البحث

التفاصيل

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: (سورة الفاتحة)

الرابط المختصر :

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: (سورة الفاتحة)

بقلم: د. سلمان العودة

الحلقة: 2

سورة الفاتحة سورة عظيمة، يقرؤها المسلم أو يستمعها في اليوم الواحد بعدد ركعات الصلوات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم- كما في «الصحيحين» من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه-: «لا صلاةَ لمَن لم يقرأْ بفاتحة الكتاب».

وقد ذكر الشُّرَّاح أن معنى الحديث: أن يقرأ بها في كل ركعة من صلاته، فدل هذا على عظيم شأنها، وجليل قدرها، وأنه ينبغي تأمل معانيها، فلحكمة بالغة شرع الله تكرارها في الصلوات من بين جميع سور القرآن.

* تسمية السورة:

لها أسماء كثيرة، وكثرة أسمائها تدل على عظيم قدرها:

«سورة الفاتحة»: فقد سمَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب»، كما في حديث عُبادة رضي الله عنه المتقدِّم؛ وذلك لأنها أول ما يُقرأ من القرآن، فهي أول سورة مكتوبة في المصحف، وإن لم تكن أول سورة نزلت، ولهذا سمَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب».

وسمَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضًا: «أم القرآن»، فقال: «أمُّ القرآن هي السَّبْعُ المَثاني، والقرآنُ العظيمُ»؛ لأن معاني القرآن ترجع إلى مضمونها؛ فهي شاملة للمعاني الكلية، والمباني الأساسية التي يتكلم عنها القرآن.

وتسمَّى: «أم الكتاب»؛ لما ورد في رواية لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم: «﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: أمُّ القرآن، وأمُّ الكتاب، والسَّبعُ المثاني».

وإنما سُمِّيت بذلك؛ لأنها مشتملة على أصول التوحيد في القرآن؛ توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى ذكر المعاد والجزاء والحساب، والتحذير من طرق المخالفين لما عليه الأنبياء والمرسلون، ومنهم اليهود الذين غضب اللهُ عليهم، والنصارى الذين ضلُّوا عن سواء السبيل.

وخالف في ذلك الحسن البصري وابن سِيرين فقالا: «إن أم الكتاب هو: اللوح المحفوظ».

وقد جاء في قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 39]. وأم الكتاب هي: أصل الكتاب وجملته التي لا يدخلها محو ولا نسخ.

والذي ألتمسه- والله أعلم- أن أم الكتاب تكون في القَدَر، وتكون في الشرع، فأما في القَدَر، فكما ذكر اللهُ تعالى في هذه الآية: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 39]. أي: القَدَر الثابت الذي ينتهي إليه من شقاوة وسعادة أو موت وحياة ونحو ذلك.

وأما في الشرع فـ «أم الكتاب» هي التي لا يدخلها النسخ ولا التغيير، فالعقائد متفق عليها بين الأنبياء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه-: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياءُ إخوةٌ لعَلَّاتٍ، أمهاتُهم شتَّى، ودينُهم واحدٌ». فالدِّين- الذي هو العقيدة في الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر- لا يتغيَّر من نبيٍّ إلى آخر، بل هو باق محكم لا يُبَدَّل ولا يُنسخ.

وتُسمَّى: «السَّبْع المَثاني»، كما في الحديث المتقدِّم؛ وذلك لأنها سبع آيات تُقرأ مرة بعد مرة، وسُمِّيت بـ «المَثاني»؛ لأنها شاملة لمجملات المعاني المُفَصَّلة فيما سواها.

و«القرآن العظيم»، فقد سمَّاها بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «هي السَّبْعُ المَثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُهُ». وكما في الحديث المتقدِّم أيضًا.

وتُسمَّى: «سورة الحمد»؛ لأنها بدأت بحمد الله عز وجل في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

و«الصلاة»، كما في الحديث القدسي: «قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سألَ؛ فإذا قال العبدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. قال اللهُ تعالى: حَمَدَني عبدي. وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. قال اللهُ تعالى: أَثْنَى عليَّ عبدي. وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. قال: مجَّدني عبدي- وقال مرة: فوَّض إليَّ عبدي- فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سألَ. فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾. قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ».

فسمَّاها: «الصلاة»، إما لأنها ذكر ودعاء؛ فإن السورة فيها دعاء وتبتُّل إلى الله بأعظم مطلوب، وهو الهداية، وذلك في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فسُمِّيت السورة ببعض أجزائها وبعض معانيها، وهو الدعاء.

والدُّعاء في اللغة يسمى: صلاة، كما قال الله عز وجل: ﴿تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ﴾ [التوبة: 103]، يعني: ادْعُ لهم.

وقد قال الأَعْشَى:

تقولُ بنتي وقد قَرَّبْتُ مُرتحِلًا: *** يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصابَ والوجعا

عليكِ مثلُ الذي صلَّيْتِ فاغتمضي *** نومًا، فإن لجنب المرء مُضَّجَعَا

يعني: لك من الدعاء مثل الذي دعوت به لي.

أو سُمِّيت بذلك؛ لأنه لا تصح الصلاة إلَّا بها.

وتُسمَّى: «الرُّقية»، كما في قصة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب، وفيها أن سيِّد ذلك الحي لُدغ، فرقاه أحدُ الصحابة، فجعل يقرأ بفاتحة الكتاب وينفث عليه، فبرأَ، فلما ذكروا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ضحك، وقال: «وما أدراكَ أنها رُقيةٌ».

ولها أسماء أخر، كـ«الشفاء»، و«الوافية»، و«الكافية»، و«الأساس»، و «أم المحامد»، و«سورة الشكر»، وغيرها.

ويكفي في شرفها أنه لا يكاد يوجد مسلم في الدنيا إِلَّا ويحفظها، حتى إن الإنسان أول ما يدخل في الإسلام وينطق بالشهادتين يحفظ «سورة الفاتحة» قبل غيرها؛ لكي تصح صلاته، ولو أنه اقتصر عليها في الصلاة لكفته، فما زاد عنها فهو نفل مستحب، وليس بواجب.

* عدد آياتها: سبع آيات بلا خلاف، ومَن لم يعد ﴿بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

﴾ آية، فقد عدَّ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ آية.

* وهي مكية على قول الأكثرين، وهو مروي عن علي رضي الله عنه، والحسن، وأبي العالية، وقتادة.

وقيل: مدنية. وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه، ومجاهد، وعطاء بن يسار، والزُّهري.

ورُوي القولان عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل: نزلت مرتين، مرةً بمكة ومرةً بالمدينة؛ ولذلك سُمِّيت: مثاني.

وقيل: نزل نصفها بمكة، ونصفها الآخر نزل بالمدينة. قال ابن كثير: «وهو غريبٌ جدًّا».

والأظهر ما رجَّحه كثير من الأئمة أنها مكية؛ لأن الله تعالى مَنَّ على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ﴾ [الحجر: 87]. والمراد منها: فاتحة الكتاب، و«سورة الحجر» مكية بالإجماع.

ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حُفظ أنه كان في الإسلام صلاةٌ بغير ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

يدلُّ على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاةَ لمَن لم يقرأْ بفاتحة الكتاب».

وهذا خبرٌ عن الحكم، لا عن الابتداء.

* ﴿بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ﴾:

اختلف أهل العلم هل «البسملة» آية من «سورة الفاتحة»، أم آية من القرآن، أم آية من كل سورة؟

وكل سورة في القرآن تبدأ بـ ﴿بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ﴾، إلا «سورة التوبة».

* وفي هذه السورة خاصة قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فأعاد هذين الوصفين العظيمين لله تعالى.

وفيها ذكر خمسةٍ من أسمائه الحسنى، وهي: «الله»، «الرَّب»، «الرَّحمن»، «الرَّحيم»، «المَلِك».

* الله: وهو الاسم الأعظم، على قول بعضهم، وهو أكثر الأسماء ترددًا في القرآن والسنة، وعلى ألسنة المخلوقين بمختلف لغاتهم وألسنتهم، وهو الذي تُنسب الأسماء الأخرى إليه، فيقال: الله المَلِك، الله الخالق، الله العليم... ولا يشاركه في هذا الاسم غيره؛ فلم يتسمَّ به أحدٌ قطُّ، ولهذا قال سبحانه: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65].

الله الذي تألهه القلوب، أي: تحن إليه، وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتأنس بذكره، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «وأسألُك لذَّةَ النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك..».

ومن معانيه: أنه الذي تحار فيه العقول، فلا تحيط به علمًا، ولا تدرك له من الكُنْه والحقيقة إلا ما بيَّن سبحانه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تعلم كيفية ذاته سبحانه، ولا تحيط به؛ وإذا كانت العقول تحار في بعض مخلوقاته في السماوات والأرض، والبر والبحر، فكيف بذاته جَلَّ وعلا؟! فالعقل يرتد كَلِيلًا حَسِيرًا عن إدراك ذاته تعالى، ولهذا قال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110].

وفي حديث الشفاعة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فأستأذنُ على ربي، فيُؤذنُ لي، ويُلهمني محامدَ أحمدُهُ بها، لا تحضرُني الآن، فأحمدُهُ بتلك المحامد، وأَخِرُّ له ساجدًا..».

فأخبر أن الله يعلِّمه من المحامد ما لا يعلمها الآن، ويفتح عليه من العلم به آنذاك ما لم يكن لديه من قبل.

ومن معانيه: أنه الإله المعبود المتفرِّد باستحقاق العبادة؛ ولهذا جاء هذا الاسم في الشهادة؛ فإن المؤمن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: الله أكبر.

أُطلق هذا الاسم العَلَم الذي هو أصل لكل الأسماء الأخرى؛ إظهارًا للاعتقاد أنه لا معبود بحقٍّ إلا هو: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ [الحج: 62].

* الرَّب: فهو ربُّ العالمين، ربُّ كل شيء وخالقه والقادر عليه، لا يخرج شيء عن ربوبيته وكل مَن في السماوات والأرض عبد له، في قبضته، وتحت قهره، وهو متولِّي أمورهم وحياتهم وأرزاقهم، المتفضِّل عليهم.

* الرَّحمن: واسمه سبحانه: «الله» و«الرحمن» من الأسماء الخاصة به، لا يشاركه فيهما غيره، ولهذا قال سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110].

أما الأسماء الأخرى، فيُسمَّى أو يُوصف بها غير الله، كالرَّحيم، والسَّميع، والبَصير، كما قال سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وكما قال: ﴿إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ﴾ [الإنسان: 2].

والاسم يدل على صفة الرحمة لله سبحانه، وعظمتها وتقديمها، حتى ورد في «الصحيح» أن اللهَ خلقَ مئة رحمة، أنزل منها رحمةً في الدنيا، وادَّخر باقيها ليوم الحساب.

وجعل كتابه رحمة، وأرسل رسوله رحمة، وقال: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [الأعراف: 156]، وبدأ كتابه العزيز بهذا الاسم؛ تأكيدًا على استشعار الرحمة في العبادة وفي التعليم وفي الدعوة وفي الدعاء، وأن مَن خرج منها إلى أن يكون مغضوبًا عليه، فبسبب إمعانه في الغي وإعراضه عن الله.

* الرَّحيم: وهو مثل «الرحمن» في أصل الاشتقاق، واختلفوا في الفرق بينهما:

فقيل: «الرحمن»: رحمة عامة بجميع الخلق، و«الرحيم»: رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال عز وجل: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43].

وقيل: إن اسم «الرحمن» بالنظر إلى وجود الصفة، وأما «الرحيم» فبالنظر إلى متعلَّقها في الخلق، يعني: حصول أثرها في الخلق برحمته تعالى لهم، أشار إليه ابن القيم، فالله هو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

والأقرب أن «الرحمن» على وزن فَعْلان، صيغة مبالغة، تدل على الامتلاء والتناهي في التحقق بالصفة وعظمتها، وأما «الرحيم» فهي بصيغة فَعِيل التي تدل على التكرار، وأن هذه صفة دائمة، وليس هذا الاختيار ببعيد عما قبله.

وهاهنا ينبغي أن نتأمَّل سرًّا من أسرار تكرار هذين الاسمين؛ فإن الإنسان إذا أراد أن يقرأ أو يدخل أو يخرج أو يأكل أو يخطب أو يتكلَّم قال: «بسم الله الرحمن الرحيم».

وقد ورد: «كلُّ أمر ذي بال لا يُبدأ بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» - وفي رواية: بـ«الحمد لله» - فهو أَبْتَرُ، أو أَقْطَعُ، أو أَجْذَمُ». والمعنى: ناقص البركة.

لكن من المعلوم أن العبارة تقال هكذا: «بسم الله الرحمن الرحيم»، فلم يقل أحد من الناس قط: بسم الله المنتقم الجبار، أو: بسم الله العزيز الحكيم، مع أن هذا حق، وفي هذا إشارة إلى قوله عز وجل في الحديث القُدسي: «إن رحمتي سبقت غضبي».

على الإنسان أَلَّا يقنط من رحمة الله مهما أسرف على نفسه، قال تعالى:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وقال سبحانه: ﴿تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ﴾ [الحجر: 56]، وقال عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]؛

ولهذا كان اليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله من صفات الكافرين، فينبغي للمؤمن أن يتشبَّث أبدًا بطلب رحمته جَلَّ وعلا، وأن يعلِّم الناسَ الثقة برحمته سبحانه.

وكثيرًا ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه الرجاء فيما عند الله، وأن تكون ثقتهم بالله وبرحمته أعظم من ثقتهم بعملهم؛ فإن العمل قد يداخله الرِّياء أو العُجْب، أو لا يكون على وفق ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُرَدُّ على صاحبه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخِلَ أحدًا عملُه الجنةَ». قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللهُ منه بفضل ورحمة».

ينبغي أن يُدْعَى الناس- والعصاة بخاصة- إلى الله، بتذكيرهم برحمته، مع تذكيرهم بعقوبته، فالله عز وجل يقول: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾ [الحجر: 49- 50]. فقدَّم المغفرة والرحمة على العذاب، وجعلها صفة له، بينما عبَّر في الآية الأخرى عن عذابه بأنه أليم، ولم يصف نفسه بالمعذِّب أو الباطش أو المعاقِب.

وبعض الدُّعاة يفيضون في الحديث عن الوعيد والتشديد والتخويف والترهيب، إلى درجة تُحدِث أثرًا عكسيًّا، وهو تقنيط العصاة من رَوْح الله ورحمته، فيتملَّكهم اليأس، ويفقدون الأمل، فيتشبثون بما هم عليه من المعاصي، ويستغرقون فيها!

أما فتح أبواب الرجاء في القلوب فأسلوب قرآني عظيم يواجهك في مطلع أول سور القرآن الكريم، حتى إن الذي يريد أن يتكلم عن النار سيقول في أول حديثه: «بسم الله الرحمن الرحيم»، والذي يريد أن يتكلم عن الحدود الشرعية يبدأ بـ«بسم الله الرحمن الرحيم». فينبغي أن يُعطى هذا الحديث قَدْرَهُ عند الناس، ويُذكَّروا دائمًا بأن يتعلَّقوا بالله الرحمن الرحيم.

وأصول الأسماء الحسنى هي: «الله»، و «الرَّب»، و «الرَّحمن»، فاسم «الله» متضمِّن لصفات الألوهية، واسم «الرَّب» متضمِّن لصفات الربوبية، واسم «الرَّحمن» متضمِّن لصفات الجود والبر والإحسان.

فالربوبية من الله لعباده، والتأليه منهم إليه، والرحمة سبب واصل بين الرب وبين عباده، فبرحمته أرسل رسله، وأنزل كتبه، وبها رزق عباده وعافاهم وأنعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة.

* المالك: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾:

أي: يوم يُدان الناس بعملهم، ويجازون به خيرًا أو شرًّا، فبعدما اعترف لله قائلًا:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ زاد الاعتراف قوة وثباتًا بأن أثنى على الله بصفاته وأسمائه:

﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وفي قراءة سَبْعية:

﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ بالقصر بلا مد؛ وكلاهما جائز أن يُقرأ به في الصلاة.

وقد استفتح السورة بالحمد، وهو: الثناء على المحمود بإفضاله وإنعامه، أما المدح، فهو: الثناء عليه بصفات الجلال والجمال والكمال.

فالحمد: ثناء على الله تعالى بما أنعم عليك، وما أعطاك، فإذا قيل: إن فلانًا حمد فلانًا. فمعناه أنه شكره على إحسان قدَّمه إليه، لكن إذا قيل: مدحه. فلا يلزم أن يكون مدحه بشيء قدَّمه، بل قد يكون مدحه ببلاغته وفصاحته، أو بجماله، أو بقوته، أو بإحسانه لقوم آخرين.

وعليه، فالمدح أعم من الحمد؛ لشموله الثناء بصفات الجمال والجلال والكمال مطلقًا؛ فالحمد فيه معنى الشكر، ومعنى الاعتراف بالجميل.

وعبَّر ابن القيم عن ذلك، فقال: «الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجرَّدًا من حب وإرادة، أو مقرونًا بحبه وإرادته، فإن كان مجرَّدًا عن الحب والإرادة، فهو المدح، وأما الحمد، فهو إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه».

والحمد يتضمن الاعتراف، والاعتراف فيه معنى عظيم؛ لأنه إقرار من العبد بتقصيره وفقره وحاجته، واعتراف لله بالكمال والفضل والإحسان، وهو من أعظم ألوان العبادة؛ وقد يعبد الإنسان ربه عبادة المُدل المُعْجَب؛ فلا يُقبل منه؛ لأن الإعجاب لا يتفق مع الاعتراف والذُّل؛ فلا يدخل العبد على ربه من باب أوسع وأفضل من باب الذُّل والانكسار؛ بل هذا هو معنى العبادة المذكورة في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، تقول العرب: طريق معبَّد، أي: مذلَّل تطؤه الأقدام؛ فمن أعظم معاني العبادة: الذُّل له سبحانه.

كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الاعتراف لله تعالى على نفسه، فكان يقول: «اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي كُلَّهُ؛ دِقَّهُ، وجِلَّهُ، وأوَّلَهُ وآخِرَهُ، وعلانيَتَهُ وسِرَّهُ».

حتى قول: «اللهمَّ اغفرْ لي» فيه معنى الاعتراف على النفس بالذنب والنقص، والاعتراف لله تعالى بأنه هو الغفور الرحيم.

ونقيض الاعتراف: الإنكار والجحود؛ فالذنب الذي كفر به إبليس هو الجحود؛ فإبليس يعرف ربه، ويدعوه ويحلف به ويعرف البعث: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر: 36]، ولكن ذنبه الجحود والاستكبار عن الطاعة والعبادة، وهكذا قال عز وجل عن فرعون وقومه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ﴾ [النمل: 14].

فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ تبرَّأ من هذا كله، وكأن أول ما تدل عليه الكلمة: أن العبد وهو واقف يقول: أعترف بأنني عبد محتاج، فقير، ذليل، مقصِّر، وأنك الله ربي المنعم المتفضِّل، فهذا فيه معنى الحمد، إذ إن العبد يحمد ربه على فضله عليه في دينه ودنياه.

* ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾:

في هذه الآية أعظم المعاني؛ وهو الإقرار بالعبودية، وهو أصل التوحيد، الذي بُعث به الرسل: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ [هود: 26].

والشرك في الألوهية أخطر ألوان الشرك الذي بُليت به الأمم؛ لأن الاعتراف بالله خالقًا ورازقًا أمر تقر به الفطر والنفوس، وإن كان يحتاج إلى ترسيخ وتذكير؛ لأنه يستلزم الإيمان بالألوهية وصرف العبادة لله.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: تقديم الضمير إشارة إلى التخصيص؛ يعني: لا نعبد إِلَّا إياك، ففيها حصر وقصر.

﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: إثبات الاستعانة بالله، ونفي الاستعانة بمَن سواه، فلا نطلب إلا عونك؛ ولا نستعين بغيرك، ولا نستغني عن فضلك، فمن الناس مَن يستعين بغير الله، ومنهم مَن يستعين بالله وبغيره.

وهذه الآية التي بين الله وبين عبده، فمن العبد الدعاء والعبودية، ومن الله العون والقوة، حتى على العبادة، إذ ليس للعبد قدرة على تحول أو فعل إلا إذا استمد من ربه واعتصم به، ولهذا كان من قول أهل الجنة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: 43].

* ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾:

من معانيها:

1- ثبِّتنا حتى لا ننحرف أو نزيغ؛ لأن الإنسانَ يكون اليوم مهتديًا، وغدًا من الضالين، أي: ثبِّتنا على الصراط المستقيم.

2- قوِّ هدايتنا؛ فالهداية درجات، والمهتدون طبقات؛ منهم مَن يبلغ درجة الصِّدِّيقيَّة، ومنهم مَن يكون في أدنى درجات الإسلام، وبحسب ذلك تكون منازلهم في الجنة، وبحسب هدايتهم يكون سيرهم على الصراط؛ فإن لله تعالى صراطين: صراطًا في الدنيا، وصراطًا في الآخرة، والأمن على الصراط الأخروي، هو بقدر الاستقامة على الصراط الدنيوي.

والصراط الدنيوي هو: طريق الله سبحانه، كما في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (52) وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا﴾ [الشورى: 52- 53]، وقوله: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [الفتح: 2]، وهو بطاعة الله فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه.

وصراط الآخرة هو: الجِسر المنصوب على جهنم، وهو دَحْض مَزَلَّة، يمشي الناسُ فيه بقدر أعمالهم: فمنهم مَن يمرُّ كطَرْف العين، ومنهم مَن يمرُّ كالبَرْق، ومنهم مَن يمرُّ كالرِّيح، ومنهم مَن يمرُّ كالطَّير، ومنهم مَن يمرُّ كأَجَاويد الخيل والرِّكاب، ومنهم مَن يمشي تارة ويعثر أخرى.

وعليه فالمعنى: زِدْ إيماننا وعلِّمنا؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]؛ فالعلم من الإيمان، وكلما ازداد العبد التزامًا بالصراط المستقيم، ازداد علمه، كما قال سبحانه: ﴿ يخرس ألسنتهم ، من جهته - تعالى - فيقول : ( فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124]؛ فزيادة الإيمان هي زيادة ثبات على الصراط المستقيم؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [محمد: 17]؛ وكقوله عن أصحاب الكهف: ﴿ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾ [الكهف: 13].

وقد كتب الإمام الهروي «منازل السائرين إلى الحقِّ المبين»، ثم شرحه ابن القيم في «مدارج السالكين»، وهو تفصيل لمنازل الناس ومقاماتهم في سلوكهم إلى رب العالمين، فأعظم الهداية هي الهداية إلى الله، وحسن فهم أسمائه وصفاته والقرب منه، ودوام المناجاة، والسلامة من الجهل به، أو الغفلة عنه، أو نسبة ما لا يليق به إليه.

3- جَدِّد هدايتنا؛ إذ إن معنى الصراط المستقيم: أن يفعل العبد في كل وقت ما أُمر به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا يفعل ما نُهي عنه.

وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم ويعمل ما أُمر به في ذلك الوقت وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور، فهذا العلم المُفَصَّل والإرادة المُفَصَّلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله سبحانه في قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدي به في ذلك الصراط المستقيم.

وبصفة عامة، فالعبد يحتاج إلى هذه الهداية في جميع ما يأتي ويذر:

- من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو يحتاج إلى التوبة منها.

- وأمور هُدي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو يحتاج إلى إتمام الهداية فيها؛ ليزداد هدىً.

- وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل له في الماضي.

- وأمور هو خال عن اعتقاد فيها، فهو يحتاج إلى الهداية فيها.

- وأمور لم يفعلها، فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية.

- وأمور قد هُدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها، فهو محتاج إلى الثبات عليها.. إلى غير ذلك من أنواع الهدايات، فلما كان العبد محتاجًا إلى هذا كله، فرض الله سبحانه عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله مرات متعدِّدة في اليوم والليلة.

ولتحقيق الهداية لا بد من:

1- معرفة الموقف الصحيح، وماذا يريد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم منه في هذه المسألة، وما هو الصواب والأصح له في هذه القضية.

2- العمل وفق هذه الرؤية، ولا عمل دون وجود إيمان قوي في قلب العبد يحدوه إلى ذلك.

فحين يتلو العبد هذا الدعاء، فهو ينادي ربه قائلًا: يا ربنا، دُلَّنا على ما تحب وترضى في كل ما يواجهنا من أمور الحياة، ثم قوِّنا وأعنَّا على العمل بهذا الذي عرفناه، والذي دللتنا عليه وعلَّمتنا إياه.

وسر الانحراف يرجع إلى فقد أحد هذين الأمرين: العلم والعمل، والوقوع في ضدهما، وهما:

1- الجهل: فإن الإنسان قد توجد عنده الرغبة في عمل الخير، ولكن يجهل الطريقة لتحصيله، فيسلك طرقًا غير موصِّلة، ويجهد نفسه فيها بغير طائل، وكم من إنسان يسير بسرعة هائلة نحو هدفه، فيكتشف في نهاية المطاف أنه كان يسير في الاتجاه المعاكس، وأنه كان يسرع ويمعن في البعد عن ذلك الهدف!

وكم من المسلمين مَن يجتهد ويتعب في أعمال غير مشروعة، وهو يظن أنه ممن يُحسنون صنعًا، وذلك بسبب قلة العلم، فهو يسأل ربه ألَّا يبقى في ضلال الجهل متخبِّطًا على غير بصيرة.

2- الهوى: فقد يرتفع الجهل ويكون الإنسان عالمًا، ولكن ليس لديه العزيمة التي تجعله ينبعث للعمل، فيترك الواجب أو يرتكب المحرَّم عامدًا مع علمه بالحكم؛ لضعف الإيمان، وغلبة الشهوة وتعجل المتعة الدنيوية.

* ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾:

هذا تأكيد للمعنى السابق وتفصيل له؛ لأن القرآن مثاني، يُعاد معناه مرة بعد أخرى.

ونسب الصراط للذين حازوا الهداية التامة ممن أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا، فهم الذين سلكوه ولزموه وماتوا عليه، ومَن سلكه من بعدهم فقد تأسَّى بهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: 90].

﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾: والمغضوب عليهم: هم الذين عرفوا الحقَّ وتركوه، قال الله: ﴿ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا(60) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ﴾ [المائدة: 60]، ومنهم اليهود الذين عرفوا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه مرفوعًا: «اليهودُ مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالونَ».

ولكن الغضب ليس محصورًا في اليهود؛ فقد قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ [النساء: 93].

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن حلف على يمينِ صبرٍ؛ يقتطعُ بها مالَ امرئ مسلم، هو فيها فاجرٌ، لقي اللهَ وهو عليه غضبانُ».

وفي قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، قال: «إن اللهَ قد رضي عنك، وسَخِطَ على صاحبيكَ».

فالمغضوب عليهم لم يهتدوا إلى الصراط المستقيم، بسبب الهوى، فهم يعلمون ولا يعملون.

وقدَّم الله تعالى ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ على ﴿الضَّالِّينَ﴾؛ لأن أمرهم أخطر، وذنبهم أكبر، فإن مَن كان ضلاله بسبب الجهل، فإنه يرتفع بالعلم، وأما إن كان بسبب الهوى، فإنه لا يكاد ينزع عن ضلال.

ولهذا جاء الوعيد الشديد في شأن مَن لا يعمل بعلمه، حتى قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: «يُجاءُ بالرجل يومَ القيامة، فيُلقى في النار، فتَنْدَلِقُ أَقْتابُهُ في النار، فيدورُ كما يدورُ الحمارُ برحاه، فيجتمعُ أهلُ النار عليه، فيقولونَ: أيْ فلانُ، ما شأنُكَ؟! أليس كنتَ تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».

فهو عالم يعرف المعروف والمنكر، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكنه لا يعمل؛ ولهذا كان بهذه المثابة من العذاب.

أما الضالون: فهم الذين تركوا الحقَّ عن جهل وضلال، وربما طرأ عليهم بعد ذلك العناد والإصرار والتعصب، ومنهم كثير من النصارى الذين كذَّبوا عن جهل وضلال.

ومع أن المثل يُضرب بأهل الكتاب، إلا أنه كما قال حذيفة رضي الله عنه: «نِعْمَ الإخوةُ لكم بنو إسرائيل، إِنْ كانت لكم كلُّ حُلْوَة، ولهم كلُّ مُرَّةٍ، والله لتَسْلُكُنَّ طريقَهم قدر الشِّراك».

فلا يحسن أن يكون سَوق المثل صارفًا عن النظر في هذه الأمة، علماءً وحكامًا ودعاةً وعامةً، أين أصبنا وأين أخطأنا، وأين هُدينا وأين ضللنا، أما تزكية النفس باللسان والإمعان في الحال التي عليها الإنسان دون بصيرة ولا مراجعة ولا تقوى، فليست من خصال المهتدين.

إننا الآن أمام ثلاث طرق:

الأول: الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وطريقتهم مشتملة على العلم بالحق والعمل به، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [الصف: 9].

الثاني: طريق المغضوب عليهم، مَن يعرفون الحق ولا يعملون به.

الثالث: طريق الضالين الذين يعملون بغير علم، ولهذا قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: «مَن فسد من علمائنا، ففيه شبهٌ من اليهود، ومَن فسد من عُبَّادنا، ففيه شبهٌ من النصارى».

ونحن في كل قراءة للفاتحة نسأل الله أن يسلك بنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، وأن يجيرنا من طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، وفي كل مرة يحدث لنا تدبُّر جديد، يناسب الحال التي نحن عليها وما يطرأ من تحولات، ولكل حال هداية تختلف عن غيرها، وما يزال الحي متنقِّلًا بين الغنى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، والشباب والشيخوخة.. وفي كل مرة هو يسأل ربه الهداية الملائمة لحاله.


: الأوسمة



التالي
مفاتيح الرزق
السابق
تقديرا لمواقفه تجاه قضايا المسلمين.. الاتحاد يبعث برسالة شكر إلى السيد عمران خان رئيس وزراء باكستان

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع