د. محمد الصغير: هناك تأصيل فقهي وتاريخي لمقاطعة الأعداء باعتبارها نوعاً من الجهاد
ثمَّن الشيخ محمد الصغير، مستشار وزير الأوقاف المصري الأسبق، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في حواره مع «مجلة المجتمع»، وقفة الشعوب الإسلامية من الإساءة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهبَّتها لنصرته وتفعيل سلاح المقاطعة ضد فرنسا، كما أثنى على وقفة الشعب الكويتي تحديداً؛ حكومة وشعباً، باعتباره من أوائل الشعوب التي فعَّلت المقاطعة.
وفي هذا السياق، تطرق الشيخ الصغير إلى فقه المقاطعة؛ حيث رأى أن مقاطعة المستهزئ بديننا والداعم للسخرية من نبينا هو أضعف الإيمان، فهو سلاح الامتناع والترك، ونجاحه في الاستمرارية والصبر.
كيف ترى سلاح المقاطعة؟
- استخدام سلاح المقاطعة ليس خاصاً بأمة دون أخرى، بل استخدمته شعوب مختلفة قديماً وحديثاً لتحقيق أهداف معينة، وغالباً ما تكللت جهود المقاطعين بالنجاح.
هل هناك تأصيل ديني للمقاطعة وفتاوى تاريخية في هذا السياق؟
- أول فتوى صدرت في وجوب مقاطعة الأعداء تحدث عنها الإمام القرافي المالكي في «الذخيرة»؛ حيث ذكر أن الطرطوشي صنّف كتاباً في تحريم جبن الروم (نشرته دار الغرب الإسلامي)، وجاء في «الديباج» لابن فرحون أن «الطرطوشي حرم الجبن الذي يأتي به النصارى».
ما التأصيل الديني لهذا الأمر؟
- من ثوابت الشريعة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
ومقاطعة المستهزئ بديننا والداعم للسخرية من نبينا هو أضعف الإيمان، إنه سلاح الامتناع والترك، الذي نجاحه في الاستمرارية والصبر، وهو أقل القليل الذي نقدمه لإمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيما} (النساء: 104).
هل هناك نماذج في السُّنة والسيرة تؤكد ما سبق؟
- بالتأكيد؛ فأول من استخدم سلاح المقاطعة في الإسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، رضي الله عنه، عندما قال لقريش وهو يؤدي العمرة بعد إسلامه: «والله لا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم»، والقصة بتمامها في صحيح البخاري، وعلق عليها ابن حجر بأن قريشاً لم تجد بداً من مخاطبة رسول الله في أمر ثمامة بما لهم من رحم لرفع الحصار عنهم، واستجاب لهم عليه الصلاة والسلام.
ماذا عن أول فتوى بمقاطعة فرنسا تجارياً؟
- أول فتوى في وجوب مقاطعة بضائع فرنسا صدرت عام 1898م عن الشيخ محمد المكِّي بن عزُّوز، أحد كبار علماء تونس، دعا فيها إلى المقاطعة الاقتصادية للمحتل الفرنسي، ذكر ذلك علي رضا الحسيني في كتاب «محمّد المكّي بن عزُّوز.. حياته وآثاره».
كذلك فتوى الشيخ عبدالرحمن السعدي: «ومن أعظم الجهاد وأنفعه السعي في تسهيل اقتصاديات المسلمين والتوسعة عليهم في غذائياتهم الضرورية والكمالية، وتوسيع مكاسبهم وتجاراتهم وأعمالهم وعمالهم، كما أن من أنفع الجهاد وأعظمه مقاطعة الأعداء في الصادرات والواردات، فلا يسمح لوارداتهم وتجاراتهم ولا تفتح لها أسواق المسلمين، ولا يمكنون من جلبها إلى بلاد المسلمين؛ بل يستغني المسلمون بما عندهم من منتوج بلادهم، ويأخذون ما يحتاجونه من البلاد المسالمة، وكذلك لا تصدر لهم منتوجات بلاد المسلمين ولا بضائعهم».
وماذا عن استخدام المسلمين للمقاطعة ضد فرنسا تحديداً بعد الإساءة لرسولنا الكريم؟
- مع إصرار فرنسا على الإساءة إلى مقام النبي المكرم، وغياب رد الفعل الرسمي، لجأ المسلمون إلى سلاح المقاطعة الذي ظهر تأثيره سريعاً؛ مما جعل وزير الخارجية الفرنسي يزور بعض العواصم العربية طالباً إيقاف مقاطعة منتجات بلاده.
لكن حلفاء الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» ورعايا الفرنكوفونية من أبناء جلدتنا الذين يتحدثون بألسنتهم، أخذوا على عاتقهم إفشال الحملة بالتشكيك في جدواها، ولما فشلوا عمدوا إلى ضرب الأساس الذي تقوم عليه، وهو مدى مشروعية هذه المقاطعة دينياً، وحكمها من الناحية الشرعية، مع أن الأمر قديم وكتبت فيه مؤلفات، وسجلت فيه رسائل علمية في الجامعات.
كيف ترى وقفة الشعوب ضد هذه الإساءة وتفعيل سلاح المقاطعة؟
- هذه واقعة مهمة وقوية من الأمة الإسلامية وشعوبها، وجاءت –كما ذكرنا- رادعة لـ«ماكرون» وفرنسا في تبجحهم، ومحاولة تبرير الإساءة بالحرص على حرية التعبير، وهو ما ليس في موضعه على الإطلاق.
كيف ترى وقفة الشعب الكويتي تحديداً باعتباره كان أول من فعّل المقاطعة؟
- هذا موقف يحسب للشعب الكويتي الشقيق الذي أخذ زمام المبادرة، وكان أول من فعَّلها بقوة وحماس؛ ولم يقف الأمر عند الشعب الكويتي، بل امتدت المقاطعة أيضاً للجانب الرسمي الكويتي، ممثلاً في البرلمان وأعضائه، وهذا شيء طيب.
لماذا تظهر قضية الرسوم المسيئة من آن لآخر بأوروبا بشكل عام؟
- قضية الرسوم المسيئة تظهر من حين لآخر بأوروبا لاستفزاز المسلمين، ولو وجهوا ما يبذل في هذه الحملات لشيء نافع آخر لكان أفضل لهم، ونحن نتساءل: كيف يكون هناك حوار بين الحضارات وتعايش بين أصحاب الديانات المختلفة وأنت تسخر من أقدس المقدسات؟! وهو ما أصَّله الله تبارك وتعالى بالنهي عن السخرية أو التعرض لغير المسلمين بآلهتهم ومعبوداتهم ومعتقداتهم، وبالتالي في المقابل نحن لا نقبل بهذه الإساءة.
هل مطالب فرنسا بإنهاء المقاطعة سوف تتم الاستجابة لها؟
- فرنسا أعلنت انزعاجها من المقاطعة بعجرفة وغرور دون أن تعتذر، وهذا أعطى المقاطعة حيوية وزخماً، وعدم الاستجابة لمطالب «ماكرون» بوقفها، وجعل الكثير ينضمون إليها؛ وهو ما جعل «ماكرون» يظهر على قناة «الجزيرة» الفضائية، ولكن كان حواره معها ملتوياً دون الاعتذار الصريح، ووقع في شر عمله ولم يقتنع أحد بكلامه، وهو ما زاد من أسباب المقاطعة.
ننتقل إلى ملف العالم الإسلامي، كيف ترى واقعه الآن؟
- واقع العالم الإسلامي والأمة الإسلامية الآن ليس في أسوأ أحواله، ولكن بدأت تدب فيه الحياة وينتصر في أكبر معركة وهي معركة الوعي، وتسقط أقنعة لأدباء ومفكرين، ودول تتآمر على الأمة وهويتها، خاصة أن وسائل الإعلام أصبحت الكلمة العليا فيها للشعوب عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث استطاعت أن يكون لها تأثير أكبر وتوضح كثيراً من الحقائق وتُظهر الكثير من الاضطهاد للمسلمين، كما هي الحال بفلسطين وبورما والصين.
وهناك موجة من الصعود على مستوى الدول، مثل تركيا وتونس وماليزيا، وهناك قدرة على أن تستعيد دول أخرى قوتها، ونأمل أن تتسع الدائرة وأن تكون الجولة القادمة للشعوب، وعندما تتحقق الحرية ستكون الشعوب هي المستفيد الأكبر من هذه الحرية.
ماذا عن الأقليات الإسلامية؟
- في تقديري، لم تعد أقليات، بل أصبحت جاليات، ودليل ذلك ما نراه من تأثير الصوت الإسلامي في انتخابات فرنسا، وأيضاً تأثير الصوت الإسلامي لصالح «جو بايدن» بانتخابات الرئاسة الأمريكية، ولكن المشكلة أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لا ترعاه دولة، ولكنه دين الفطرة، وينتشر بذاته، ولكن بعض الموروثات التي أخذها المسلمون معهم بدول المهجر هي التي تحول دون أن يكون لهم مكانة لائقة، ثم تأثير الحضارة الطاغي يجعل أبناء المسلمين في الجيل الثاني والثالث لا يحافظون على الإسلام كما حافظ عليه آباؤهم وأجدادهم.
بمناسبة الحديث عن العالم الإسلامي والأقليات المسلمة.. ما تقييمكم لأداء المنظمات الإسلامية تجاه قضايا الأمة الكبرى، ومنها مثلا قضية القدس؟
- أداؤها باهت تجاه القدس، وهي المحتلة وليس القدس فقط، فهي متأثرة بدول المقر أو التمويل، ولا تتحرك خطوة إلا بدعم الدول الراعية أو الداعمة، وليس لها موقف يُذكر أو ينشر تجاه هذه القضية العادلة والمقدسة.
وماذا عن «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»؟
- «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» مؤسسة وهيئة علمائية ولا تتبع دولة بعينها، وإنما هي مؤسسة لعلماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لكنها تعاني بعض المشكلات، مثل عدم وجود دعم كافٍ، بالإضافة إلى محاربة بعض الدول الإسلامية والعربية لها، وكل ما فيه من العلماء على قوائم إرهاب بعض الدول، هذا كله يحد من دوره ولا يسمح له أن يقوم بدوره كما ينبغي.
أيضاً هناك بالاتحاد من يمثل دولته ووجهة نظرها، ويحاول أن يؤثر على قرارات الاتحاد وعلى اتجاهاته، بما يتناسب مع الدولة التي ينتمي لها أو يقيم فيها، وهذا شيء مؤسف بالطبع.