تفسير جزء تبارك للشيخ القرضاوي
القرضاوي: السجود لا يكون إلا لله فلا تعبدوا معه أحداً
كان من أكبر أمنياتي أن أتوجه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعزمت على ذلك وأعلنت هذا الأمل المتجدد، ودعوت الله أن يحققه لي، ليكون حاشية في مصحف قطر، بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري، وبدأت بتفسير سورة الفاتحة وسورة النبأ، لكني وجدت أن ما يجول في خاطري من معاني القرآن يأبى أن يتقيد بحاشية مطبوعة على المصحف، فخرجت عن هذه الخطة إلى الكتابة المسترسلة، على طريقتي في التأليف التي اعتدتها منذ كتابي الأول: الحلال والحرام في الإسلام.
ووفق الله فأتممت تفسير جزء عم، وهأنذا قد أتم الله عليّ تفسير جزء تبارك، وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لأتم ما أؤمله من تفسير كتابه. وهذا جزء تبارك بين أيديكم، وقد قدمت -على طريقتي في تفسير جزء عم- لكل سورة بذكر أهم مقاصدها، ثم أفسر سائرها، جزءًا جزءًا، وآية آية، جاعلًا اهتمامي الأول أن أفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، جامعا بين العقل والنقل، والرواية والدراية، مستعينا أولا بالتأمل، ثم بقراءة التفاسير المهمة والاقتباس منها، ولن يعدم القارئ فيه فائدة، وسيجد فيه الخطيب والمحاضر والمدرس والداعية زادا نافعا.
تفسير قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} وما بعده:
ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}.
أي: وأُوحِيَ إليَّ أنَّ العبادة خاصَّةٌ بالله تعالى، ففيه مجازٌ مُرسَلٌ من ذِكرِ المحلِّ وإرادة الحالِّ ويجوز أن يكون لفظ (المساجد) جمعًا للمصدر الميمي، بمعنى: أنَّ السجود لا يكون إلا لله. أي: أنَّ السجود والمواضعَ التي بُنيت للصَّلاة والعبادة وذكر الله عزَّ وجل، للَّه وحده، فلا تعبدوا- أيها الإنس والجن- مع الله أحدًا، وأخلصوا الدعاء له.
يأمر الله تعالى عباده بأن يوحِّدوه في مجال عبادته، فلا يُدعا معه أحدٌ، ولا يُشرك به. كما قال قتادة في قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعهم، أشركوا بالله، فأمر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أن يوحِّدوه وحده، ولا يعبدوا من دونه ولا معه أحدًا غيره.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}
(لِبَدًا): جمع لِبْدة– بكسر فسكون– بوزن نعمة. واللبدة هي الصوف أو الشعر الملتصق بعضه ببعض التصاقًا شديدًا. والمراد: جماعات متزاحمة متلاصقة، تعجُّبًا ممَّا سمعوا.
أي: وأنَّه لمَّا قام عبد الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم بهِمَّة وعزم يُبلِّغ كتاب الله، ويدعو إلى سبيل ربِّه، كاد رافضو دعوته يكونون جماعات مجتمعة بكثافة ضدَّه، لمقاومة دعوته، ولمنعه من أداء رسالة ربِّه.
قال قتادة: تلبَّدت الإنسُ والجنُّ على هذا الأمر ليُطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويُمضيه، ويُظهره على مَنْ ناوأه.
ثم قال: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}.
أي: قال لهم الرسول، لمَّا آذَوْه وخالفوه، وكذَّبوه وتظاهروا عليه، ليُبْطلوا ما جاء به من الحق، واجتمعوا على عداوته: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أي: إنَّما أعبدُ ربي وحده لا شريك له، وأستجير به وأتوكل عليه، {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة". ثم تلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
وقوله سبحانه: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}.
أي: قل- يا رسول الله- لهم: إني لا أقدر على مقارعتكم بوسيلة مادية أضرُّكم بها، لأمنع تألُّبكم عليَّ وعلى الذين آمنوا بي، ولا أملك وسيلة ألزمكم بها إلزامًا إكراهيًّا أن تكونوا راشدين مسلمين، فأنتم مسؤولون عن اختياركم الحرِّ أمام ربِّكم.
إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ، وعبدٌ من عباد الله ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل.
ثم أمر أن يعلن لهم أنه لا يُجيره من الله أحد: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}.
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} أي: لو عصيته؛ فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي: لن أجدَ من دونه ملجأً ألجأ إليه.
قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي: لا ملجأ. وقال قتادة أيضًا: لا نصير ولا ملجأ. وقوله تعالى: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ}
قال بعضهم: هو مستثنى من قوله: {لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} {إِلَّا بَلَاغًا}.
ويحتمل أن يكون استثناء من قوله: {لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ}. أي: لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءَها عليَّ، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}
أي: إنَّما أبلِّغكم رسالة الله، فمن يعصِ بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدًا، أي: لا مَحِيدَ لهم عنها، ولا خروجَ لهم منها.
والجمع في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} باعتبار معنى (من)، والإفراد باعتبار لفظها، على نهج القرآن في مثله.
وقوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أي: أَمْهلهم ـ يا رسول الله ـ واصبر عليهم، حتى إذا رأوا ما يُوعَدون من نكبات تنزل بهم، فسيعلمون عند انتصار المؤمنين عليهم في الدنيا مَنْ أضْعَفُ ناصرًا وأقلُّ عددًا؟ أهم أم المؤمنون.
أو المعنى: حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجنّ والإنس ما يُوعَدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرًا وأقلُّ عددًا، هم أم المؤمنون المُوَحِّدون لله عز وجل؛ أي: إن المشركين لا ناصر لهم بالكليَّة، وهم أقل عددًا من جنود الله عز وجل.
الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله:
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}.
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد؟ {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}؟ أي: مدة طويلة.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يُسأل عن وقت الساعة، فلا يُجيب عنها، ولما تبدَّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد، فأخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل".
ولما ناداه أحد الأعراب بصوت جَهوريٍّ، فقال: يا محمد، متى الساعة؟ قال: "ويْحَك، إنها كائنة، فما أعددتَ لها؟". قال: أما إني لم أُعِدَّ لها كثيرَ صلاةٍ ولا صيام، ولكنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسوله. قال: "فأنت مع مَن أحبَبْتَ". قال أنس: فما فرح المسلمون بشيءٍ فرحهم بهذا الحديث.
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} هذه كقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. وهكذا قال هاهنا: إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا ممَّا أطلَعَه تعالى عليه؛ ولهذا قال: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، وهذا يعُمُّ الرسولَ المَلَكِيَّ والبشريَّ.
ثم قال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} أي: يختصُّه بمزيدِ مُعَقِّبَاتٍ من الملائكة يحفظونه من أمر الله، ويُساوِقُونه على ما معه من وحي الله؛ ولهذا قال: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}
وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: {لِيَعْلَمَ} إلى من يعود؟
فقيل: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن سعيد بن جبير في قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل، {لِيَعْلَمَ} محمد صلى الله عليه وسلم {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}.
وعن قتادة: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} قال: لِيعلمَ نبيُّ الله أن الرُّسل قد بلَّغت عن الله، وأن الملائكة حفظَتْها ودَفَعَتْ عنها.
وقيل غير ذلك، فقد روى العوفيُّ عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}، قال: هي مُعقِّباتٌ من الملائكة يحفظون النَّبيَّ من الشيطان، حتى يتبيَّنَ الذي أُرسل به إليهم، وذلك حينَ يقول، ليَعلَم أهلُ الشرك أن قد أبلغوا رسالاتِ ربِّهم.
وقرأ يعقوب: "لِيُعْلَمَ" بالضم، أي: ليُعْلَم الناسُ أنَّ الرسلَ بلَّغوا.
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزي في (زاد المسير). ويكون المعنى في ذلك: أنه يحفظ رسلَه بملائكته، ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما بيَّن إليهم من الوحي؛ ليعلمَ أنْ قدْ أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]. وكقوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11]. إلى أمثال ذلك، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونِها، قطعًا لا محالة؛ ولهذا قال بعدَ هذا: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}.
يتبع الجمعة القادمة إن شاء الله