تأملت فى بدايات النجاح والفشل عند الناجحين والفاشلين ، فوجدتها لصيقة الصلة بمن تولى توجيههم فى سنى عمرهم الأولى .
ووجدت أن المبشرين فى حياة أمتنا المنكوبة قلائل ، وأن المنفرين كثر ، وأن قلة من الموفقين هم الذين أثروا فى حياة من حولهم ، وزرعوا فيهم الثقة والأمل ، وأخذوا بأيديهم إلى سبيل النجاح ، وعبروا بهم إلى بر الأمان ، وصنعوا من الفسيخ شربات كما يقال فى المثل الدارج .
كما وجدت ضحايا المنفرين ، يملؤون الساحات ، ويتصدرون الواجهات ، وكأنهم نسخة ممن صنعوهم ، وصورة ممن أشرفوا على تشكيلهم ، يسيرون على نفس الوتيرة ، ينشرون العقد ، ويضيقون الواسع ، ويصعبون السهل .
ولم يعلموا أن مبنى الشريعة على رفع الحرج ، ودفع العنت ، حتى قال الإمام الشاطبى : إن الأدلة على رفع الحرج فى الشريعة بلغت مبلغ القطع.
كما أن التوجيه النبوى الذى قامت عليه جل الأحكام الشرعية هو : "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" .
وجدت المنفرين فى ساحات عديدة ، ومنابر مختلفة ، وجدتهم فى المؤسسات العامة والخاصة ، والمستشفيات ، والجامعات ، والمدارس ، والمساجد ، حتى فى أماكن الترفيه واللهو المباح .
ولا فرق عندى بين طبيب منفر ، وواعظ منفر ، فكلاهما غير موفق ، يسير فى عمله على نحو خاطىء، ويؤثر سلبا فى محيط عطائه .
كم من مريض ساءت حالته الصحية ، بسبب عبارة طبيب فاشل ، قالها له بعد أن وقف على حالته ، من نحو :" أيامك فى الدنيا معدودة "، أو " قليل ممن أصيبوا بمثل مرضك نجوا " .
لم يفقه أثر كلماته السلبية المزلزلة على نفسية مريض ، متشبث بالأمل فى الشفاء ، مجبول على حب العافية ، ينتظر كلمة تخفف عنه ما هو فيه ، فعانى بعد ذلك آلاما إلى آلامه ، وقاسى أوهاما إلى أوهامه .
كان مما قاله عبد الرحمن بن عوف لأبى بكر الصديق ، وهو يعوده فى مرضه الذى مات فيه : " أراك بارئا بإذن الله ، يا خليفة رسول الله " . يقول هذا فى الحالة التى رد عليه الصديق بقوله : " أما إنى مع ذلك لشديد الوجع " ، وكما قيل فى المثل الدارج : " الملافظ سعد " .
وحكى الإمام أبو الفرج بن الجوزى أن أبا الحسين بن برهان: عاد رجلاً مريضاً، فقال له: ما علتك؟! قال: وجع الركبتين، فقال: والله لقد قال جرير بيتاً ، ذهب مني صدره ، وبقي عجزه وهو قوله: وليس لداء الركبتين طبيب .
فقال المريض: لا بشرك الله بالخير، ليتك ذكرت صدره ونسيت عجزه.
وفى مثل هذا الطبيب المنفر، والإمام المنفر قليل الفقه كان التوجيه النبوى الذى جاء فى رواية البخارى عن أبى مسعود أن رجلا، قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: "إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز- فليخفف - فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة " .
وكم من طالب غادر قاعات الدرس ، وترك مكانه ، واختصر طريقا نحو العمل الحرفى، وحرم من مواصلة السير فى طريق التعلم ، بسبب معلم ، ساءت توجيهاته ، وأحاطه بعبارات الفشل ، فأحبطه ، وأفقده سيره ، وأعجزه عن مواصلة الطريق ، دون أن يقف منه موقف المربى الحانى ، والموجه البصير ، يفجر فيه الطاقات الكامنة ، ويسانده للتغلب على العقبات ، حتى كان هو العقبة الكبرى فى حياته .
وصدق شوقى حين قال فى قصيدته عن المعلم :
وإذا المعلّمُ سـاءَ لحـظَ بصيـرةٍ ***جاءتْ على يدِهِ البصائرُ حُـولا
لازلنا نذكر أسماء حفرت فى ذاكرتنا واستقرت فى وجداننا ، من المعلمين والمربين الناجحين ، الذين تركوا بصمات فى حياتنا ، وكانت لهم لمسات حانية ، غيرت كثيرا فى طريقة تفكيرنا ، وقادتنا نحو النجاح ، ولا زلنا نذكر كذلك غيرهم من المنفرين