البحث

التفاصيل

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان سورة ق

الرابط المختصر :

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:

(سورة ق)

الحلقة الخامسة

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة


﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾:
القَرِيْن ذُكر في السورة مرتين، وهل هو القَرِين الرَّحماني أو القَرِين الشَّيطاني؟ هل هو قَرِين السُّوء أو المَلَك؟ والأقرب: أن مع الإنسان قَرِينين: مَلَكي، وشَيْطاني، كما في قوله:
﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [الزخرف: 36]، وقوله: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ [فصلت:25]، وفي الحديث: «ما منكم من أحد إِلَّا وقد وُكِّلَ به قَرِينُهُ من الجن». قالوا: وإِيَّاكَ يا رسولَ الله؟ قال: «وإِيَّايَ، إِلَّا أن اللهَ أعانني عليه فَأَسلمَ، فلا يَأْمُرُني إِلَّا بخير».
والمقصود هنا: المَلَك؛ لقوله: ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ أي: حاضر مهيَّأ، وهو يشير إلى صحيفة أعمال صاحبه، وهو قول الحسن وقتادة والضَّحاك.
* ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾:
أي: شديد العِنَاد، لا يلين ولا يستسلم للحجة، والمخاطَب مفرد على الظاهر، وهذا جارٍ على قواعد اللغة، كما في قول امرئ القَيْس:
خَليلَيَّ مُرَّا بي على أُمِّ جُنْدَبِ *** نُقَضِّ لُبَاناتِ الفُؤادِ المُعذَّبِ
وقوله:
قِفا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ
وهو كثير في الشِّعْر، وقد يقول الشاعر بعدها: يا صاحِ.. أو يا صاحبي.. مما يدل على أن المخاطَب مفرد.
ويجوز أن يكون المخاطَب مثنى، وهما ملكان؛ إما السائق والشهيد- وقد مر ذكرهما- أو غيرهما.
* ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ﴾:
﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ﴾: يمنع الخير عن الآخرين، وقد يمنع الإيمان ويحارب أهله، فهو ينهى عبدًا إذا صلَّى، ويحارب الضعفاء إذا أسلموا، ويحاول أن يُؤَثِّرَ على عقول الناس، ويحجز بينهم وبين الإيمان.
﴿مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ﴾: يعتدي على الناس، والوصف يشير إلى عموم العدوان اللَّفظي والحِسِّي، والمُرِيْب: مَن عنده رَيْب، أي: شكٌّ في نفسه، ويصيب الآخرين بالارتياب.

* ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾:
فهو مشرك مع الله، وهذه أفعاله التي دل عليها كتابه، وهذه عنواناتها.
﴿فَأَلْقِيَاهُ﴾ تأكيد للأمر الأول، وتحديد للدَّرْك الذي يستحقه، والعذاب الذي أُمروا أن يضعوه فيه.
* ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾:
﴿ قَالَ قَرِينُهُ ﴾: القَرِين الأول الذي قال: ﴿ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ هو القَرِين المَلَكي، والقَرِيْن هنا هو الشيطاني؛ حيث يتبرَّأ من صاحبه، كما في «سورة إبراهيم»: ﴿ طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾.
فهذا القَرِيْن يدافع عن نفسه، ويقول: لست أنا الذي حملته على المعصية والطغيان، ولكن هو الذي اختار ذلك، و ﴿كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾.
والموقف صعب، والخَطْب جَسيم، والنَّكال مُخيف، ولا أحد يريد أن يتحمل وزر أحد، حيث ﴿ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [عبس: 34- 36]، ﴿ رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [المعارج: 13]، و﴿ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ﴾ [الدخان: 41]، فيتبرَّأ الزعماء والقادة والكُبراء من أَتْباعهم، والعُبَّاد من معبوداتهم، والمعبودات من عابديها، والجنُّ من الإنس، والإنس من الجنِّ، وينفصل كلُّ أحد عن كل أحد، و﴿ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [الانفطار: 19].
* ﴿قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ﴾:
﴿قَالَ لا تَخْتَصِمُوا﴾: ليس هذا وقت الخصومة، ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ﴾ في الدنيا، كما نقرأ الآن ونحن في الحياة الدنيا، وهو تعالى يخبرنا بهذا الأمر الآن، وكأننا نرى المشاهد عَيانًا؛ لنعتبر ونضع أنفسنا في ذلك الموقف، وندرك ما يتوجَّب علينا فعله قبل حلول العذاب.
* ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾:
أي: هذا إلى الجنة، وهذا إلى النار، وكل إنسان يُجزَى بعمله.
هذا هو المعنى، وهذا لا يمنع ولا يعارض أن يرحم الله من عباده مَن سيغفر لهم من أصحاب الكبائر مما دون الشرك.
وكذلك لا ينفي هذا أن ينسخ حكمًا من الأحكام، كما في قوله سبحانه: ﴿النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ﴾ [البقرة: 106].
وفي قصة الإسراء أُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بخمسين صلاة، وخُفِّفت حتى أصبحت خمسًا، ثم قال الله تعالى: «أمضيتُ فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي، وأَجْزِي الحسنةَ عشرًا».
وفي رواية: «إنه لا يُبَدَّلُ القولُ لديَّ، كما فرضْتُهُ عليك في أُمِّ الكتاب، قال: فكلُّ حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسونَ في أُمِّ الكتاب، وهي خمسٌ عليكَ». فهذا هو القول الأخير الذي استقر الأمر عليه، ولا نسخ بعده.
﴿وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾: فهو تعالى أدخلهم النار بذنوبهم، وبعدما قامت عليهم الحُجَّة، ولو أن الله عاقبهم قبل أن تصلهم الحُجَّة ودلالات الرسالة لكان ذلك ظلمًا، وهو تعالى يقول: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، فهو نفي للظلم كله، كثيره وقليله، ولذلك قال سبحانه: «يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلْتُه بينكم محرَّمًا، فلا تظالَمُوا».
والبيان هنا ظاهر في السياق في قوله: ﴿ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ﴾، وآيات القرآن تنضح بهذا المعنى المهم الذي يقتضي مراعاة قيام الحُجَّة، وبلوغها على وجه يزيل المعذرة، وقد لا يحيط بهذا إلا الله، كما في قوله: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص:59]، وكما في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ﴾ [سورة الإسراء:15]، وكما في قوله: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾ [الأنعام:130].
* ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾:
القول هنا على سبيل التوبيخ والإهانة لأصحابها المستحقِّين لها، وتقول هي بلسان الحال أو بلسان المقال، والله تعالى على كل شيء قدير: هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾.
والله تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الفرقان:12- 13]، وقال: ﴿وان خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو ما ملكت أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ﴾ [الملك:6- 8].
فلا مانع أن يجعل تعالى لها يومئذ الإدراك والكلام، فكل الكائنات مسخَّرة بأمره، مذلَّلة لحكمه، ولا غرابة أن تسمع وتفهم، وترد وتقول، فهذا شأن مَن لا يعجزه شيءٌ، ومَن جعل الإدراك في البشر، وهو خلقهم أصلًا من تراب جامد لازب.
وسؤال النار سؤال يتضمَّن التقرير، فيكون المعنى: امتلأت ولا مزيد، أو هو بمعنى: طلب المزيد، وهو أقرب، كما دلَّت على ذلك السنة المطهَّرة؛ أن يُلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد، والله أعلم.
* ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾:
في مقابل المشهد المُخيف من العذاب، وصورة الملائكة وهي تأخذ الكافر العَنِيد، وتُلقيه في سواء الجحيم، يصوِّر تعالى الجنة وقد أُزْلِفت.
والإِزْلاف: التقريب للطائعين والمؤمنين، فلا يحتاجون أن يسيروا إليها مسافات طويلة، والجنة مكانها معروف، ولكن الله تعالى يزلفها بحكمته دون أن يتجشَّموا عناء المشي، وهذا من أمور الآخرة التي على المؤمن أن يسلِّم بها ولو لم يتصوَّرها عقله، ونحن نرى في فعل البشر اليوم من التسهيلات التي لم يخطر ببال أحد من السابقين، فما ظنك برب العالمين الذي لا يعجزه شيء؟
* ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾:
أي: هذا هو الوعد ترونه أمامكم.
والله تعالى قد يؤخِّر «وعيده»، أو يعفو ويغفر لمَن يشاء، أما «الوعد» فهو ماضٍ نافذ.
قال عامر بن الطُّفيل:
لا يُرهِبُ ابنَ العَمِّ منِّيَ صَوْلَةٌ *** ولا أَخْتَنِي مِن صَوْلَةِ المُتَهَدِّدِ
وإنِّيَ إن أَوْعَدْتُهُ أو وَعَدْتُهُ *** لمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوعِدي
فالله لا يخلف الميعاد: ﴿ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ [الأحقاف:16]، أما الوعيد على بعض الموحِّدين، كأصحاب الكبائر فقد ينفذه تعالى، وقد يعفو ويصفح، وهذا لا يدخل في ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ﴾، فإن هذا من «القول» من قوله سبحانه: ﴿ طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ ﴾ [النساء:48]، وقد يغفر للمؤمن المفرِّط وينجو من العذاب؛ إما برحمة أرحم الراحمين، أو بشفاعة المرسلين، أو بشفاعة الملائكة، أو بشفاعة إخوانهم، أو ببلايا ومصائب سلفت، أو بسكرات الموت، أو بأهوال يوم القيامة، أو بالكفارات، أو بما يشاء الله عز وجل.
والأَوَّاب هو: الرَّجَّاع إلى الله كلما أخطأ، أما الحَفِيْظ فهو: الذي يحفظ إيمانه من الذنوب، ويحفظ عهد الله وميثاقه.
* ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾:
﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ مثل قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [الملك: 12]، وهو يشمل خشية الله في الخلوة حين لا يكون بمَرْأَى من الناس، وهو أدل على التقوى والإخلاص، ويشمل خشية الله مع أنه تعالى غيب لم يره، ولكنه آمن به من الخبر الصادق على ألسنة رسله عليهم السلام.
التفصيل في إثبات الغيب يزيد الإيمان، فإن الإيمان يزيد وينقص، ومن زيادة الإيمان: الإيمان بالتفصيل، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [التوبة: 124].
الإيمان المُفَصَّل أقوى وأعظم تأثيرًا في النفس، وأبعد عن أن ينساه العبد، وأبعد عن الشبهات، يزيد يقينًا بوجوده؛ لأنه يدرك أنه صار عالمًا مشهودًا لغيره، وإن كان لا يزال عالمًا غيبيًّا، فالقياس هنا مع الفارق.
﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾: الإِنَابَة هي: التوبة والإقبال على الله، كما في قصة داود عليه السلام: ﴿لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ۝ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ﴾ [ص:24]، والقرآن الكريم كثيرًا ما يذكر «الأَوْبَة»، و «الإِنَابَة»؛ مما يشير إلى أن من طبيعة الإنسان أن يتفلَّت قلبه، ويقع منه زلل في سمعه، أو بصره، أو لسانه، أو في فرجه، وكما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «استقيمُوا ولن تُحْصُوا». وفي الحديث الآخر: «سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشيءٌ من الدُّلْجَة، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغوا».
وهي توجيهات نبوية بضرورة الاعتدال، وأن على المرء أن يعرف نفسه وتكوينه وطبيعته، فربكم أعلم بكم، كما قال سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا ۝ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ۝ لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ﴾ [النجم:32].
* ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ۝ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾:
وفي السياق تناسق عجيب! ثمان فقرات في غاية التناسق:
بدأت بقوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾، فهذه هي الكرامة الأولى؛ حيث أُدنيت لهم الجنة.
ثم ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾، فهذا النعيم هو الوعد الحق الذي وعدكم تعالى به في الدنيا.
ثم بيَّن لهم ثالثًا أن هذا من فضل الله، وببركة أعمالهم، وفي ذلك إشادة بهم وتكريم ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾.
ثم قال لهم: ﴿ادْخُلُوهَا﴾: ويا لفرحتهم بهذا الفوز والتكريم.
ثم قال لهم خامسًا: ﴿بِسَلامٍ﴾، فدخولهم هو نهاية الآلام والمعاناة إلى السَّلام المُطلق، فالله يسلِّم عليهم، والملائكة تسلِّم عليهم، وأصحاب الجنة يسلِّم بعضهم على بعض.
ثم قال لهم سادسًا: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾، فخلودهم أَبَدْي سَرْمدي، ليس ثمة خوف من الموت، كما كان الأمر في الدنيا، والجنة وأهلها خالدون بإجماع المسلمين، بلا تحول ولا زوال.
ثم قال لهم سابعًا: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا﴾ من الرزق، وكل ما يخطر على البال، أو يمر في الخيال.
ولهم الكرامة الإلهية بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع حديثه، وما في الجنة من ألوان النَّعيم الذي لا تحيط به عقول أهل الدنيا، فهذه ثامنة الفقرات المتتابعة المتصاعدة في الفضل والنعيم، عبَّر عنها بقوله: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾، والفضل الإلهي: «ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر».
والمَزِيد هنا يشبه ما في «سورة يونس»: ﴿النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم﴾ [يونس:26].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا﴾:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي﴾ ممن سلف وذُكر، ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي: أقوى من قومك العرب أهل مكة وما حولها بأجسامهم، ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا﴾: إما أن هذه الأمم التي أهلكها سبحانه كانوا إذا نزل بهم العذاب ذهبوا يبحثون عن مهرب أو ملجأ من عذاب الله، فلا يجدون، فالله تعالى يقول لقريش الذي عُرف عنهم رحلة الشتاء والصيف وكثرة التنقل: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا﴾؟ هل من مهرب من عذاب الله عز وجل؟ وهو كقوله سبحانه: ﴿زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا﴾ [الأنبياء:12].
* ﴿ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾:
هذا الوصف البَلِيغ الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله ذكرى ﴿ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ ﴾، وفيه تحريض على التَّذَكُّر، وإحياء القلوب، وتعريض بذلك النوع من البشر الذي لا يعتبر بما حوله من آيات ونُذُر، ولا بما حكاه الله في كتابه من عبر ومآلٍ للغابرين، فكأنه حين لم يعتبر، ولم يتأثَّر صار بلا قلب، والقلب ولو كان ضعيفًا أو مريضًا، فإنه قد يحيا ويعتبر بالآيات والنُّذُر، وقد تكون سببًا في هدايته ورجوعه إلى الله؛ لكن إذا كان بلا قلب فأي حيلة فيه، والعبرة ليست بوجود هذه المضغة، وإنما بتوظيفها في الاعتبار والإنابة.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ﴾: صوَّر «السَّمْع» بأنه شيء يُلقى؛ بحيث لا يصرفه شيء عن «الاستماع»، ﴿رَقِيبًا﴾ أي: حاضر.
وهذا دليل على عظم تأثير «الصورة» مع «السمع»؛ حيث ذكر «القلب» المعبِّر عن الوعي واليقظة، ثم ثنَّى بذكر حاسَّة «السمع» مع «الشهادة»؛ وهي المشاهدة والرؤية، والناس اليوم يقولون: حدَّثني وسوف أنسى، أرني وقد أتذكر، أشركني وسوف أحفظ، فإذا كان ثمة شراكة بين الصوت والصورة، بين الأذن والعين، فإن الإنسان لا ينسى!
فمتى سمع بأذنه، ورأى بعينه، أو تخيَّل ما لا يمكن رؤيته؛ كان ذلك من الذِّكْرى الحسنة له، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «الإحسانُ: أن تعبدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراكَ».
* ﴿وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ﴾:
عود على ما ذكره أول السورة من الدعوة للاعتبار بالسموات والأرض؛ لتأكيد المعنى، ولنفي الشبهة التي قالها اليهود، وربما تسلَّلت إلى بعض الوثنيين من العرب؛ وهي أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح يوم السبت، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾ أي: ما أصابه تعالى عجز أو تعب بسبب الخلق؛ لأن فعله ليس معالجة، كما يحدث من البشر الذين يعملون بأيديهم ويتعبون ويَجْهَدُون، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس:82].
واللُّغُوب هو: أقل درجات التَّعَب، ونفي القليل يتضمَّن نفي ما فوقه.
* ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾:
﴿أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ﴾ عن الله، أو عن البعث، أو عنك بوصفك:
﴿سحر﴾، ﴿َمْوَالَهُمْ﴾، ﴿كَذَّاب﴾، وقد أعطاه الصبر والثَّبَات والاستمرار على الطريق؛ وهي التسبيح، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا﴾ [الحجر:97- 99].
وقد علم تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بما يقولون؛ من وصفه بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون، أو أنه يكتتب أَساطير الأولين، أو يريد المجد أو المُلك أو المال أو العلو في الأرض، فهذا أمر مؤلم ومؤذٍ لنفس طاهرة زكيَّة كريمة، لا تَحْمِل للناس إلا الخير والجميل، وأشد ألمًا منه حرمانهم أنفسهم من الخير والإيمان والتصديق، وإصرارهم على التكذيب، وتأثيرهم على البُسطاء والدَّهْمَاء من الناس؛ بالدِّعايات المزيَّفة، والأقاويل المزخرفة التي يروِّجونها ويردِّدونها حتى يتناقلها العامة، ويتظاهرون بتصديقها، كما يحدث في الحملات الإعلامية الموجهة المُغْرضة التي تستهدف شخصًا أو جماعة.
﴿أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ﴾: فربك يعلم ما يقولون ويطَّلع عليه، ويوصيك بأن تصبر عليه، وإذا تصبَّرت فإن الله سيزيدك صبرًا ويثبِّتك، فلا يقع لقلبك ضعف أو تأثر أو حزن يصرفك عن تبليغ رسالات الله تعالى.
والصَّبْر ضروري للنجاح في الحياة كلها، وبخاصة مَن يخالط الناس ويدعوهم، ويحاول تغيير سلوكهم وواقعهم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «مَن يتصبَّر يُصَبِّره اللهُ، ومَن يستغن يغنه الله».
وقد أمر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالصبر في مواضع كثيرة، كقوله:
﴿ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [المزمل: 10]، وقال: ﴿ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ﴾ [المعارج: 5- 7]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم ﴾ [الكهف: 28]، وقال: ﴿ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ [النحل: 127]، وقال: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، وقال: ﴿ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ [مريم: 65]، وقال: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132].
والداعية الذي لا صبر له لا يمكن أن يستمر على دعوته، ولا شيء يُقَوِّي صبر المؤمن مثل أن يستمد العون من ربَّه؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾ [يونس: 99]، وقال سبحانه: ﴿ وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ﴾ [الغاشية: 22]، فوظيفة الرسول تتلخَّص في النَّذارة والتذكير والتبليغ، أما اهتداء الناس أو عدمه فهذا شأن ربِّ العالمين: ﴿ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31]، والمؤمن لشدِّة غيرته وفرط حماسه وإشفاقه يصيبه همٌّ شديد، ويحزن لما يجد حين يدعوهم إلى النَّجَاة، ويدعونه إلى النَّار، ويواجهونه بالكيد والحرب والتكذيب، فالله تعالى يسلِّيه ويعزِّيه، ويأمره بأن لا يحزن عليهم، ولا يضيق صدره بهم، ولا يبتئس بما يفعلون ويمكرون، وأن لا تذهب نفسه حسرات عليهم.
وهذا سرٌّ من أسرار المداومة على الطريق؛ فإن مَن غلبه اليأس والحزن والكآبة من فعل الناس، وتأثَّر بالصدمات التي تواجهه سَرْعان ما يستحسر ويضعف، ثم يتراجع ثم يتوقَّف وينكفئ، وينعزل وهو يرى أن لا فائدة في الإصلاح، ولا أمل في التغيير.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾: والتسبيح يمنح المؤمن طاقة هائلة، وكثيرًا ما يُوْصِي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح.
والتسبيح هو: تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وهي عبادة تنعكس على العابد نفسه، فكلَما نزَّهت الله وسبَّحْته كان ذلك تنزيهًا لنفسك من أدران الذنوب والعيوب، والنقائص والمعاصي، فترتقي إلى القدسية أو تقترب منها؛ ولعل المقصود هنا: الصلاة، بما فيها من قراءة الفاتحة التي فيها ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
فيكون المعنى: صلِّ لربك؛ لأن الصلاة يجتمع فيها القرآن والإحرام بالصلاة والذكر والتسبيح في الركوع والسجود والحمد في القيام، وما ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا﴾: صلاة الفجر، ﴿تُقْسِطُوا فِي﴾: صلاة الظهر والعصر؛ حيث يجمعهما وقت واحد؛ وهو ما بعد الزوال، ولذلك يجوز للمسافر والمريض والمحتاج جمع الصلاتين.
* ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾:
﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ﴾: فهذه صلاة المغرب والعشاء، فالآية جمعت أوقات الصلوات الخمس، مثل قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [الروم:17- 18]، ويدخل في الليل: التهجد والقيام الذي كان فرضًا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشروع لأمته.
﴿لَكُم مِّنَ﴾: الوتر، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
والفرق بين «أدبار السُّجود» المذكورة هنا، وبين «إدبار النُّجوم» المذكورة في «سورة الطُّور»: أن «إدبار النُّجوم» يعني: مغيبها، فيكون المقصود: صلاة الفجر؛ لأنها في آخر الليل، أما «أدبار السُّجود» فهو: جمع دُبُر، ودُبُر الصلاة: آخرها قبل التسليم، ويشمل ما بعد التسليم، فالأدعية التي تُقال دُبُر الصلاة منها ما هو قبل السلام، ومنها ما هو بعده مباشرة.
وهي دعوةٌ إلى النَّوَافِل التي تصلَّى عقب الفريضة، وكذلك صلاة الوتر التي أقلها واحدة، وأدنى الكمال فيها ثلاث، والسنة أن يجعلها إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، فإذا طال الوقت مَدَّ، وإذا قصر اقتصر وصلَّى العدد، فجَمَعَ الأمر: الصلوات الفريضة، والنوافل التي تكمِّلها وتجبر نقصها.
﴿مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾:
﴿مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فالأمر لن يطول، وإذا كنت تسمع منهم ما يؤذيك سماعًا عابرًا من غير قصد، فعليك أن تصيخ بأذنيك، وتلقى بسمعك، وتتحرَّى تلك اللحظة الموعودة الآتية بلا ارتياب؛ لحظة النَّفْخ في الصُّوْر.
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا﴾: قريب منكم، والمنادي هو المَلَك الموكَّل، وهي النفخة الثانية التي ترتدُّ بها الأرواح إلى أجسادها؛ لأن هذا هو المقصود الأكبر؛ أن يُبعثوا ويُحاسبوا ويُحاكموا ويفصل بينهم.
وقد يرد الوعيد عليهم بالصيحة الأولى؛ التي هي نفخة الموت والهلاك والدَّمار، ولكل منهما مناسبته.
فالمناسب للتعزية والتسلية ذكر النفخة الثانية؛ نفخة البعث والخروج، والمناسب للاغترار بالقوة والبأس وللتجبر والتكبر ذكر النفخة الأولى للهدم والدَّمار.
* ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا﴾:
ويوم الخروج أصبح علمًا على يوم القيامة، أي: خروج الناس من قبورهم.
* ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾:
فذكر الخلق الأول، ثم الموت، ثم البعث، وأنه شأن الله تعالى وحده.
والإنسان كان عدمًا، ثم أحياه الله، ثم يميته، ثم يبعثه ليوم القيامة.
* ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾:
﴿طِبْنَ﴾: فعل مضارع، أصله: «تتشقق»، ومن الإعجاز هنا الجمع بين «التشقق» الذي هو فعل تدريجي بخلاف «الانشقاق» فهو دفعة واحدة، وبين «السُّرْعَة»: ﴿شَيْءٍ مِنْهُ﴾، فهو تدرج سريع، يشبه ما يحدث من تشقق الأرض في الدنيا عن النبات، وتفتحها لخروج الزرع عقب المطر، فالناس ينبتون كما تنبت الحبة حين تتحوَّل إلى ورقة ثم شجرة.
﴿نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾: فمهما كثروا وعبروا القرون، وتآكلت أجسادهم، فالأمر هيِّن، وهو واقع لا محالة.
* ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾:
﴿جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ لك وما يضيق به صدرك، وما أمرناك بالصبر عليه،
﴿ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾: لا تجبرهم على الإسلام؛ فلا إكراه في الدِّين، وإنما الأمر دعوة: ﴿وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ [الغاشية:21- 22]، وأنت عبدٌ متواضع لربِّك، لست بمتكبِّر أو متعاظم، وهما معنيان متقاربان، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس بالحسنى، ويكره التَّجَبُّر، ولا ينتقم، ولا يغضب لنفسه.
والتَّجَبُّر مما يُعاب به، حتى ولو لحاكم أو وجيه، ولذلك قال قتادة رحمه الله: «إن الله كره لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم الجَبْرِيَّة». أي: أن يكون جَبَّارًا، وقال: ﴿جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ﴾، فكان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقِّع ثوبه، ويكون في مهنة أهله، ويعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، فكونوا كما أمركم نبيكم صلى الله عليه وسلم.
﴿فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا﴾ آخرها ياء المتكلم، أي: مَن يخاف وعيدي، ولكن يوقف عليها بالسكت.
وهكذا تنتهي السورة العظيمة التي جاءت في مساق واحد، وكانت موعظة بليغة مُزَلِزْلة مُجَلْجِلة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها في صلاة الفجر، وفي صلاة العيد، وعلى المنبر يوم الجمعة؛ لما فيها من أصول الدِّين العِظَام، ومن العبر والعِظَات.


: الأوسمة



التالي
المغربية “كوثر بوشالخت” أول نائبة محجبة في البرلمان الهولندي
السابق
إسطنبول.. عشرات الآلاف يودعون الشيخ الصابوني إلى مثواه الأخير

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع