اتحاد العلماء على المقاطعة
بقلم: د. محمد الصغير (عضو الاتحاد)
في يوم الأحد الموافق للثاني عشر من شهر جمادى الأولى، الثامن والعشرين من ديسمبر 2020 دخلت مقاطعة الشعوب الإسلامية للمنتجات الفرنسية شهرها الثالث وبهذه المناسبة عقدت لجنة الدعوة بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ندوة تحت عنوان "مقاطعة منتجات فرنسا بين المحصول والمأمول" دعت لها كوكبة من العلماء وأهل الاختصاص شرفت بتقديمها مبينا أن سبب حملة المقاطعة تبني فرنسا وقياداتها للرسوم المسيئة لمقام النبي ﷺ فكانت ردة الفعل الشعبية بالمقاطعة احتجاجا على هذا العمل المشين، وتعبيرا عن مكانة الرسول الكريم ﷺ، في ظل غياب ردة الفعل الرسمية، ونظرا لأهمية هذا السلاح الحضاري والحرص على استمرارية المقاطعة، وبيان مشروعيتها وفاعليتها ومساندة الأمة في استكمال مسيرتها حتى تحقق أهدافها تداعى العلماء لهذه الندوة، حيث استهلها فضيلة الشيخ علي القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ناصبا فقه الميزان، وموضحا أن المعاملات البشرية تقوم على ميزانين أولهما: ميزان السلم ويقوم على البر والإحسان ولين القول، والثاني: ميزان الاعتداء سواء كان على ديننا أو أمتنا أو نبينا ﷺ وقوامه الشدة والغلظة مع العدل، والمواجهة الشاملة وفي القلب منها المقاطعة الاقتصادية، ودلل على ذلك بجملة من أدلة القرآن والسنة، وذكر ملمحا مهما حول قول الله تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" من حيث كون المقاطعة من البر برسول الله صلى الله عليه وسلم وواجبات نصرته، وأن الإعراض عنها معاونة لفرنسا على إثمها وعدوانها، وختم كلمته بوصية لعموم المسلمين بالثبات إزاء الهجمة الشرسة التي تسعى لمحو الدين من صدور المسلمين، أو صرفهم إلى دينٍ جديد وفق معاييرهم وهواهم وهي مرحلة "ويبغونها عوجا".
يؤكد الرئيس أردوغان في المحافل الدولية على وجوب أن يكون للمسلمين تمثيل عادل داخل الدول دائمة العضوية في الأمم المتحدة
ثم انتقلت الكلمة إلى د. ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي، الذي تحدث عن موقف تركيا الموحد من رفض الإساءة لمقام النبي ﷺ تعبيرا عن مكانته الكبيرة في قلوبهم، وكيف حظيت المقاطعة باهتمام مكثف من الدولة التركية بكل مستوياتها، وفي المقدمة الرئيس أردوغان وهو الرئيس الوحيد الذي دعا شعبه للمقاطعة، ووجه للرئيس الفرنسي تعبيرات قاسية تليق بحجم الإساءة التي ارتكبها، مما حمل فرنسا على استدعاء سفيرها من أنقرة للتشاور، ولم يقف الأمر عند ذلك بل تسعى تركيا لتجريم الإساءة إلى المقدسات الدينية، وتتابع بقلق بالغ حملة التضييق على المسلمين في الغرب، لاسيما وأن أعداد الأتراك هناك بالملايين، وتحت شعار "العالم أكبر من خمسة" يؤكد الرئيس أردوغان في المحافل الدولية على وجوب أن يكون للمسلمين تمثيل عادل داخل الدول الدائمة العضوية في الأمم المتحدة، ولا يتحكم في العالم خمس دول ليس من بينها دولة مسلمة، وختم بأن تركيا التي تنصر قضايا المظلومين، لا يمكن أن تتأخر عن نصرة النبي الكريم ﷺ.
ثم جاءت كلمة د. الشريف الحسن بن علي الكتاني رئيس رابطة علماء المغرب العربي، وكان محورها حول محبة النبي ﷺ وأنها البرهان العملي على محبة الله، وأكد أن الهدف من المقاطعة ليس فقط الرد على جناية الرسوم المسيئة بل للدفاع عن مسلمي فرنسا الذين نالهم من الأذى مثل ما نال عامة المسلمين، بالإضافة إلى التضييق الداخلي عليهم.
ثم انتقلت الكلمة إلى العلامة محمد الحسن ولد الددو عضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وكانت كلماته مفعمة بالمشاعر الصادقة تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وذاخرة بالأدلة الشرعية التي ما فتئ يرددها من بداية الحملة، وأكد أن نصرة النبي ﷺ وتعزيره وتوقيره أحد مقاصد الشريعة، مستعرضا بعض النماذج من هذا التوقير، وأن من فاتته نصرة النبي ﷺ في حياته فليغتنم الفرصة الآن، ثم حدد أهداف المقاطعة في الآتي:
1.الاعتذار الرسمي الفرنسي عن الإساءة لمقام النبي ﷺ
2. سن قوانين وتشريعات تجرم الإساءة إلى الأنبياء والمقدسات
3. رفع التضييق على المسلمين، ورد ما صودر من مساجد وجمعيات.
وذكر سابقة قضائية لهذه المحكمة في عام 2009 حيث قضت محكمة بالنمسا بتغريم امرأة أساءت لمقام النبي ﷺ
وتناول الجانب الاقتصادي د. أحمد ذكر الله أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، الذي بين أن سلاح المقاطعة يستخدمه الجميع، مذكرا بمقاطعة الأمم المتحدة للعراق، واستخدام أمريكا له ضد العديد من الدول، واستعرض زمرة من الحقائق الاقتصادية المرتبطة بالاقتصاد الفرنسي من حيث أن خمس صادرات فرنسا موجهة للعالم العربي والإسلامي، وتأتي في المرتبة الثانية بعد الاتحاد الأوروبي، وأن نسبة 9% من الصادرات عبارة عن سلع ترفيهية كمستحضرات التجميل وغيرها، وهو ما يسهل الاستغناء عنها ملحقا الضرر بفرنسا، وموفرا لأموال المقاطعين.
وعلى الصعيد القانوني كانت كلمة الأستاذ أشرف توفيق مدير مؤسسة نجدة للحقوق والحريات، حيث دعا إلى تطوير مقاطعة فرنسا إلى مقاضاة فرنسا و رئيسها أمام المحكمة الأوروبية وفقا لأحكام القانون الدولي، مؤكدا أن تحريض ماكرون وتبريره لجريمة الرسوم المسيئة للنبي المكرم ﷺ يضعه في خانة الفاعل الأصلي، كذا تبني الدولة لهذه الرسوم وعرضها على المباني يمثل جريمة دولية مكتملة الأركان وفقا للمادة الثانية من القانون رقم 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وذكر سابقة قضائية لهذه المحكمة في عام 2009 حيث قضت محكمة بالنمسا بتغريم امرأة أساءت لمقام النبي ﷺ ، وتم الطعن أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي بدورها قضت بتأييد حكم الغرامة، مؤكدة أن سب النبي والإساءة للمقدسات لا يندرج تحت حرية التعبير، ومقر هذه المحكمة في باريس وأحكامها ليست ملزمة فقط بل هي تعد سابقة قانونية، تُطالب الدول الأعضاء بتغيير تشريعاتها لما يتوافق مع أحكام هذه المحكمة.
وتناول القضية سياسيا الدكتور سيف عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية، الذي آثر أن يشارك في الندوة من داخل الحجر الصحي -نظرا لإصابته بكورونا أتم الله له العافية- حيث تحدث عن أصالة المقاطعة وأنها من الأفعال الحضارية الممتدة للأمة في نصرة النبي المكرم ﷺ، وهي في نفس الوقت جهاد مالي، والحض عليها جهاد بالكلمة، مؤكدا خطورة ما قامت به فرنسا وكذب الادعاء بأنها حرية تعبير بل هي دعوات عنصرية.
ورد على مزاعم القائلين بأن المقاطعة ليست ذات تأثير، معربا أن التأثير لا يقاس بالبعد الاقتصادي هنا أو هناك، ولكنه يقاس بعمل تراكمي ممتد في تاريخ الأمة يعبر عن وعيها، وعلينا أن ننظر إليها بتكامل الجزئيات والكليات عبر مواقف الأمة الممتدة مكانا وزمانا، مما يؤكد أنها فعل حضاري جماعي مسؤول يحمل طاقات إيجابية ودلالات جوهرية لوجود الأمة وفاعليتها، واستطرد قائلا أن هذا الموقف الذي قد يبدو بسيطا إلا أنه يشير إلى حيوية هذه الأمة، وأشار لحديث سابق لمادلين أولبرايت – وزيرة خارجية أمريكا سابقا- تحدثت فيه عن عجزها عن تفسير كيف تلتقي هذه الأمة المترامية الأطراف والثقافة والفكر برغم كل ما تعانيه في لحظة واحدة على قضية واحدة كقضية القدس أو ما شابهها، وهو ما يدلل على وعي الأمة وتلاحمها وحضورها المعنوي.
وفي الختام اتفقت كلمة الجميع على استمرار المقاطعة وعدم التراخي فيها، فإما أن نجعل فرنسا عبرة لكل المتطاولين، أو تصبح قدوة للمستهترين،
وإن كانت تراهن على عامل الزمن، فإننا نراهن على مكانة النبي ﷺ ومحبته في القلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- د. محمد الصغير: رئيس لجنة الدعوة وعضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكيل اللجنة الدينية بالبرلمان المصري ومستشار وزير الأوقاف السابق، حاصل على الدكتوراه في الأديان والمذاهب من كلية الدعوة جامعة الأزهر..