سجناء الرأي والسياسة في دول الخليج.. والعفو المأمول
بقلم: محمد سالم الراشد (عضو الاتحاد)
المصالحة الخليجية التي تمت في القمة الخليجية الحادية والأربعين، يوم 5 يناير 2021م، بالمملكة العربية السعودية، فتحت الأمل لتخطو السلطات الخليجية إلى تغليب العفو والتسامح عن سجناء الرأي والعمل السياسي بدول الخليج.
لقد أثرت الحراكات منذ عام 2011م إلى اليوم في مسار التحولات في المنطقة، وما نتج عن الثورات العربية من متغيرات، ثم قمع هذه الثورات، أثرت تأثيراً واسعاً على النظام السياسي في دول الخليج، وقد واكب ذلك تحركات إصلاحية سياسية وخطابات رأي ومطالبات للإصلاح السياسي، وكان رد فعل السلطات الخليجية التضييق على مجمل الحريات العامة في دول الخليج، وأدى ذلك إلى سجن المئات من النشطاء السياسيين وكُتَّاب الرأي والرموز السياسية والدينية، حيث قال المركز الدولي للأبحاث السياسية والجنائية: إن البحرين تبوأت المركز الأول عربياً في عدد السجناء، فقد وصل إلى حوالي 4 آلاف شخص، بمعدل 301 لكل 100 ألف، وذكرت أن عدد السجناء في السعودية 47 ألف سجين، وفي نوفمبر 2020م أظهرت إحصاءات المركز الدولي لدراسات السجون احتلال البحرين والكيان الصهيوني والإمارات والسعودية المراتب الأربع على الترتيب في منطقة الشرق الأوسط لأعداد السجناء مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان.
وأتت الكويت في المرتبة الثامنة (92 سجيناً)، وقطر في المرتبة الحادية عشرة (53 سجيناً)، وعُمان في المرتبة الثانية عشرة (36 سجيناً).
وبغض النظر عن طبيعة القضايا التي أدخل من أجلها هؤلاء السجناء للسجون، فإن هناك قسماً مهماً من هذه الشرائح طالت أصحاب الرأي السياسيين الإصلاحيين.
ومن جانب آخر، ومع انتشار فيروس «كورونا» بالعديد من الدول، طالبت الهيئات الحقوقية بالإفراج عن السجناء خشية إصابتهم بالفيروس المؤدي للوفاة في ظل عدم توفر علاج أو مضادات له.
وبعض الدول الخليجية لجأت إلى إطلاق سراح السجناء، على سبيل المثال؛ أعلن عن إصابة 268 سجيناً في الكويت بفيروس «كورونا» (11 يونيو 2020م).
وطالبت جمعيات حقوقية منها «هيومن رايتس ووتش» دول الخليج بالكشف عن الإصابات بالفيروس، وطالبت بالإفراج عن السجناء المصابين، وقالت المنظمة، في بيان صادر الأربعاء 10 يونيو 2020م: «ينبغي لسلطات السجون في الإمارات اتخاذ إجراءات طارئة لحماية الصحة العقلية والبدنية للسجناء وسط إفادات عن تفشي «كورونا» في 3 مراكز احتجاز على الأقل في البلاد».
ودعت منظمات أخرى؛ كالعفو الدولية، ومركز البحرين لحقوق الإنسان، والمنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان ودول الخليج، للاهتمام بالصحة النفسية والعقلية والجسدية للسجناء وإطلاق سراحهم، وتوفير الرعاية الصحية لهم، مما حدا بالسلطات الخليجية للرد على هذه التقارير، موضحة أنها تسعى للحفاظ على حياة السجناء وتوفير الرعاية المطلوبة.
وبالرغم من أن الحريات المدنية كحرية التعبير تواجه قيوداً مستمرة في دول الخليج، وتشدداً على رقابة وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المجتمعات الخليجية مجتمع إنساني، وطبيعي أن يتأثر ويتطور إلى الأفضل، فالمجتمعات الخليجية تطورت مادياً ومؤسسياً واجتماعياً، بل وانتقلت في أغلبها من حالة البداوة إلى حالة الاستقرار والتنمية والاهتمام بالتعليم، وانتشار الثقافة المدنية، وهذا تطور طبيعي للمجتمعات، ومع هذا التطور، فمن الطبيعي أن تتطور الثقافة السياسية للمجتمعات الخليجية، وقد شكلت التجارب الديمقراطية في بعض دول الخليج حالة من التطور السياسي، وكان لها انعكاس على باقي الدول الخليجية، وما تقوم به فئات مثقفة أو سياسية من حركات إصلاحية إنما هو نتيجة طبيعية لهذا التطور المجتمعي والعالمي، لذا فإن التخوف الزائد من التجربة الديمقراطية وحرية التعبير لا مبرر له، ليتحول إلى خلاف والانتهاء بالسجن للمعارضين، فما دام التعبير والسلوك السياسي سلمياً، فإن من التطرف مواجهته بالأحكام القاسية والسجن للذين يعبرون عن مطالبهم سلمياً من أجل تطوير وتنمية مجتمعاتهم الخليجية.
هناك أسباب اجتماعية وتاريخية وإنسانية تجعلنا ندعو السلطات الخليجية إلى إطلاق سراح سجناء الرأي والإصلاح السياسي والاجتماعي:
- فالتاريخ الوطني للعمل السياسي للقوى الوطنية الإسلامية في بعض دول الخليج أثبت في أكثر من مرحلة على التمسك بالحالة الوطنية وبثوابت الدولة والدستور والوطن، فالمعارضة والقوى الإصلاحية السياسية كانت وليدة بيئتها، وكانت من صنع هذه الفئات وتتشكل من أجندة وطنية.
- كما أن هذه المعارضة أو القوى الإصلاحية في المجتمع الخليجي قوى ناعمة تستخدم العلاقات والأدوات الدستورية والسياسية والعلاقات التواصلية المباشرة مع الحاكم أو السلطة في كل مساراتها، ولا تستخدم العنف أو التطرف ضد الدولة.
- والأهم من ذلك أن هذه القوى والفئات تعترف بشرعية الحكم وتقر بمسؤوليته وسلطته، وقامت بدعم ومساندة الحاكم أو الدولة في كل مراحلها سواء في الأزمات الداخلية أو الخارجية.
- إن إعادة تلك الفئات إلى وضعها الاعتباري والطبيعي في المجتمع الخليجي سيساهم في تماسك المجتمع الخليجي ووحدته، والوقوف صفاً واحداً مع الدولة ضد الأخطار والتحديات الإقليمية والضغوطات الدولية، خصوصاً تلك التي تستغل هذه الحالة والظروف لمصالحها وتنقل تلك الملفات الإنسانية دولياً وإبقائها في سخونة دائمة.
إن مبدأ العفو مبدأ رباني، قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} (النساء: 149)، وقال تعالى يوصي نبيَّه وكلَّ ذي مسؤولية من بعده: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159)، وقوله عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى: 40).
ويقول حكيم الحكام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال»، ويقول الأحنف بن قيس رحمه الله: «إياكم ورأي الأوغاد، قالوا: وما رأي الأوغاد؟ قال: الذين يرون العفو والصفح عاراً».
إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لهو قدوة لكل حاكم مسلم يقتدي بفعله، عفا عن قومه الذين آذوه وقاتلوه وطردوه وهجّروه، وقال لهم بعدما مكّنه الله منهم في فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
إن إعادة وحدة المجتمع الخليجي ورأب لُحمته مهمة تكتمل بإطلاق سراح السجناء السياسيين وسجناء الرأي، فهل تكون خطوة المصالحة الخليجية انطلاقاً لبدء مرحلة من المصالحة الخليجية مع قوى الإصلاح والرأي في دولنا الخليجية، والأمل بالله كبير لإغلاق هذا الملف ليصبح من الماضي.