا لم يقع الإجماع، يسع الفقيه أن يخالف الحق الواضح استنادا إلى رأي شاذ؟

الجواب: الحق يعرف بالدليل من كتاب وسنة أو إجماع ثابت أو قياس معتبر خال عن المعارض

والقول الشاذ هو ما خالف هذه، ولذلك كان الحق فيما ذكرت من المتعة والنبيذ والكلب مع الأكثر لا لكثرتهم بل لدليلهم.

وكان قول غيرهم شاذا لمخالفته الدليل لا لمخالفته الأكثر.

وبالله التوفيق...

 


: الأوسمة



التالي
ثُلة من العلماء يؤكدون الاستمرار في مقاطعة المنتجات الفرنسية وبيان مشروعيته وأهميته شرعيا وسياسيا واقتصاديا
السابق
الريسوني: التطبيع المغربي كان صادما والمطبعون يتعلقون بأوهام (حوار)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع