مدينة القدس المباركة محور معجزة الإسراء والمعراج
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي (عضو الاتحاد)
الحلقة الأولى: وبين يدي ذكرى الإسراء والمعراج الخالدة، الذكرى خلَّدها ربنا عز وجل في كتابه الكريم لتستذكر الأمة أحداثها وتستلهم دروسها وتعيش ظلالها ما تلت القرآن فقال سبحانه وتعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } الإسراء 1،
بين يدي هذه الذكرى أقول: إنها ذكرى رحلة معجزة نقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ، وجلّت له أمكنة وعوالم بعيدة في لحظات خاطفة ، وهذا ليس بمستغرب على القدرة الإلهية التي لا يتعاظمها شيء ويتساوى أمامها كل شيء ، فإن النبوة التي هي اتصال بالملأ الأعلى والتلقي عن الوحي ليست أقل غرابة من تلك الرحلة بل هي المعجزة الأولى ، وهذا ما دعا صاحبه أبا بكر لمقابلة استهجان قريش قصة الإسراء والمعراج بالتصديق المطلق قائلاً [إني لأصدقه بأبعد من ذلك ؛ أصدقه بخبر السماء]، ولهذا سمي رضي الله عنه بالصّدّيق.
ويقصد بالإسراء الرحلة التي أكرم الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى المبارك ببيت المقدس ، أما المعراج فهو ما أعقب ذلك من العروج به إلى طبقات السماوات العلا ثم الوصول به إلى حد انقطعت عنده علوم الخلائق من ملائكة وإنس وجن ، ثم الأوبة به إلى بيت المقدس ثم إلى بيت الله الحرام ، وكل ذلك كان في ليلة واحدة ، فمعنى الإسراء في اللغة هو السير ليلاً ، ومعنى العروج الصعود والارتفاع ، والمعراج هو المصعد او السلم، وهو اسم لما ارتقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلوغ منتهى هذه الرحلة العجيبة،
ولذلك فالإسراء والمعراج من المعجزات الباهرة التي أكرم الله عز وجل بها حبيبه ومصطفاه، وهذا دليل مكانته العظيمة الفريدة عنده سبحانه وتعالى، لم يكن هذا الإكرام فقط بنقله في هذه الرحلة الطويلة جداً والشاقة بهذه السرعة الخاطفة التي يصاحبها اليسر والسهولة ، بل الإكرام الأبلغ أنه صلى الله عليه وسلم في ضيافة إلهه وربه ومولاه ، فقد بلغ منزلة لم يبلغها أحد قبله من الرسل.
وللمرء هنا أن يتساءل: لماذا كانت رحلته إلى السماء من بيت المقدس ولم تبدأ من المسجد الحرام بمكة مباشرة وهي أحب البلاد إلى الله؟ قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة يوم الهجرة منها إلى يثرب {والله إنك لخير أرض اللَّهِ وأحب أرض اللَّه إلى اللَّه ولولا أني أخرجت منك ما خرجت} رواه الترمذي،
لقد رأى كثيرون من علمائنا ومفكرينا في ذلك دلالة باهرة واضحة على مدى ما للمسجد الأقصى المبارك من مكانة وقدسية عند الله تعالى.
ورأوا في ذلك دلالة واضحة أيضاً على العلاقة الوثيقة بين رسالاته التي ابتعث بها رسله عليهم الصلاة والسلام من لدن آدم عليه السلام وحتى الرسول الخاتم ، ورأوا فيه دلالة أخرى مهمة هي مدى ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ووقت من وجوب الحفاظ على هذه الأرض المقدسة وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدين ، وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهنوا ولا يجبنوا ولا يتخاذلوا أمام عدوان الاحتلال الصهيوني الغاشم على هذه الأرض المقدسة وأن يطهروها من رجسهم ويعيدوها إلى أصحابها المؤمنين ، ولعل واقع هذا المعنى هو الذي أهاب بصلاح الدين الأيوبي رحمه الله يستبسل هذا الاستبسال العظيم لتحريرها الذي كان في التاريخ ذاته ، فبذل كل جهده في سبيل صد الهجمات الصليبية عن هذه البقعة المقدسة حتى ردهم على أعقابهم خائبين.
إنها إذن مكانة القدس والمسجد الأقصى المبارك، فالقدس في وجدان الأمة وعقيدتها ليست كسائر المدن الأخرى، فقد فصّل الله سبحانه وتعالى مكانتها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المشرفة:
*فقد وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها أرض مباركة مقدسة في آيات عديدة منها على سبيل المثال:
1- قال تعالى عن سيدنا إبراهيم {وَنَجَّيْنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِى بَٰرَكْنَا فِيهَا لِلْعَٰلَمِينَ} الأنبياء 71، وهجرة سيدنا إبراهيم الخليل من العراق كانت إلى فلسطين.
2- وقال أيضاً: {وَلِسُلَيْمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِۦٓ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِى بَٰرَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَىْءٍ عَٰلِمِينَ} الأنبياء 81، قال العلماء كانت الريح تجري إلى أرض الشام وبيت المقدس.
3- وقال سبحانه عن حضارة سبأ في اليمن {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} سبأ 18، وعنى بالقرى التي بورك فيها بيت المقدس.
* ومن بركتها المعنوية ما اشتملت عليه من جوانب روحية ودينية، فهي مهد النبوات ومبعث الرسل الذين مشت خُطاهم على ثراها المبارك، واتخذوا المسجد الأقصى قبلة لهم ، وكل شبر فيها يحمل بصمات نبيّ وأصداء ملاك:
1- فبين أرجائها تنقل سيدنا إبراهيم وآله، وفي أرضها يرقد هو وبعض ذريته، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} هود 70، ومعلوم أن لوط يسكن فلسطين.
2- وفي قراها ومدائنها واجه لوط فحشاء قومه ، فحذرهم وأنذرهم ، فاستحقوا العذاب لإعراضهم وتماديهم ، قال تعالى واصفاً مصيرهم {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً من سِجيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} الحجر 74-76، فمدينتهم على طريق معروفة وآثارهم مرئية للمارين ، فمدائن لوط قرب البحر الميت.
3- وفي رحابها عاش آل زكريا وآل عمران أصفياء الله ، قال تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ} آل عمران 33، وولد لهم سيدنا يحيى عليه السلام ، قال تعالى { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } آل عمران 39.
4- وفيها نشأت مريم الصِّدِّيقة عابدة في محراب بيت المقدس، قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} آل عمران 37،
وبُشّرت بكلمة الله وعبده ورسوله سيدنا المسيح عيسى عليه السلام ، قال تعالى { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } آل عمران 45.
* وجاءت الإشارة إليها تلميحاً في عدة مواضع من كتاب الله تعالى:
1- أقسم الله بمنابتها قائلاً {وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ} التين1، قال المفسرون إن الزيتون هو جبل بيت المقدس ومسجدها.
2- قال أبو هريرة: الزموا هذه الرملة من فلسطين فإنها الربوة التي قال الله تعالى فيها: {وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} المؤمنون 50 .
3- وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } الحديد 13 ، السور سور بيت المقدس به باب الرحمة وخلفه وادي جهنم ، وهذا يرتبط بقوله صلى الله عليه وسلم { هي أرض المحشر والمنشر } رواه أحمد.
4- وقال تعالى { وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } ق41 ، ورد في كتب التفسير أن المنادي هو إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس.
فمدينة القدس بأسوارها ووديانها وصخورها نموذج مصغر للأرض التي سيجري عليها حساب البشر.
5- وفي قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } النور36، ورد أنها المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد قباء ومسجد رسول الله في المدينة والمسجد الأقصى المبارك.
6- وفي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ } البقرة 114 قال كثير من المفسرين هو المسجد الأقصى المبارك.
7- وفي قوله تعالى {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} الإسراء 7، أجمع المفسرون أن المسجد المقصود هنا هو المسجد الأقصى المبارك.
لكل ذلك استحقت هذه المدينة المباركة أن تكون جنة الدنيا وجنة الآخرة ، روى ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم: {من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس}، واعتبر صلى الله عليه وسلم الإحرام منها بعمرة تكفيراً لما تقدم من الذنوب ، فقد روت أم سلمة رضي الله عنها { من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ، فقالت أم حكيم رضي الله عنها : فخرجتُ من بيت المقدس بعمرة} رواه ابن ماجه.
فهل يمكن أن يرضى المسلمون اغتيالها أو استبدالها أو المساومة عليها؟ قد علم المسلمون جميعاً أنها ليست للفلسطينيين وحدهم، إنما هي للمسلمين كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ينافحون عنها بالغالي والنفيس لأنها جزء من عقيدتهم.