دور علوم الحديث في حماية السنة النبوية المشرفة
بقلم: الشيخ الدكتور تيسير التميمي (عضو الاتحاد)
كنت قد ذكرتُ في المقالات السابقة حول السنة النبوية المشرفة اهتمام العلماء بتمييز صحيحها من سقيمها والتثبت من صدورها حقاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من آثار ذلك ظهور علم الحديث ، وهو أحد العلوم التي تفردت بها الأمة الإسلامية ، ويمكن تعريفه بأنه العلم بالقواعد التي يُعرف بها حال الحديث سنداً ومتناً من حيث القبول أو الرد ، فغايته تنقية الأدلة الحديثية وتخليصها مما يشوبها ، وتتفرّع عن عِلم الحديث عُلومٌ كثيرة تنصبّ كُلّها على فهمِ الحديث النبوي وحفظه ومعرفة درجته ، فهُناك عِلمٌ يختصّ بدراسة درجات الحديث ، وهناك علم مُصطلح الحديث ، وعِلم طبقات الرجال أو ما يُعرف بعلم تراجم الرواة أي سيرة حياتهم ، وهناك عِلم الجرح والتعديل.
ويعتبر الإسناد من أبرز ملامح علوم الحديث ، ويعني نسبة القول إلى قائله ورفعه إليه ، ويمكن تعريفه بأنه ذكر طريق متن الحديث ، وطريق الحديث هو سنده ، وسند الحديث هو رواة الحديث الذين أوصلوا متن الحديث بالتسلسل واحداً عن الآخر حتى يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومتن الحديث هو ما ينتهي إليه السند من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره أو صفته ، وقد بدأ الاهتمام بالإسناد منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم ، فمثلاً هذا الصحابي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يرحل من المدينة المنورة إلى مصر ليسأل الصحابي عقبة بن عامر رضي الله عنه عن حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم عليه قال له [ حدِّثْنا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك ] ، فلما حدَّثه به ركب أبو أيوب راحلته وانصرف عائداً إلى المدينة وما حلَّ رحله ، وهذا أيضاً الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه بلغه حديثٌ عن صحابي بالشام سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستعظم جابر أن يفوته شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشترى بعيراً وشد عليه رحله وسافر مسيرة شهر حتى قدم الشام ، فإذا هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه ، فقال له جابر [ حديثٌ بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه ] فذكر عبد الله الحديث لجابر رضي الله عنهم جميعاً ،
أَكْرَمَ الله سبحانه وتعالى الأمة وشرّفها وميّزها بالإسناد في رواياتها للقرآن الكريم والسنة النبوية ؛ بل حتى في روايتها للتاريخ والشعر والأدب والتفسير والأنساب وسائر العلوم الإسلامية ، وليس لأحد من الأمم كلها إسنادٌ سواء في ذلك قديمها وحديثها ، فهو بذلك خصيصة فاضلة للأمة المحمدية ، وله موقع عظيم في الدين ، فبه تُصان أركانه ويُحمى من أكاذيب الوَضَّاعين والكذَّابين ، وقد نقل الخطيب البغدادي قول العالم الكبير عبد الله بن المبارك رحمه الله [ الإسناد عندي من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، ولكن إذا قيل له من حدّثك بَقِيَ ] أي بقي ساكتاً مُفْحَماً لا يجد جواباً ، وقال سفيان الثوري أحد كبار التابعين رحمه الله [ الإسناد سلاح المؤمن فإن لم يكن معه سلاح فبمَ يقاتل ] ، وكان التابعي الكبير ابن شهاب الزهري رحمه الله لا يحدّث حديثاً إلا بالإسناد ويقول [ لا يصلحُ أن يُرْقَى السطحُ إلا بِدَرَجِهِ ] ، إذن فلولا الإسناد واهتمام الْمُحَدِّثِيْن َ بِهِ لضاعت سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ولَاخْتلط بِهَا ما ليس مِنْهَا ، ولما استطعنا تمحيصها ،
ومن أصح أسانيد الحديث النبوي ما يطلق عليها السلاسل الذهبية لأنها من أوثق الأسانيد في كتب السنة جميعها ، وهي عديدة منها مثلاً : الشافعي عن مالك بن أنس عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر ، ومنها الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب ، ومنها ابن شهاب الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله ابن عمر ، ومنها أيضاً سليمان الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود .
وكثمرة لتلك العلوم فقد قسم العلماء الحديث النبوي عدة تقسيمات منها مثلاً من حيث حال الرواة ، ومن حيث عدد الرواة ، فمن حيث حال الرواة فالحديث ثلاثة أقسام هي الصحيح والحسن والضعيف :
فالحديث الصحيح هو ما اتصل سنده بنقل الراوي العدل الضابط ضبطاً تاماً عن مثله من أول السند إلى منتهاه وخلا من الشذوذ ومن العلل ، وينبغي توافر هذه الشروط جميعاً ليكون الحديث صحيحاً : فاتصال السند يعني سماع كل راو من الراوي الذي قبله بحيث لا يسقط ذكر أحد من الرواة من أول السند إلى آخره ، والراوي العدل هو الموثوق في دينه وصدقه وبعده عن الفسق والمعاصي ، والراوي الضابط هو الدقيق في حفظه القوي في ذاكرته منذ سماعه للحديث حتى تبليغه للرواة الناقلين عنه ، ويجب أن تتوفر هذه الشروط الثلاثة في جميع رجال السند ، والشذوذ في الحديث أن يروي الراوي العدل الضابط حديثاً يخالف به رواية من هو أحفظ منه ، أو يخالف رواة أكثر منه عدداً في متن الحديث أو سنده ، والحديث الخالي من الشذوذ يسمى بالحديث المحفوظ ، والعلة في الحديث هي شائبة أو عيب خفيّ في سند الحديث أو في متنه تمنع صحته مع أن الظاهر سلامته منها ، ولأنها خفية فلا يعلمها إلا العالم البصير النبيه من المتخصصين ،
ومن الأمثلة على الحديث الصحيح {حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ...} رواه البخاري،
ومن الأمثلة على الحديث الشاذ حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً {إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع عن يمينه} رواه أبو داود ، فقد خالف عبد الواحد بن زياد غيره من أصحاب الأعمش فرواه من قوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الحديث المحفوظ أي الصحيح أنه مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وليس من قوله ، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى [الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم الفعل لا الأمر به ، والأمر به تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه وهو ثقة]
ومن الأمثلة على الحديث المعلل أو المعلول في سنده مع صحة المتن ما رواه الثقة يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { البيعان بالخيار ... } ، فهذا إسناد متصل بنقل العدل عن العدل ولكنه معلل غير صحيح ، والعلة في قول يعلى : عن عمرو بن دينار والصحيح أنه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر .
أما الحديث الحسن : فهو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط ضبطاً غير تام عن مثله من أول السند إلى منتهاه وسلم من الشذوذ والعلة ، فالفرق بينه وبين الحديث الصحيح هو أن العدل في الحديث الحسن خفيف الضبط بينما في الحديث الصحيح تام الضبط ، ومن الأمثلة على الحديث الحسن حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } فمحمد بن عمرو بن علقمة من المشهورين بالصدق والصيانة لكنه لم يكن من أهل الإتقان .
والحديث الضعيف هو ما لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن ، وله أنواع كثيرة بحسب الشرط المختل فيه من شروط الحديث الصحيح ، وله بالتالي أمثلة كثيرة جداً ، فمن الأمثلة عليه رواية عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ } ، وعند البحث في سند هذا الحديث تبين ضعفه لأنّ فيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وهو ضعيف عند أهل الحديث كما ذكر الإمام الترمذي رحمه الله .
ومن حيث عدد الرواة في السند فللحديث ثلاثة أقسام هي المتواتر والمشهور وخبر الآحاد:
الحديث المتواتر: وهو أعلى درجات الصحة لثبوته القطعيّ ، ويمكن تعريفه بأنه الحديث الذي رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وضبطهم عن جماعة مثلهم من أول السند حتى يصل الرسول صلى الله عليه وسلم ، والأحاديث المتواترة قليلة العدد ، ومن الأمثلة عليها قوله صلى الله عليه وسلم { من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار } رواه البخاري
والحديث المشهور ما رواه ثلاثة فأكثر في كل طبقة من طبقات الرواية ما لم يبلغ التواتر ، وسمي بالمشهور لانتشاره بين الناس واستفاضته ، وقد يكون الحديث المشهور صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً ، ومن الأمثلة على الحديث المشهور الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم { إنَّ اللَّه لا يقبضُ العِلمَ انتزَاعاً ينتَزعُهُ من العبادِ ولَكنْ يقبِضُ العِلمَ بقَبضِ العُلماءِ ، حتَّى إذا لمْ يبقِ عالماً اتَّخذَ الناسُ رؤوساً جُهَّالاً فسُئِلُوا فأَفتَوْا بغيْرِ علمٍ فضَلُّوا وأضلُّوا } رواه البخاري ، ومن العلماء من يجعل الحديث المشهور من أقسام حديث الآحاد .
وحديث الآحاد هو وهو ما سوى المتواتر او فقد شرطاً من شروطه ، وقد يكون حديث الآحاد صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً ، ومن الأمثلة على حديث الآحاد الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } رواه البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الشيخ الدكتور تيسير التميمي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس