العمل الجاد من الصرم إلى الزرع
بقلم: د. حسن يشو (عضو الاتحاد)
قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].
تمهيد:
أحاول في ورقتي هذه أن أراهن على خيوط خفية لدى كثير من الشباب العاملين في حقل الدعوة والمنخرطين في مراكز إشعاعية، والمرابطين على ثغور العمل الجاد من أجل الارتقاء والتميز؛ أهمس بها في آذان المخلصين منهم راجيا أن يحولوا بعض تلكم الأفكار إلى مشاريع علمية وبحثية، كتبتها من قلب لتصل إلى القلب، ولم يمتشقها مجرد اللسان لعلمي أنها لا تتجاوز الآذان، كتبتها على سجيتي ومن تجربتي في الحياة، وأنا أستنطق النصوص والمفاهيم؛ عسى أن ينتفع بها كثير من المتخبطين في دياجير الحياة كالأخسرين أعمالا؛ أولئك الذين اختل لديهم الميزان، والبوصلة اضطربت وفقدت التوجه الصحيح، وهم في الواقع يحتاجون إلى إعادة تشكيل العقل، وإدخال بيانات صحيحة، وتصحيح المسار، وإصلاح الخارطة الذهنية.
وقد وسمت ورقتي هذه بـ "العمل الجاد: من الصرم إلى الزرع"؛ لأن المفاهيم الخاطئة بين يدي العمل لا تفتأ تكرس ثقافة الصرم والانحطاط في حين نتغيى أن يرتفع الوعي من أجل ثقافة الزرع البانية في مسمى العمران الحضاري.. ولا أبالغ إذا ذكرتُ من مقاصد البعثة النبوية أن غيّر الحبيبُ صلى الله عليه وسلم اسم "أصرم" إلى "زرعة"؛ من جراء أن تتداعى المعاني السامية وتندحر المفاهيم المنحطة.. والله من وراء القصد!
العمل الجاد أساس في بلوغ الأهداف:
لا أحد يمكن أن يولد عظيما غير الأنبياء المعصومين من رب الأرض والسماء، وأن سر العظمة هو النبوغ في العمل النوعي الجاد، وأنت قادر أن تصنع تاريخك ومستقبلك الذي سيزهر يوما ما.. ومهما كان حلمك يمكنك الوصول إليه إذا كنت تريد أن تعمل.. فمن جدّ وجد ومن زرع حصد ومن سار على الدرب وصل.. والمثل الصيني: "لا تعطيني سمكة ولكن علمني كيف أصطادها" ونحن نرى كثيرا من الشباب لم يبذلوا قصارى جهودهم في دراسة طبيعة العمل الناجح ومهارات العمل الجاد ويستهلكون الأفكار ويستنسخون الخمول والدعة والاسترخاء.
ويختزل بعض العلماء[1]: الأساسيات لتحقيق أي شيء ذي قيمة في ثلاث:
أولًا: العمل الجاد،
ثانيًا: المثابرة والإصرار،
وثالثًا: الفطرة السليمة.
فلا مناص لك من العمل الجاد –إذًا- في ابتغاء القمة والريادة دائما، وإلى مزيد من العطاء والإشعاع.
إياك والانقطاع!
هذا يا أخيّا لمن أراد التقدم بهدوء نحو أهدافه لا مجرد الرغبة في التحايل على النجاح والمكافأة، ويكفي أن تبدأ العمل وتشرع في خطواته الأولى ولا تبطله بالفتور والانقطاع؛ قال تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] وكن عاشقا لعملك غير متبرم به، وتدرج في الإنجاز وتأكد أنك قد انطلقت وأنك في نمو ونضج وتطور تسعى للكمال، وسترى النتائج عاجلا غير آجل احترازا من البطالين الذين يموتون وتموت مشاريعهم قبل أن يولدوا وتولد.. أي أن مشاريعهم تولد ميتة، ويبقون خارج نطاق العمل يتفلسفون عن التحديات والعقبات يلقون اللائمة على غيرهم فقط ولا يصدر منهم أي فعل بله الفاعلية!
حاسب نفسك ولا تلقي باللائمة على غيرك:
ومن حقك أن تتساءل يا أخيا عن أسباب الخلل وعطالة العمل في حياتك، بل هو واجب في ذمتك ابتغاء التطوير، واتهم نفسك بإصرار قبل أن تؤشر بأناملك على غيرك؛ قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
وهي عادة سيئة للمبررين تخاذلهم وإعراضهم عن العمل الجاد؛ كما حكى الله تعالى عن قوم جاءهم الأنبياء لإصلاح أحوالهم المهترئة؛ فألصقوا تخلفهم وشؤمهم بمجيئهم مباشرة تطيرًا؛ قال سبحانه: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [يس: 18]، ولكن الله على لسان أنبيائه ربط الأزمة بالداخل وأن التقصير في العمل ديدنهم فهم مصدر الشؤم وطائرهم معهم وليس داخلا من خارج؛ فقال سبحانه: (قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ۚ أَئِن ذُكِّرْتُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ) [يس: 19].
اقتحام العقبة:
اقتحم يا أخيا العقبة الأولى والتحدي الأول واعلم أن تخطيك للعقبات بإرادة وإصرار يمكّنك من بلوغ المنى وتحقيق الأهداف وانسلخ من كل مظاهر الخوف المريع من عدم تحقق الأهداف واستعن بالله وأقدم ولا تعجز ولا تستسلم للمثبطات والمثبطين ولا تستمرئ مجالسة البطالين الخاملين! قال سبحانه: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد: 11]، والأصل أن يقتحمها المسلم ويعبر عليها بثقة ويقين؛ لأنه منخرط في العمل الجاد! ومن أعجب العجب وحتى من الصيام في رجب أن ينتقد كثير من الشباب ضروبا من العمل الجاد وهم أبعد الناس عن دخان المعركة! والنقد البناء حين تلتحم بالحياة العملية وهنالك يكون للنقد مصداقية.. فلا تتباطأ بدعاوى جوفاء أن فلانا وعلانا لم يفعلوا.. فانظر إلى المليء من الكأس ودعك من الفارغ منه.. كن إيجابيا ولا تتردد في الإنتاج والثمرة.. فاقتحم العقبة وأنت فخور بالإنجاز!
لا تعجز، فإن (لو) بضاعة البطالين:
دينك الحنيف يحملك على العمل الجاد ويريد منك أن تكون قويا، وتظل قويا، وأن تموت قويا، فالعمل الجاد أحد مظاهر القوة، فالدين لا يرغب في الدراويش الذين يتسولون على أبواب المساجد وهم أحرص الناس على العبادة وأداء الصلوات في أوقاتهما، ويصيرون بعدئذ عبئا ثقيلا على غيرهم، وعالة على المجتمع؛ عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليدُ العليا خيرٌ من اليدِ السفلَى"[2]
فقد ربط المصطفى بين محبة الله تعالى والقوة في المؤمن؛ عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى اللهِ منَ المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ احرِصْ على ما يَنفَعُكَ ولا تَعجِزْ فإن فاتَك شيءٌ فقُلْ قدَّر اللهُ وما شاء فعَل وإيَّاك واللَّو فإنها تَفتَحُ عملَ الشيطانِ"[3]. فأيقنتُ وأنا أتأمل الحديث أن (لو) بضاعة البطالين، وأمارة على التقصير، وبرهان على عدم القابلية للنمو والتطوير!
العبرة بالعمل لا بالشعارات الجوفاء!
في الحديث: "يا بني هاشمٍ لا تأتيني الناسُ بأعمالهم وتأتونِي بأنسابِكم"[4] فالعبرة –إذًا- بالعمل لا غير وليس أي عمل وكيفما كان ولا نغتر بكثرته؛ قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23]. لأن هذه الأعمال قد فقدت شروط قيامها؛ لذلك جاء في الابتلاء من أجل استطلاع جودة العمل لا كثرته فحسب؛ فقال سبحانه: (ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2]. قال: أحسن عملا ولم يقل أكثر عملا؛ واللطيفة هنا اللفتة إلى نوع العمل لا إلى الكم فقط!
ولما كان الله تعالى مطّلعًا على أعمال الناس الباطنة والظاهرة الصحيحة والباطلة؛ فيربي المسلمين على صدق السريرة ونور البصيرة، ومراقبة الضمير؛ لأن الله مطلع على كل شيء، لكن العبرة بالعمل الجاد لا مجرد الانتماء الفارغ!
قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه) [آل عمران: 110]. ولعل أحد مكونات هذه الخيرية هو العمل الجاد الذي جعل من حضارة المسلمين حضارة العمل!
وتأمل كيف "أن النبي r سمع اسم أصرم فقام بتغييره إلى زرعة"[5]. وأن الصرم عمل سلبي غير مرغوب فيه وكل تداعياته من الصرم والجدب وإتلاف البيئة وترسيخ الانقراض، والتلوث، ونسف الخيرات، إلى مصطلح برّاق وراقٍ معطاء يكشف عن مقاصد الرسالة المحمدية، وشريعة الإسلام الغراء؛ وهي الزرع والإنتاج والعطاء وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتحقيق الخلافة الراشدة وإقامة الشهادة على الناس، وتمكين الشهود الحضاري، والريادة والإشعاع بين سائر الأمم[6].
وليس عبثا أن يقول النبي r: "أصدق الأسماء: حارث وهمام"[7]؛ والحارث من الحرث وهو عمل الإنسان في الأرض، والهمّام من الهمة؛ وهي أساس كل عمل، فآتيني بالوصفين في أمة من الأمة أجعلها رائدة وقائدة تتصدر المشهد العالمي بعلو الهمة وصلاح الحرث، تصنع نهضتها من ذاتها[8].
استعذ بالله من العجز والكسل:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل؛ فيقول: "اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من العجزِ والكسلِ ، والبخلِ والجبنِ والهَرَمِ ، وعذابِ القبرِ ، وفتنةِ المحيا والمماتِ"[9].
والاستعاذة معناها التحرز بعناية الله وحده والاعتصام به والاحتماء بجنابه الكريم لصيانتك من العجز والبطالة والكسل والارتخاء والبطالة والاهتراء والانبطاح!
الكسل بضاعة الشيطان:
واعلم أن القاعد عن العمل يتناغم مع جدول الشيطان المارد اليومي وفي وقت مبكر من النهار؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ علَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هو نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وإلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ"[10].
الانغماس في العمل وثمراته:
ما أحلى الإنسان وهو منغمس في عمله يؤدي وظيفته على الوجه الأكمل ودونه الفراغ والإرجاف؛ ولله در أبي العتاهية في قوله:
ما أحسنَ الشغلَ في تدبيرِ منفعةٍ ** أهلُ الفراغِ ذوو خوضٍ وإِرجافِ
بل يعد العمل ذخيرة من الذخائر وذخرًا تفتخر به في حياتك وبعد مماتك؛ وتتوقف عليه كل نهضة؛ قال الفرزدق:
وإِذا افتقرتَ إِلى الذخائرِ لم تجدْ ** ذخرًا يكونُ كصالحِ الأعمالِ
يتجلى العمل الجاد في الجهد الذهني والجسدي والأدبي الذي يبذله الفرد في عمله أو وظيفته ومهمته وهو متمتع به يؤديه بروح المسؤولية على نشاط وحيوية ويظهر عليه مدى شغفه به.
العمل الجاد لا يقتصر على فئة معينة في مجتمعك وأمتك، بل يشمل كل وظيفة تساعد على استقرارك النفسي والمهني ونهضة الحياة العملية ونمو الدولة، وعليه؛ فإن عامل النظافة له دور كبير في الحفاظ على استقرار الحياة ومرافق الدولة من خلال الحفاظ على نظافتها الدائمة، فعامل النظافة ليس أقل شأنًا –إذًا- من غيره من الموظفين داخل مؤسسات الدولة.
واعلم أن لا أحد يولد موهوبا في عمله نابغة في أدائه؛ فهي مهارات مكتسبة على كل حال! ثم إن طول التمرس وترويض النفس على العمل الجاد يبدأ بالتغلّب على الكسل وبرمجة العقل على النشاط والحيوية!
بالعمل الجاد ندرك أننا رقم صعب في المجتمع نعطي ونأخذ!
بالعمل ندرك أن لنا جذورا ضاربة في تاريخ أمتنا التي شيدت حضارة ما زالت آثارها قائمة لحد الآن لكن بالعمل لا بالأمل والأحلام المعسولة!
العمل الجاد هو الذي يضمن للدولة والمجتمع استقرارها المادي والمعنوي واستقرارها الأمني على صعيدي العاجل والآجل.
بالعمل نشعر بالمسؤولية على كل صعيد، فما المسؤولية يا ترى بغير عمل جاد!؟
بالعمل الجاد نستطيع أن نحيى حياة طيبة عزيزة كريمة نبتعد فيها عن الانبطاح والكسل!
بالعمل ننتقل من القرآن إلى العمران ونشيد حضارة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
بالعمل يحس الإنسان أنه على جادة الفطرة التي فطره الله الناس عليها يعمل وينشط ويتحرك ويعطي لا يأخذ فقط فإن أخذ فقط فهو عالة حينئذ على غيره وعبء ثقيل على مجتمعه.
بالعمل ينسجم معك الكون وتتناغم معك سائر المخلوقات وبالعطالة والبطالة والاسترخاء السلبي سيكرهك من حولك وتمجك الطباع السليمة.
العمل الجاد الناجح هو كل عمل يحفظ للإنسان كرامته ويوفر له قوت يومه وتمتد ثماره للآخرة.
ويعجبني في مذهب مالك أن فقهه فقه عملي؛ موسوم بالعمل لا يخوض في علم ليس تحته عمل! ولقد ظهر بمدرسة أهل العراق مذهب الأرائيتيين وقد خاضوا مخاضة صعبة حتى توقعوا ما لا يمت للواقع بصلة فانغمسوا في وحل المعضلات والترف العلمي!
العمل في عالم الحيوان:
إن العمل في عالم الحيوان كل ميسر لما خلق له؛ ولاحظ بعض الحيوانات الخاملة كالقرد الكسول والحيوانات المتأوهة المتثائبة باستمرار أو كالتي تخلد للنوم ساعات طويلة والتي تعتمد على قوت جاهز فديدنا أن تسرق عسل النحل مثلا أو بيض الطيور تترصد لها.
في حين توجد حيوانات ترى فيها دينامية العمل بكل عنفوان!
فانظر إلى النحلة التي تسمى نسبة للعمل والشغل بالشغالة والعاملة؛ لأنها تظل تشتغل في الحقول تصول وتجول وتلثم رحيق كل الأزهار الطيبة، ولا تطوف بالجيف والأماكن القدرة أبدا، والعمل ديدنها وديدنها العمل لا غير، ومن اعترض سبيلها لسعته وكانت لسعتها نافعة لكثير من الأمراض. وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 68- 69].
وانظر إلى النملة وهي تقاوم في طابور طويل تحمل أكثر من جسمها أضعافا مضاعفة ديدنها العمل وتمتلك رؤية مستقبلية فهي الحشرة الاقتصادية التي تعول على العمل لا غير وتدخر قوتها لفصل الشتاء على خلاف الصرار الذي يظل بالصيف عازفا على قيتارته غير ملتفت لما هو آت.. ولما جاءها حين عجز في الشتاء ونفذت ذخيرته قالت له النملة: "لما كنتُ أطمّر (أدخر) كنت تزمّر".. وحين تعترض النملةَ بعضُ العقبات الكأداء وتسقط تحاول الكرة والأخرى مرات عديدة حتى تستوي لهدفها وتستقيم معه غير آبهة بالبطالين والمتفرجين فهي عنوان للكد والعمل!
قال تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18] في هذه الآية أوجه عديدة من الإعجاز البلاغي[11]:
ولما أحست النملة بوجود سليمان.
- نادت (يا)
- وكنت (أيّ)
- ونبهت (ها)
- وسمت (النمل)
- وأمرت (ادخلوا)
- وقصت (مساكنكم)
- وحذرت (لا يحطمنكم)
- وأكدت (استخدام نون التوكيد)
- وخصت (سليمان)
- وعممت (جنوده)
- وبينت (من الذي سيحطمهم)
- وعذرت (وهم لا يشعرون).
(وَقُلِ اعْمَلُوا) وضريبة العمل:
قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].
والخطاب هنا موجهٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم واضعًا معيارًا في الانتماء لهذه الأمة الإسلامية الذي لا ينبغي أن يكون عبر شعارات جوفاء فقط أو عناوين فارغة وكلمات منمقة بل بناء على الجد في العمل أو العمل الجاد؛ وهو الدليل الساطع والبرهان اللامع قال تعالى: (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 111]. وقد باتت هذه مجرد دعوى سواء من اليهود أو من النصارى أو من غيرهم بل حتى من المسلمين الذين لم يأتوا ببرهان على انتمائهم فإنها ستظل مجرد أماني معسولة ودعاوى باطلة لا مصداقية لها طالما أنها ناشئة من فراغ وأن الكلام مرسل على عواهنه ليس إلا!
ولم يترك الأمر لهم هكذا فزاد في البيان حين أردف الآية فقال: (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 112].
وحين يقول سبحانه: (بلى) هو إلغاء لأماني الناس ودعاويهم؛ مراهنا على العمل المتجلي فيما يأتي:
- (مَنْ أَسْلَمَ) وتحقق إسلامه واستسلامه ومطلق طاعته وبرهن على ذلك بجوارحه وعطائه وإشعاعه.
- (وَجْهَهُ لِلَّهِ) وأن لا يكون ذلك من باب المجاملة والرياء والمباهاة، بل أن يتجه صوب الحق ولله وحده لا شريك له وما كان لله دام واتصل وكان للمصلحة العامة.
- (وَهُوَ مُحْسِنٌ) والإحسان فيه من الإحكام والإتقان ومراعاة النوع والجودة لا العزف على الجماهير المخدوعة.
- (فَلَهُ أَجْرُهُ) إذ لا شيء يمكن أن يضيع أو يتبخر فلكل عمل مكافأة في الدنيا والآخرة.
- (عِندَ رَبِّهِ) وما كان عند الله فهو خير وأبقى، فلا شيء يضيع البتّة حتى وإن ظن المظلومون والمعذبون في الأرض أن حقوقهم ضاعت في الدنيا فإن الله لا يضيع مثقال ذرة؛ لأنه الله الذي حرم الظلم وجعله بيننا محرما وأوصانا أن لا نتظالم.
- (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لأن مع العمل الجاد الأمن وتبخر الفزع في الدنيا وفي الآخرة بؤمنهم الله يوم الفزع الأكبر.
- (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) ولا يمكن للمنخرط في سلك الجادين العاملين أن ينتابهم إحباط أو اكتئاب أو تذمر وحزن، فالله وعدهم بعدم ضياع حقوقهم في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنهم مطمئنون بأداء ما عليهم وأما ما لهم فلحكمة يعلمها الله فهو يخير لهم وبيده ملكوت السماوات والأرض.
لذلك قال سبحانه: (وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) لأن العبرة بالعمل وما نقدمه أو نؤخره من العمل؛ كل الحساب على العمل!
إن المقصد من الحشر والبعث؛ لينظر الله ما الذي عملناه؛ وهو السر في قوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) سيرى الله العمل لا النسب ولا الحسب ولا الجاه ولا المال ولا الشهرة ولا العيال ولا القبيلة والقصور والبروتوكولات ولا شيء من هذا القبيل!
ومن أبطأ به عمله لم يسرِعْ به نسبه:
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَبِ الدنيا نفَّس اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّر على مُعسِرٍ، يسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ، ومن ستر مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ، واللهُ في عَونِ العبدِ، ما كان العبدُ في عَوْنِ أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل اللهُ له طريقًا إلى الجنَّةِ، وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ، يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارَسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكينةُ، وغشِيتهمُ الرحمةُ، وحفَّتهمُ الملائكةُ، وذكَرهم اللهُ فيمن عندَه، ومن أبطأ به عملُه لم يُسرِعْ به نسَبُه"[12].
فدلّ الحديث بكل فقراته العملية على أن العبرة بهذا العمل الذي يباهي الله به في الملأ الأعلى لدى ملائكته ورزق الله العاملين السكينة الوقار والرحمة والطمأنينة فقال: "ومن أبطأ به عملُه لم يُسرِعْ به نسَبُه" أي أن ذلكم هو العمل الذي يغني صاحبه عند لقاء ربه، وأن المراهنة بعد رحمة الله على العمل لا النسب والجاه وغيرها من المتعلقات التي يتعلق بها الفاشلون في العمل!
وعن إبطاء العمل أقول: إن تأجيل الأعمال من إبطائها والتسويف؛ لأن كثيرا من الشباب وإن حباهم الله قدرة جبارة وطاقة خارقة للعمل ولكنهم يعطلونها بالتأجيل والتسويف والتباطؤ! وكأنهم يعيشون أحلام اليقظة يحلمون فقط ولا يقدمون من العمل نقيرا ولا قطميرا!
ركّز يا أخيّا على إتمام هذه المهام المرسومة في جدولك اليومي بعناية وركز على تحقيق أهدافك يوما بيوم وكأنك في سباق مع الزمن وسترى الثمرة!
لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد:
ومن الحكم: "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، "كما تزرع تحصد" "لا بد دون الشهد من إبر النحل" "ليست يدي مُخَضَّبةً بالحناء" "من سعى جنى ومن نام رأى الأحلام" "والمرء ليس بصادق في قوله حتى يؤيد قوله بفعاله" "وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركاب" "ومن خطب الحسناء لم يغلها الْمَهْرُ".
فلا تكن ممن يثخن في الهدم ونقض أعمال السلف، ولكنه إذا تقدم للبناء قصر ولم يستطع أن يقدم شيئا البتة! تماما كما قال أحمد شوقي في قصيدة: "قم في فم الدنيا وحي الأزهرا":
لا تَحذُ حَذوَ عِصابَةٍ مَفتونَةٍ ** يَجِدونَ كُلَّ قَديمِ شَيئٍ مُنكَرا
وَلَوِ استَطاعوا في المَجامِعِ أَنكَروا ** مَن ماتَ مِن آبائِهِم أَو عُمِّرا
مِن كُلِّ ماضٍ في القَديمِ وَهَدمِهِ ** وَإِذا تَقَدَّمَ لِلبِنايَةِ قَصَّرا
لا تكن من الأخسرين أعمالا:
لا تكن من الأخسرين أعمالا الذين يسيئون العمل ويتوهمون أنهم على حق يقدمون أجود الأعمال وأفضل ما لديهم؛ قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 103– 105].
أكمل مهامك الأساسية من جدولك اليوم:
كن متقنا لعملك محسنا في أدائك محكما في تدبيرك، حساسًا من كمّ التعليقات السلبية على ضعف الأداء وما تقوم به؛ لأنك الطموح المتقن لا ترضى أن تأتي بعمل خداج مهترئ!
كن الرجل الذي يسعى لتحقيق نجاحات على مستوى العمل كما تحب النجاح في حياتك على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة والأمة والإنسانية.. واعلم أن الطريق الآمن لهذه النجاحات هو العمل!
لا تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي ولا تغرق في العوالم الزرقاء والخضراء والحمراء أو أيّ نوع من أنواع الملهيات الحديثة حتى تنتهي من مهامّك الأساسية المرسومة في جدولك اليومي وهكذا تستطيع أن تؤدي العمل الجاد على جدارة واستحقاق وإلا كنت ضحية من ضحايا وسائل التواصل الاجتماعي بلا فائدة تذكر وهي تستهلك العمر بدون نتيجة إن لم تضعها موضعها المحدود!
أدعوك أيها الطيب الغالي للعمل الجاد الدؤوب الذي يثمر وسترى الثمار اليانعة في القريب العاجل؛ فالجد يساعدك على النجاح والتفوق في حياتك، وينمي شخصيتك لكسب مهارات كثيرة كنت أميًّا فيها، ويجعل منك إنسانًا طموحًا تبلغ الدرجات العلا في الدنيا والآخرة؛ وعليه فلا تؤجل عمل اليوم إلى الغد مهما كانت الظروف؛ ستتراكم عليك الأعمال فتفشل في بداية الطريق وهذه آفة الآفات؛ "من جدّ وجد ومن زرع حصد ومن سار على الدرب وصل"! فإذا أنت يا أُخيّا لم تزرع ورأيت غيرك حاصدًا، ندمت على تفريطك أيام الزرع لا محالة؛ لذا قيل: "من سعى جنى ومن نام رأى الأحلام". فإن "السيف يقطع بحده، والمرء يسعى بجده". واعلم أن "مفاتيح الأمور العزائم"؛ وأيقن أنك بالإبرة تستطيع أن تحفر بئرًا؛ وذلك إذا صدقت العزم وكانت عزيمتك ماضية.
ولله در أبي الطيب المتنبي إذ قال:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ** وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ** وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
والناجح يا عزيزي يقول دائما دونما كلل أو ملل: "دعني أقوم بالعمل"، أما الفاشل فيقول بامتعاض: "هذا ليس عملي" و"ليت من يقوم به غيري أو نيابة عني". يقول جيم رون: "لا تقل ليت الأمر كان أسهل، قل ليتني كنت أفضل".
يمكنك يا طويل العمر مواكبة العالم بالجد في العمل لا بالخمول والأمل، فيدُ الجد هي الذراع اليمنى للعقل.
وإذا أردت أن تكون جادًّا فاصْحب إخوة جادين وابتعد عن حمى الخاملين واللذين ديدنُهم أن يلُوكوا الكلام الكثير ويمتشقوا الثرثرة في المجالس مهما نمّقوا كلامهم من عسل؛ فليس لديك وقت لإهداره فهو مسؤولية وأمانة!
وهل يتنافى العمل الجاد مع العمل بذكاء؟ فالجمع بينهما أولى في تألق العمل حتى لا يتوقف على الذكاء فقط فتحتفّه الحيل والخسة والتفنن في الغش وتحقيق المصالح بطرق سريعة وغير مشروعة، فلا مندوحة عن العمل الجاد الذي يلهبه الذكاء والفطنة وحسن اتخاذ القرارات المناسبة! فالنجاح حصيلة العمل الجاد والقرارات الذكية الصحيحة فلا غنى عنهما! لذا كما قيل: "ليس هناك طرق مختصرة للنجاح، فالعمل الجاد هو العمل الذكي".
واعلم يا غالي أنك عندما تحب عملك الجاد فإنك تمارسه بإحساس مرهف وحيوية وإتقان.
وقد تفشل كثيرًا في عملك، ولكن لا تهتم ولا يجب اعتباره فشلًا ذريعًا إلا إذا بدأت تلقي اللوم على غيرك هنا يبدأ الفشل!
يقول الإمام الشافعي:
بقدر الكد تكسب المعالي ** ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن طلب العلا بغير كد ** أضاع العمر في طلب المحالِ
وقال أحمد شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني ** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال ** إذا الإقدام كان لهم ركابا
وأن تكون الهمة عالية والغاية سامية؛ تماما كما قال المتنبي:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ ** فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
من مواصفات العامل الجاد في عمله:
واعلم أن العامل الجاد والموفق في مشاريعه العملية هو من تتوافر فيه صفات أساسية ينبغي التحلي بها منها:
- لا تفترض العوائق قبل العمل، فأقبل على العمل متهللا متوكلا على الله ثم عالج ما يظهر لك من عقبات وصعوبات وتحديات فلا تعجز!
- العامل الجاد يحسب كل خطوة يقوم بها في أعماله ومشاريعه، يتأمل عواقبها؛ ويتفرس مآلاتها من مساوئ أو نجاحات، وهو ما يوجب وضع خطط بديلة؛ لتكون عونًا له عند وقوع أي مواقف غير محسوبة وغير متوقعة.
- علم بلا عمل سبيل للانحراف؛ قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 175- 177].
- عمل بلا علم سبيل للابتداع؛ ما يجعله مردودا غير مقبول؛ عن عائشة أم المؤمنين قال صلى الله عليه وسلم: "مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ"[13].
- علم وعمل مع إيمان رفعة وثبات؛ قال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]. وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66].
- لا تعتقد بأنك وحدك تستحق النجاح بناءً على مؤهلاتك وشهاداتك وخلّ نفسك ما دمت حيًّا متعاونا مع فريق العمل عند الاقتضاء ودع عنك الأنانية الجامحة!
- الشخص الفاشل هو الذي لا يحدد أهدافه وأولوياته في الحياة، فيتخبط خبط عشواء على الرغم من وفرة عمله الفوضوي غير أنه لا يتسم بالجودة والإتقان! واعلم أن فشل الفاشلين يسري في مجاري الحياة فينغصها ويثبط مشاريع النهوض في أمته!
- لا تنطو على ذاتك وتتقوقع للأبد، نعم للخلوات إيجابيات إذا لم تعطل العمل الجاد وكانت تفكرا وتفكيرا وتفاكرا للتطوير، أما أن تكون صادة عن الفاعلية، بعدم التواصل مع العالم الخارجي وقطع العلائق مرة واحدة مع الآخرين، فكن إيجابيا في خلواتك وجلواتك في سرك وعلانيتك!
- اعتمد دوما على الذات ولا تلقي بأعمالك على سواك وتضع أعباءك على غيرك حتى في الإشراف والمتابعة؛ فإن فعلت وتخاذلت كان احتمال النجاح مع الزمن ضعيفا وهذا يصدقه الواقع والتجربة.
- أن تكون لديك رغبة في التعلم وطموح في التألق، وقابلية للتطوير؛ فلولاها لبقيت تراوح مكانك يتطور العالم من حولك وأنت لم تلْو على شيء!
- أن تكون لديك ثقافة عامة وخبرة بالحياة ومجرياتها وخصوصا وبالعمل الذي تخطط له وتنجزه حتى لا تؤتى من قبل الجهل؛ وهو طريق النهوض في المشاريع، وقد أصيب بعضها بالفشل؛ لأن أصحابها دخلوها على جهل وبعنجهية لا معنى لها!
- أن تتعرف على عوامل النبوغ القيادي ومهارة الريادة والقيادة في مختلف الأعمال؛ لتتألق في عملك وتنتج أعمالا وجيهة تسر العقلاء وترضي الله جل جلاله.
- أن تتحلى بالصبر والجلد والقدرة على التحمل والمثابرة والإصرار مهما كانت الظروف؛ فلا معنى للجد بدون قدرة على التحمل لبلوغ الأهداف وتحقيق المخرجات في أي عمل كان!
- أن تتسم بروح المبادرة ولا تكن من الثقلاء الذين لا يبالون فيستنسخون ما هو موجود وكفى فإن لم يكن خملوا، بل لا بد أن تكون روحك خفيفة ومرحة وعقلك نشطا مبادرا دون توان ولا تقصير.
- أن تكون دقيقا في أمور عملك ذا موثوقية ولا تترك الحبل على الغارب، وتتابع بجد وتتحرى وتحاسب حتى تكتب عند الله عاملا جادا في عملك!
- أن تمتلك عاطفة جياشة تجاه عمله وحماسة متعقلة؛ كالوقود في الدفع بالعمل للجودة والرونق ولا يتراجع للوراء وتصمم على البقاء والإنتاج بفاعلية واقتدار.
- أن تكون موازنا تدرك أبجديات فن مراتب العمل أو فقه الأولويات؛ حيث ترصع أعمالك على مراتب وأولويات فلا تقدم ما محله التأخير ولا تؤخر ما محله التقديم.
- أن تملك الاستعداد التام للتعاون وعمل الفريق والعمل المؤسسي الجماعي؛ لأن عملك يجب أن يتضافر مع أعمال مماثلة ويتكامل لأجل المصلحة المشتركة.
من ضوابط العمل:
واعلم أن العمل ينبغي أن يسيج بجملة من الضوابط المنيفة؛ منها:
- الإخلاص في العمل:
قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162]، ولما كانت أعمالنا لله على اختلافها وتنوعها فيجب أن تنصرف له بإخلاص وإتقان؛ لأن الإخلاص في العمل شرط في نجاحه واستمراره وقبوله عند الخالق والمخلوق، فلو كان عملا أخرويا مثل العبادات والتبرعات فيجب أن يكون لله؛ لأن ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل. ثم إن الله لا يقبل عمل المرائي المسمع الذي ينافق ويتاجر؛ قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5]. فوجب التوجه لله رب العالمين في كل عمل؛ قال سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162-163].
عن عمر بن الخطاب قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: "إنَّما الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ، وإنَّما لِامْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ"[14].
- الاجتهاد في العمل:
اعلم أنك حين تقع في مغنم القرار الصحيح وحب الاجتهاد والعمل الجاد فستتوالى عليك النجاحات وثمرات التميز؛ يقول جي كي نيلسون: "أنجح الناس ليسوا موهوبين وإنما يعملون بِجِدّ ثم يقصدون النجاح". وعليه؛ فلا أعلم -ولم أقرأ يوما ما- أن التألق في العمل يكون دون اجتهاد أو خبرة أو ممارسة، فكم احتاج أمهر الناس ولسنوات مديدة من العمل الجاد والمواظبة عليه والترس والتمهر فيه حتى أنتجوا هذه الثمرات اليانعة النافعة من أعمالهم التي خلدت ذكراهم في الآخرين. والناجحون الموفقون في أغلب الأعم هم أولئك الذين يكرسون أكثر ساعات يومهم لتنمية مهاراتهم في مجالات أعمالهم ابتغاء التقدم والتميز.
قال ستيفن كينج ذات مرة: "الموهبة أرخص من ملح الطعام، فالفرق بين الشخص الموهوب والشخص الناجح هو كثرة الاجتهاد"، قال هينري فورد: "كلما اجتهدت في عملك زاد حظك" وبالتالي يزيد نجاحك وتألقك.
- مراقبة الله في العمل:
إن مراقبة الله في العمل هو امتداد للإخلاص فيه؛ حتى لا ينقطع بالهفوات والتقصير فيه وعدم الاستمرار في جودتها والتفاني فيه كما بدأه أول مرة؛ قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19]. وهو ضرب من الإحسان الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ فقال: يا رَسولَ اللَّهِ ما الإحْسَانُ؟ قالَ: "الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ"[15]. ومن وطّن نفسه على الإحسان بات متقنا لعمله مستمرا في إخلاصه وتفانيه مراقبا ربه في كل آن وحين من أول العمل حتى أدائه. وما قصة بائعة اللبن عنا ببعيدة[16].
- مشروعية العمل:
قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110]. أي لا بد أن يكون العمل صالحا نافعا مشروعا ليست عليه ملاحظة من دين ولا شرع؛ لذلك فالعمل القائم على غير هدى الله ولا يتوافق مع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهو باطل مهما أضفيت عليه من مسوح الرونق والبهاء!
وكان هذا الضابط احترازا من محدثات الأمور التي تكون غريبة عن تعاليم الشريعة الغراء وقواعدها العامة ومقاصدها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ"[17].
- إتقان العمل:
إن الإحسان والإتقان من أبرز ضوابط العمل؛ عن أَبي يعلى شَدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الله كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإذَا قَتَلْتُم فَأحْسِنُوا القِتْلَة، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَليُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَه، وَلْيُرِح ذَبِيحَتَهُ»[18]. وقد رد أيضا: "إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ"[19]، وفيه دعوة إلى كافة أصحاب المهن والأعمال والمؤسسات بأن يُتقنوا أعمالهم؛ كي يكسبوا محبة الله ورضوانه.
- استمرار العمل:
عن عائشة أم المؤمنين سُئِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؟ قال: "أدْوَمُه وإنْ قَلَّ"[20]. ولذلك كان علينا أن نكلف من الأعمال ما نطيق وهو في استطاعتنا؛ قال صلى الله عليه وسلم: "اكلَفوا من العملِ ما تُطيقون؛ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تَمَلُّوا و إنَّ أحبَّ العملِ إلى اللهِ تعالى أَدْوَمُه و إن قَلَّ"[21].
فأي قيمة لعمل ينقطع ويصاب أهله بالفتور؛ فهو آفة على الطريق يجب أن تلتفت إليه في اختياراتك العملية ومشاريعك الحضارية؛ لا تنقطع ولا تيأس ولا تتبرم؛ لاحظ كيف عتب النبي صلى الله عليه وسلم وعاب على من انقطعت أعمالهم دنيوية كانت أم أخروية؛ وعلى رأسهم عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عبدَ اللهِ! لا تكُنْ مِثلَ فُلانٍ كان يقومُ من الليلِ، فترَكَ قِيامَ الليْلِ"[22].
- أداء العمل بحب ومتعة:
حين يدرك العامل أهمية العمل ويطلع على أسرار ما هو فيه من عمل، ولا سيما إذا أتقنه وأتى به على أحسن وجه؛ فهذا يسعفه على الانتشاء بعمله بمحبة ومتعة، وهي كفيلة أن تكون دينامية العمل؛ ذلك لأن المحبة أصلا ينبغي أن تنطلي على أعمالنا؛ فهي جزء لا ينفصل عن الإتقان والجودة؛ احترازا من العمل الذي يؤدى على مضض ومن غير ذائقة، وكأن العامل يؤدي ضريبة فوق عاتقه ليتخلص منها في الوقت المحسوب عليه، فهذا له سلبياته الكثيرة وإنما يجب أداء العمل بحب ووئام ونشاط وحيوية ومتعتة فكلما كان العامل على هذه الخصلة كلما كان مستمرا في عمله منتجا وفاعلا. والعبادة نفسها تبنى على أساسين أحدهما الحب والرجاء.
وهذا كاف لأداء أفضل ما عندك في العمل، وهو محفّزٌ قويٌّ للارتقاء والتحضر وسلامة النفس والمجتمع، وامتصاص مظاهر الكسل والضجر والكلل تلكم الأدواء القاتلة لأعمال الناس!
وهكذا طالب العلم في تحصيله العلمي ومرحلة الطلب يجب أن يحب عمله ليباركه الله، والأستاذ والمعلم والشيخ والداعية يجب أن يحب عمله ويجد فيه متعة ورسالة، والفلاح في حقله وهو يحرث الأرض وينتج ما ينفع الناس وباقي المسؤوليات والمؤسسات.
- الانضباط:
إن العامل يجب أن يسيج عمله بالانضباط والانتظام حتى لا يرهق في عمله ويتخلى عنه في آخر المطاف ويخسر ما أودع فيه طاقة جبارة أحيانا، فطاقاتنا ينبغي استثمارها وعدم التفريط فيها، أن ينضبط بالوقت ابتداء وانتهاء للعمل الذي يؤديه ولا يتهاون في ذلك، أن ينضبط بشروط العمل وضوابطه وأخلاقياته كيفما كان هذا العمل وبحسب نوعه وطبيعته وضوابطه؛ فاحرص على الانضباط في العمل بأن تسدد وتقارب وتتجنب الضغط والتشدد وتحميل نفسك فوق ما تطيق؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ"[23].
والعاملون في حقل الدعوة إلى الله وطلاب العلم وكل من يروم التحليق في العلياء عليه أن يضع أهدافا نبيلة يسعى إلى تحقيقها بانضباط وانتظام، وعليه أن يركز على مخرجات العمل، وستنمو فيه مهارة التركيز وعدم التشظي والتشتت؛ وسيصل لا محالة إن كان صادقا في طويته وعمله وسيحقق كل يوم مقصوده أما من يعرج على الأماني المعسولة مع الكسل والانبطاح فلا يراوح مكانه وسيكون عبئا ثقيلا وعالة على المجتمع!
ما يساعد على العمل الجاد:
- ضع لنفسك قانون العمل:
ضع لنفسك يا أخيّا قانونا للعمل لا تحيد عنه قيد أنملة، وأدمنه على كل حال وحاسب نفسك آخر كل يوم عن بنوده وإنجازك له؛ وضع قاعدة: "قانون العمل قبل كل أمر تحسيني ترفيهي"، واعزم على ألاّ تخرج مع أصدقائك وزملائك أو من حولك من جراء أن تقضي وقتك في الترفيه قبل الانتهاء من إنجاز مهامّك المقرّرة ليوم أو فترة محدّدة.
- تأكد أن العمل الجاد مهارة مكتسبة:
اعلم أنّ العمل الجادّ والاجتهاد والإبداع والانعتاق من أسر الخمول والكسل والانغماس في الأعمال المرسومة بعناية كلها مهارات مكتسبة يمكن لأي شخص أن يمتلكها ويطوّرها إن هو عقد العزم على ذلك بدون تردد، وليست هبة فطرية يولد بها الفرد، فالناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا أبرياء صفحات بيضاء شطر في دور الوالدين والجيرة والبيئة والمدرسة والشطر المهم على عاتقك أنت حينما تنضج عقليا وفكريا.. فلا يزال الرجل يعمل ويجد في العمل حتى يكتب عند الله عاملا شغالا لا مهملا لا مباليا كسولا بطالا!
- ممارسة الرياضة:
الرياضة تجعل الإنسان نشيطا في عمله وحيويا في أدائه؛ لأن العقل السليم في الجسم السليم. ويكفي أن يمشي المرء ساعة زد عليها قليلا أو انقص منها قليلا؛ وذلك كل يوم ليتدفق الدم في شرايين الجسد وينقل مادة الأكسوجين للدماغ، وأن يتحلل من البدانة والسمنة، ليكون خفيف الحركة عوض أن يكون من الثقلاء والمستثقلين علاوة على أن الرياضة محفزة لهرمون السعادة في الجسم.. فكيف لا يكون العمل جادا في عباداته ومعاملاته ومهنته ووظيفته!؟
وهذه عائشة أم المؤمنين تقول: "سابقتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فسبقتُه، فلمَّا لَحمتُ سابقتُه فسبَقني، فقال: يا عائشةُ! هذِه بِتلكِ" وفي رواية: "هذهِ بتلْكَ السَّبقةِ"[24]. وروي موقوفا على عمر: "علِّموا أولادَكُم الرِّمايةِ ورَكوبَ الخيلِ والسِّباحةَ".
- النوم المبكر والكافي:
أنت في حاجة إلى نوم صحي، وهو من حقوق الجسد، ذلكم النوم الذي يكون بالليل لا النهار؛ لأن الليل جعله الله لباسا فقال: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) [النبأ: 9- 11]. فإن كان في حاجة استعان عليه بسنة القيلولة بالنهار؛ ليبقى العمل جادا دون إرهاق أو نصب. عن أبي برزة الأسلمي "أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ العِشاءِ والحَدِيثَ بَعْدَها"[25]. وبالتالي كان النوم المبكر هو سيد الموقف؛ ليستيقظ الحبيب وأتباعه في الثلث الأخير من الليل من أجل القيام والمناجاة والبركة في العمر والرزق.
- النظام الغذائي:
يقال إن العقل السليم في الجسم السليم؛ ومما اشتهر على ألسن الناس: "المعدةُ بيتُ الداءُ والحميةُ رأسُ الدواءِ"[26] ومعناه صحيح؛ وعليه فيحتاج المرء إلى نظام غذائي منعش للجسم تتحلل بسببه كل الأمراض والأدواء؛ فيبتعد عن الدهون والسكريات، وعن الطبخ القائم على المعجنات والمقليات والأغذية المجمدة والمعلبة المحتوية على المواد المسرطنة وعلى المواد الحافظة والملونات.. واحرص على الأطعمة الكاملة الغنية بالألياف والفيتامينات والمعادن وكل ما يحتاجه جسمك؛ ليبقى صحيحا نشيطا.
ويلحق به النظام في الأكل والشرب بما يعود على الجسم بالرعاية الصحية؛ عن المقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكْلاتٍ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا محالةَ، فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه، وثُلُثٌ لنفَسِه"[27].
عن أنس بن مالك "أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كانَ يَتَنَفَّسُ في الإنَاءِ ثَلَاثًا"[28]. وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أطفِئوا المصابيحَ إذا رقدتُم، وأغلِقوا الأبوابَ، وأَوْكِئوا الأسقيةَ، وخمِّروا الطعامَ والشرابَ، ولو بِعودٍ تعرِضُه عليْه"[29].
- المراقبة الصحية:
والمطلوب أن تراقب وضعك الصحي بين الفينة والأخرى، وبشكل دوري قبل أن يضطرك المرض للفحص الطبي وربما لا يمكن تدارك المرض بعد فقدان السيطرة عليه وانتشاره، والمرض أي مرض إذا كان في بدايته فهو مقدور عليه يمكن أن تجتث أورامك بسلام. وعليه فاعتن بنفسك وبصحتك من خلال الحصول على العلاج المناسب والناجع دونما تقصير. قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عبادَ اللهِ فإنَّ الذي أنزل الداءَ أنزل الدواءَ"[30]. وفي رواية: "يا عبادَ اللهِ تَداوَوَا، فإِنَّ اللهَ لم يضَعْ داءً إلَّا وضعَ لَهُ دواءً، غيرَ داءٍ واحدٍ: الهرمُ"[31]. وذلك لأن الهرم أو الشيخوخة لا علاج لها في تشبيب الهرم؛ ومعناه أن كل شيء وارد من تشبيب الحياة بالعلاج والنظام الغذائي الصحي وما يقوي المناعة من النوم الصحي.
- حسن إدارة الوقت:
عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ"[32]. وعن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغتَنِمْ خمسا قبل خمْسٍ، شبابكَ قبل هِرمكَ، وصِحّتكَ قبل سقمكَ، وغِناكَ قبل فقركَ، وفراغكَ قبل شُغلكَ، وحياتكَ قبل موتكَ"[33]. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما". وقال الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك". وقال الوزير الصالح يحيى بن هُبيرة:
والوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه ** وأراهَ أسهل ما عليك يضيعُ
قال أحمد شوقي:
دقات قلب المرء قائلة له ** إنّ الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ** فالذكر للإنسان عُمر ثاني
الوقت هو الحياة، ورأس مال الإنسان، ومن علامة المقت إضاعة الوقت، لو أحسنت إدارته لحققت من العمل الجاد ما شاء الله لك أن تحقق وعلى جدارة واستحقاق، وأما البطالون الذين يهدرون أوقاتهم فلا مجال لديهم للعمل وحتى إذا قدموا أعمالا فهي خداج غير تمام مترهلة منقوصة! وضع جدولا زمنيا لأعمالك بحسب أولوياتها وتابع تحقيق أهداف كل عمل بإتقان وإحكام، واعلم أن ثمرة هذا الجدول تتجلى في الالتزام التام وعدم التسويف والتأجيل والتباطؤ وحينئذ سترى النتيجة في العمل الجاد وتحقق الأهداف ولا أروع!
وهذا الجدول الزمني يضمن لك إنجاز عدد أكبر من المهام والحصول على وقت إضافي أكثر تستغلّه لا محالة في أنشطة عملية أخرى.
يقال إنّ الفرصة لا تطرق بابك إلاّ مرّة واحدة، وإذا ما ضيّعتها فلن تحصل عليها مجدّدًا فانتبه! وهي مقولة نسبية توجب استغلال الفرص الذهبية فقد لا تعود ومن لم يستغلها فأمامه فرص أخرى للتعويض ما دام في هذه الحياة وعليك أن تستغل كل الفرص المتاحة بين يديك للتألق والتعلم والعمل والارتقاء واستغلها بشكل صحيح، وأحسن استثمار ما لديك من ذخائر وممتلكات من شبيبة وقوة ونعم ترفل فيها ومال ووقت وفكرة ومشروع ودراسة ودعوة.. إلخ.
- الاطلاع على عواقب الخمول والكسل:
قال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ) [الحشر: 2]، وعليك أن تعتبر بقراءة أحوال الخاملين الكسالى وجمودهم وعدم فاعليتهم وعواقب أيامهم فهي كفيلة بأن تحفزك على العمل الجاد! وقال سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [النحل: 76].
بمعرفة عاقبة الخمول والكسل في الدنيا والآخرة على الفرد والمجتمع نملك المحفز إلى الصمود والإصرار والدأب على العمل الجاد؛ لنتحاشى تلكم العواقب التي تؤرقنا ونندم على مصيرها حين لا ينفع الندم. وذكّر بين الفينة والأخرى نفسك بالتجارب السابقة الذاتية التي تكاسلت فيها عن قصد وسبق إصرار، وانتهى بك الأمر في مواقف صعبة حالكة لم تجد لها مخرجا! واقرأ عن الفاشلين والخاملين البطالين الكسالى وعواقبهم الوخيمة لتعرف نعمة العمل الجاد التي تخوض مخاضتها.
- مصاحبة العاملين الجادين:
إياك أن ترافق الخاملين فتنال منهم نصيبا من الخمول وربما كنت أخمل منهم واحذر أن تلتصق بجنابهم فتنبصم شخصيتك على الخمول فاحرص على مصاحبة العاملين الفاعلين؛ لأن الله تعالى حين أمرنا بالتقوى -على سبيل المثال لا الحصر- أردف أن نحافظ على التقوى بمرافقة الصادقين لا المتظاهرين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]. قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "مَثلُ الجلِيسِ الصالِحِ، كمَثلِ العطَّارِ، إنْ لمْ يُعطِكَ من عِطرِهِ، أصابَكَ من رِيحِهِ"[34]. وفي رواية الصحيحين: "مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ كمَثَلِ العَطَّارِ، إن لم يُحْذِكَ مِن عِطْرِه عبَق بكَ من رِيحُه"[35]. وفي رواية: "مثَلُ الجليسِ الصالحِ ومثلُ جليسِ السوءِ كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ، فحاملُ المسكِ إما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبةً، ونافخُ الكيرِ إما أن يُحرِقَ ثيابَك، وإما أن تجدَ منه ريحًا خبيثةً"[36].
- إدمان قراءة قصص الناجحين:
إن المرء على ما يتعوده من ثقافة وسلوك وعادات، فكل من يقرأ قصص الناجحين فإنه يستلهم منهم الهمة العالية، والتنقيب عن عوامل النجاح والتألق، ولاسيما إذا علمت أن كثيرا من الناجحين مروا بظروف غاية في الصعوبة والحرج؛ فتجاوزوها بالعمل الجاد الدؤوب حتى بلغوا المنى وأدركوا كل ما طمحوا الوصول إليه. قال تعالى: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120]. أي: قلبك ليطمئن ويثبت ويصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها, ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به[37].
- لا تشتت نفسك في المهام:
ولا سيما في الوقت الواحد تريد أن تنجز فيه أعمالا كثيرة فتتداخل عليك المهام والأولويات، فانظر للبعيد ووسع آفاقك ووزع الأعمال بحسب أولوياتها، وركز على العمل النافع الجاد وواجب الوقت وكرس له قصارى جهدك وأبدع في إخراجه حتى تنتهي من حسن الإنجاز، وانتقل لغيره.. وحذاري أن تشتت نفسك وذهنك وجهدك في أعمال كثيرة هي قابلة للجدولة والبرمجة والتقديم والتأخير وأنت تضيق على نفسك.. لأن تشتيت الجهد والتصميم على تداخل الأعمال يفضي إلى التهلكة والإحباط والفشل وهو يتنافى مع ما نحن بصدده من الإنتاج والعمل الجاد.. فقد يوجد عمل تستغرق له يومك وتستقبل عملا ثانيا في الغد وهكذا لا تتشظى بين أعمال ربما لا تنجز منها ولا واحدا وهذا أخطر! فالتركيز وعدم تشتيت النفس في المهام يساعدك على العمل الجاد وجودة الإنجاز.
- أحِبَّ العمل الذي تقوم به:
حين تعرف مقاصد العمل وثمراته والأفضال التي يورثها فستحب عملك الذي تقوم به أحببت أم كرهت.. والمقاصد أرواح الأعمال كما قرره الشاطبي.. فالعمل بدون معرفة سره وفضله يظل جثة هامدة.. لذا قيل: "من عرف ما قصد هان عليه ما وجد" .. وعليه؛ فيجب أن تعود نفسك على حب عملك والمتعة في عملك وأن هواك يجنح بك نحو عملك فستنجز لا محالة بنشاط وحيوية دون حرج أو ضيق.. فكم من العاملين يضيفون ساعات تطوعية لأعمالهم فكم قاضي يأتي قبل موعد العمل لمكتبه يتأمل الملفات ويقرأ ويبقى في مكتبه بعد أن يرجع كافة الموظفين وكذا كم من إداري ينجح أعمال شركته أو قسمه.. وكم من طبيب ومن أستاذ يقوم بمهمة التعليم فيعلم ويتطوع ليعلم مجانا في ساعات إضافية وكم من باحث وهب حياته للعلم يكتب ويؤلف!
من عوائق العمل الجاد:
ثمة عوائق كثيرة تمنع الفاعلين من العمل ابتداء أو الإصرار على العمل؛ وهي أضداد الصفات التي ينبغي أن تتوفر في العاملين الجادين وأضداد كل ما يساعد على العمل الجاد؛ ولعل أبرزها:
- فقدان الثقة بالنفس:
إذا فقد المرء الثقة بنفسه، فلا يبدع مطلقا وسيظل جاثما في مكانه قابعا في برجه، فالثقة تعطي دينامية في العمل الجاد، وتضفي عليه مسحة من الحيوية والإشراقة بالمستقبل المزهر.
- الأنانية الجامحة:
حين يصاب المرء بالأنانية الجامحة فإنها تصده عن التعاون وعمل الفريق وجودة العمل؛ لأن هاجس السبق والإكثار يراوده ويستبد به فلا يسفر عن عمل جاد وفق المعايير المطلوبة. لأن الأنانية هي التي تجعله يدفع الثمن!
- عدم القابلية للتغيير:
إن من تنمطت شخصيته وتصنمت لا يمكن أن يعمل ويبدع في عمله؛ لأن من لم يتطور يتدهور، ولم لم يتجدد يتبدد، والماء الذي لا يجري يأسن! والتغيير يبدأ بتغيير البيئة الخاملة والصحبة المثبطة والانسلاخ من البطالة والانتقال ولو بخطوة للتقدم والشروع في العمل وبدء المبادرة وإلا ستبقى دار لقمان على حالها! وكونك يا أخيا تبقى في نفس البيئة لمدة طويلة جدًّا فمن شأنه أن يكلّس حسك الإبداعي، ويصعب عليك حينئذ التأقلم مع الشيء الجديد. واعلم بأن التغيير في أغلب الأحيان يقدم لك فرصا على طبق من ذهب، فرص الارتقاء وكشط قشرة الخمور من حياتك، والسمو نحو فرص العمل الجاد والابتكار والإبداع!
وأذكر أن علماء كانوا على عقلية جامدة ولما خرجوا من مألوفهم انفتحوا وتألقوا وكتبوا وكانوا على شيء بل إن الإمام الشافعي صار له مذهب جديد بأرض الكنانة حين ترك بيئة العراق ومذهبه القديم في العراق!
- عدم المخاطرة:
ذلك لأن كثيرا من الأعمال الجادة تقوم على شيء من المخاطرة والمغامرة في الحق حين تقتنع به؛ وهي لا تنفك عن التحمل والجلد من أجل جودة العمل واستمراره والإصرار عليه حتى يزهر وتكون له ثمرات على الواقع القريب أو الآجل.
واعلم يا أخيا أن كثيرا من الخاملين الذين لم تتغير أحوالهم ونوعية أعمالهم بسبب أنهم لم يملكوا القدرة على التغيير والاستعداد للمخاطرة واقتحام العقبة وبقوا على ما هم عليه فجمدوا وتثلجوا وصاروا كالصقيع الذي لا يعرف حركة إلا بالاستعداد للمغامرة بحرارة تذيب هذا الصقيع والجليد!
لو لم يتحرر الكبار ما لكان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه؛ فبفضل العمل الجاد والإصرار عليه والاستعداد للمخاطرة عند الاقتضاء كان التحول وكان التألق.. فالخائفون لا يتغيرون أبدا.
- الجهل بنوعيه:
الجهل نوعان: بسيط يتغلب عليه بالتعلم والدراسة، وجهل مركب معقد يجب أن يقنع نفسه أنه جاهل وهذا يحتاج لدراسة وممارسة للتغلب على مرض النفوس والعناد البارد، حتى يعرف قصوره ويعرف الطريق الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه للعمل النوعي والجاد.
ويتجاوز النوعين بمعرفة مهامه في العمل بالضبط ومحاولة إتقانها والتألق فيها والاسترشاد بالسابقين عليه من حيث الخبرة وعمق التجربة دون غرور ولا ازدراء!
- البيئة الخاملة:
باتت البيئة التي درج فيها العامل مؤثرة إيجابا وسلبا، ولما كانت السلبيات طاغية يجب تغيير هذه البيئة والبحث عن عاملين ناجحين ومتفوقين ومتألقين والمنافسة الشريفة معهم، والتطلع لقيم العمل وعوامل النجاح فيه والتميز!
- الحماسة الزائدة:
مما أسرني وأنا أقرأ للشيخ محمد الغزالي فيما خلفه من درر أنه يوما قال: "إن الشباب لا ينقصهم الحماس والإخلاص وإنما ينقصهم حسن الفقه وعمق التجربة" وعليه فكل العاملين في مختلف القطاعات والمؤسسات والعاملين في حقل الدعوة وطريق الدعاة يجب أن يتجاوزوا الحماسة الحمقاء والعاطفة مجرد العاطفة الجياشة، نحو التعقل والرزانة ورباطة الجأش والتؤدة والبصيرة، حتى نجمع بين الحماسة والعقل نحو الحماسة المتعقلة أو العقل المتحمس! وقال الشيخ الغزالي: "إن الحركة الإسلامية تتجني الشوك من أناس كثيري الحركة قليلي الفقه" والله المستعان!
الاعتماد على العمل أم رحمة الله؟
صدّر ابن عطاء الله السكندري حكمه البالغة بـحكمة "من علامة الاعتماد على العمل: نقصانُ الرجاء عند وجود الزلل".
إن الظاهر بناء على الآية التي صدّرتُ بها حديثي هنا أن يكون الاعتماد على العمل وأنت تخوض مخاضة الدنيا على اختلاف أحوالها وأوحالها، حتى لا تفرط في أسباب جعلها الله مفضية لا محالة للنتائج التي نصبو إليها؛ وهي لا تنفك عن فقه السننية التي لا تحابي أحدا!
ولكن المؤمن وهو يتراوح بين الرجاء والخوف ينبغي أن يتشبث في النهاية برحمة الله لا عمله؛ لأن العمل لا يوفي حقوق الله ونعمه مهما استنفذت من طاقتك، واستفرغت من قصارى جهدك، وقد صح الحديث أن الرحمة هي التي تدخلنا الجنة لا العمل؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: "لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وقارِبُوا، ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ: إمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدادَ خَيْرًا، وإمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ"[38]. وعن أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَدِّدُوا وقارِبُوا، واعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وأنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ أدْوَمُها وإنْ قَلَّ"[39].
إذًا من موقع العمل الجاد ومزيد من العطاء والإنتاج يكون الارتماء في أحضان الرحمة؛ فهي المخلص لا العمل وحده، لكن الذي ينبغي أن تفهمه أن تعليقك الآمال على الرحمة من دون تعاطي لأسباب العمل هو معطل للنصوص الشرعية على وفرتها التي تدعو للعمل وتضع له شروط القبول وهو ما تناولت بعضه مع جهد المقل والله من وراء القصد!
نحن على كل حال نُسأل عما نفعل ونعمل والذي لا يُسأل هو الله تعالى فقال: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23]. وقال سبحانه: (وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات: 24]. وكلنا سيقف بين يدي الله يوم القيامة نسأل عن أعمالنا فلا مناص!
ونسأل عن كل شيء؛ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله r: "لا تَزولُ قدمَا ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ حتى يسُئِلَ عن خمسٍ: عن عمرِهِ فيمَ أفناهُ، وعن شبابِهِ فيمَ أبلاهُ، وعن مالِهِ من أين اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وماذا عَمِلَ فيما عَلِمَ"[40].
والعمل لا يعطل وما كان ينبغي أن يعطل؛ بناء على ظاهر حكمة ابن عطاء الله؛ قال الله تعالى: (ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ) [النحل: 32].
ولكن ينبغي أن لا يغتر أحدنا وهو مغرق في العمل أن عمله هذا استقلالا هو الذي يضمن له الجنة وحجز مقعده من الجنة؛ بل المسلم هو المتمسك برحمة الله وكلما أدمن العمل أحس بالفقر المدقع إلى الله والحاجة الماسة إلى رحمته وعفوه وكرمه فلا مناص!
أجل رحمة الله رجاؤنا وهي من نصيب العاملين غير المغترين المحبين لله جل جلاله؛ قال سبحانه: (وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ) [الأعراف: 156].
واعلم يا أخيا أن عملك الجاد المطلوب منك قم به بإخلاص وعلم وأنت محب له؛ فهو المتنفس في طريق الرحمة ولا تعجب به فتغتر، أو تمن على الله بأنك قد عملت وقمت بالواجب كالروبوت الآلي؛ وهو معنى لطيف في قوله تعالى: (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) [المدثر: 6]. أي تضعف بعمله وتطلب الفردوس الأعلى انعتق من أسر البطالين الخاملين الذين يرفعون شعار الرحمة من موقع البطالة والفراغ من العمل.. فأرى هذا تعطيلًا للشرائع.. واعلم أن الدعاء المتمسك برحمة الله يحتاج للعمل من أجل أن يرفع إلى الله جل جلاله فيستمطر الرحمة؛ قال سبحانه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].
وحذاري إذا هديت للعمل الجاد بأصوله وقواعده وكثرته أن تمن على الله أو على أحد؛ قال سبحانه: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) [الحجرات: 17]. إذًا هو صاحب الرحمة وهو الداعي للعمل وهو الهادي للطريق فاعمل ولا تغتر واجعل الرحمة فوق العمل.. فلو أنك يا أخيا انغمست في رجاء الرحمة وعرفت معاني الرحمة لنسيت عملك مهما كان كثيرا.. وهو ما تهدي إليه حكمة ابن عطاء الله السكندري العميقة!
خاتمة:
أرجو من قرائي الأعزاء قراءة مقالي قراءة قاصدة ناضجة مثمرة؛ لتلوح الخيوط المتماسكة في هذا النسج والنسيج؛ لبناء صحيح، يمج الفوضى، ويرتقي بالنظرات الثاقبة، يستلهم الحكمة والرؤية الواضحة، ويبدد حوالك الشبهات وما ادلهم من بعض ضروب الخطاب الديني المتفكك، نحو وعي مقاصدي مختمر وعميق ومثمر!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- د. حسن يشو: أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة قطر وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
[1] ينسب لتوماس أديسون.
[2] أخرجه البخاري برقم (1429)، ومسلم برقم (1033)
[3] أخرجه مسلم (2664).
[4] الزيلعي في تخريج الكشاف: 1/91.
[5] تغيير اسم (أصرم) إلى (زرعة)، عن أُسَامَةَ بْنِ أَخْدَرِيٍّ، أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَه: أَصْرَمُ. كَانَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ r، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "مَا اسْمُكَ؟". قَالَ: أَنَا أَصْرَمُ. قَالَ: "بَلْ أَنْتَ زُرْعَةُ". أخرجه أبو داود برقم (4954).
[6] من كتاب "نظرية العمل في الفقه الإسلامي" لكاتب هذه السطور: 4، (غير مطبوع).
[7] أخرجه أبو داود برقم (4950)، وأحمد برقم (19054) وصححه الألباني في الصحيحة (1040)، وانظر الصحيحة (904)، الكلم الطيب (218).
إن هذه الأمة إن أرادت أن تستعيد هيبتها وكرامتها وأن تعيد مجدها وعزتها، فلابد لها أولا من أن تعلي همتها وتحيي عزيمتها، وإنما تعلو الهمم بأمور خلاصتها تخلية وتحلية.
[8] المرجع نفسه (غير مطبوع).
[9] أخرجه البخاري برقم (6369)، ومسلم برقم (2706).
[10] أخرجه البخاري برقم (1142)، ومسلم برقم (776).
[11] قال الإمام السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن): جمع في هذه الآية أحد عشر جنسا من الكلام: نادت – وكنَت - ونبهت – وسمت – وأمرت - وقصت - وحذرت - وخصت – وعمت – وأشارت - وعذرت، وأدت حق الله وحق رسوله وحقها وحق رعيتها وحق جنود سليمان" انظر الإتقان- المسالة السادسة والخمسون.
[12] أخرجه مسلم برقم (2699).
[13] أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718).
[14] أخرجه البخاري برقم (6689).
[15] أخرجه البخاري برقم (4777).
[16] أرسل أمير المؤمنين مناديًا ينادي في الأسواق ويقول يا بائعي اللبن لا تشوبوا اللبن بالماء، فتغشوا المسلمين ومن يفعل ذلك فسوف يعاقبه أمير المؤمنون عقابًا شديدًا.. فخرج ذات ليلة مع خادم له يدعى أسلم ليفقد أحوال الرعية بالليل، ثم جلس ليستريح بجوار أحد الجدران فسمع امرأة تقول لابنتها يا بنيتي هيا قومي فاخلطي اللبن في الماء، فقالت الفتاة لوالدتها يا أماه أما سمعت ما قاله منادي أمير المؤمنين اليوم؟
فقالت الأم لابنتها: وما قاله منادي عمر؟ فقالت الابنة: إنه أمر ألا يخلط اللبن بالماء، فقالت الأم لابنتها: يا بنيتي قومي فاخلطي اللبن بالماء؛ فإنك في موضع لا يراه عمر ولا منادي عمر، فردت الفتاة على والدتها: والله يا أماه ما كنت أطيعه في العلن وأعصيه في الخفاء، وإن كان عمر لا يرانا فإن الله سبحانه وتعالى يرانا.. لما سمع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هذا الحديث نادى خادمه وقال له يا أسلم ضع علامة على هذا الباب، وفي الصباح أمر أسلم أن يذهب ويستطلع أحوال تلك الفتاة وإن كان لها زوجًا أم لا، فعاد أسلم إلى نفس المكان وسأل عن أهل البيت، فعلم أن الفتاة هي أم عمارة بنت سفيان بن عبدالله بن ربيعة الثقفي، وتعيش مع والدتها العجوز ولا زوج لها.. وقد زوجها لأحد أبنائه فأنجبت سلالتها عمر بن عبد العزيز!
[17] أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718).
[18] أخرجه مسلم برقم (1955).
[19] صحيح الجامع برقم (1880).
[20] أخرجه البخاري برقم (6465)، ومسلم برقم (782).
[21] أخرجه البخاري برقم (1970)، ومسلم برقم (782) بنحوه، وأبو داود برقم (1368) واللفظ له.
[22] أخرجه البخاري برقم (1152)، ومسلم برقم (1159) باختلاف يسير.
[23] رواه البخاري برقم (39).
[24] أخرجه أبو داود برقم (2578)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) برقم (8945)، وأحمد برقم (26277) باختلاف يسير.
[25] أخرجه البخاري برقم (568).
[26] لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انظر زاد المعاد: 4/ 96.
[27] أخرجه الترمذي برقم (2380)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) برقم (6769)، وابن ماجه برقم (3349)، وأحمد برقم (17186)، وصححه الألأباني في صحيح الجامعة، والسلسلة الصحيحة برقم (2265).
[28] أخرجه مسلم برقم (2028).
[29] أخرجه البخاري برقم (5624) واللفظ له، ومسلم برقم (2012).
[30] أخرجه أبو داود برقم (3855)، وأحمد برقم (18477).
[31] أبو داود برقم (3855)، الترمذي برقم (2038)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) برقم (7553)، وابن ماجه برقم (3436)، وأحمد برقم (18454) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7934).
[32] أخرجه البخاري برقم (6412).
[33] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((قصر الأمل)) برقم (111)، والحاكم برقم (7846)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) برقم (10248).
[34] أخرجه أبو داود برقم (4829)، والطيالسي في ((المسند)) برقم (517)، وأبو يعلى برقم (4295) مطولا.
[35] أخرجه البخاري برقم (2101)، ومسلم برقم (2628).
[36] أخرجه البخاري (2101)، ومسلم (2628) باختلاف يسير، وأبو داود برقم (4829)، وأحمد برقم (19549) مطولا باختلاف يسير، وابن حبان (561).
[37] انظر تفسير السعدي للآية 120 من سورة هود.
[38] أخرجه البخاري (5673) واللفظ له، ومسلم (2816).
[39] أخرجه البخاري برقم (6464) واللفظ له، ومسلم برقم (2818)
[40] أخرجه الترمذي برقم (2416)، والبزار برقم (1435)، وأبو يعلى برقم (5271)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7299).