البحث

التفاصيل

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: سورة الطور

الرابط المختصر :

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:

(سورة الطور)

الحلقة السادسة

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة

* تسمية السورة:

لها اسم واحد، وهو: «سورة الطُّور»، أو: «سورة ﴿وَالطُّورِ﴾».

وقد ورد في حديث أُمِّ سلمة رضي الله عنها أنها قالت: شكوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: «طُوفي من وراء الناس وأنت راكبةٌ». قالت: فطفتُ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلِّي إلى جنب البيت، وهو يقرأ: ﴿وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾.

وفي حديث جُبير بن مُطْعِم رضي الله عنه لما جاء إلى المدينة وهو مشرك في فداء المشركين بعد معركة بدر، ودخل المسجدَ، قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ في المغرب بالطُّور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿نَّ اللّٰهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَق۪يبًا ﴿١﴾ وَاٰتُوا الْيَتَامٰٓى اَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَب۪يثَ بِالطَّيِّبِۖ وَلَا تَأْكُلُٓوا اَمْوَالَهُمْ اِلٰٓى اَمْوَالِكُمْۜ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ كاد قلبي أن يطير. وأسلم رضي الله عنه.

* عدد آياتها: تسع وأربعون آية، أو ثمان وأربعون، أو سبع وأربعون؛ ثلاث أقوال لعلماء الحجاز والكوفة والبصرة.

* وهي مكية باتفاق المفسِّرين.

* ﴿وَالطُّورِ﴾:

يستفتح تعالى السورة بقَسَم، كما في «سورة الذاريات»، ولكنه في «سورة الذاريات» جاء بصيغة الجمع: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا﴾. فأقسم بالذاريات، والجاريات، والحاملات، والمُقَسِّمات، أما هنا فجاء بصيغة المفرد.

ولعل من الأسرار أن المقسَم عليه في السورة شيء واحد، فإنه قال في نهاية القَسَم: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾، في حين أنه أقسم في «سورة الذاريات» على أمرين، وهما: مسألة البعث، ومسألة العذاب الدنيوي، وأقل الجمع اثنان.

ويحتمل أن يكون أفرد القَسَم؛ لأنه أقَسَم بأعيان وليس بأشياء عامة، كالرِّياح مثلًا، فإذا أقَسَم بالرِّياح، فالقَسَم يعم ريح الصَّبَا والدَّبُور والجَنوب، وريح التلقيح وريح العذاب، لكن إذا أقْسَم بالطُّور، فلا يحتمل إلا شيئًا واحدًا، وهو جبل الطُّور الذي أقسم به في «سورة التين»: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم﴾، فهو طُور سِينين، أو طُور سَيْناء، وهو الجبل الذي كلَّم ربُّنا عز وجل عليه موسى عليه السلام.

* ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾:

قال بعضهم: هو التوراة، والألواح التي أُنزلت على موسى عليه السلام: ﴿نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: 154]؛ لأن التوراة مرتبطة بجبل الطُّور، فهي الكتاب الذي أنزله تعالى على موسى عليه السلام قبل أن يمسها التحريف، فإذا ثبت أن القَسَم هنا بالتوراة، فهو دليل على أن التوراة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل التحريف إلى لفظها، وإنما كانوا يحرِّفون معانيها، أما لفظها فكان ثَمَّ قدر من المحافظة عليه.

ولذلك لما حدثت نازلة زِنى المحصن عندهم، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدونَ في التَّوراة على مَن زَنَى؟». قالوا: نسوِّدُ وجوهَهُما، ونُحمِّلُهُما، ونُخالفُ بين وجوهِهِما، ويُطافُ بهما. قال: «فَأْتُوا بالتَّوراة إن كنتم صادقينَ». فجاؤوا بها، فقرؤوها حتى إذا مرُّوا بآية الرَّجْم وَضَعَ الفتى الذي يقرأُ يدَه على آية الرَّجْم، وقرأَ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبدُ الله بنُ سلَام- وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم-: مُرْهُ فليرفعْ يدَه. فرفَعَها، فإذا تحتها آيةُ الرَّجْم، فأَمَرَ بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِما.

ولا يمنع أن تكون بعض نسخ التوراة حرِّفت ونسخ أخرى بقيت محفوظة، فيكون القَسَم بالكتاب الذي أنزله سبحانه وليس بما عملته أيدي الناس.

ويحتمل أن يشمل جنس الكتاب، فيشمل الكتب السماوية: صحف إبراهيم وموسى، والقرآن الكريم، والله تعالى أقسم بالكتاب المبين، والقرآن المجيد، والقرآن الحكيم.

وهي إشارة إلى أهمية الكتاب المسطور وما فيه من العلم والهُدى والرحمة والحكمة والبيان والقدر والحجة؛ ولذا كان نزول القرآن أعظم حجة على الخلق؛ وتكفَّل الله بحفظه، مع أنه نزل في أمة أُمَّيِّة لم يكن لديها ضبط للكتابة، وسَمَّى الله القرآن: كتابًا؛ لأنه سيظل مكتوبًا منذ نزل إلى يوم القيامة، وسماه قرآنًا لأنه سيُحفظ في الصدور أيضًا.

ويتبع ذلك أهمية اقتناء الكتب النافعة، وأن يختار الإنسان الكتاب اختياره للصديق أو الزوج؛ لأن الكتاب رفيق تطول ملازمته ومصاحبته، وسواء كان كتابًا ورقيًّا أو مرقومًا على أقراص، فهو كتاب من حروف وكلمات وسطور يقرؤه الناس، وللكتاب الورقي أهمية باقية لا تغني عنها البرامج الأخرى، كما هو موضَّح في «سورة العلق».

* ﴿فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾:

الرَّق- بفتح الراء- هو: الجلد الذي كان يُكتب فيه.

وعادة ما كانوا يكتبون في الجلود الناعمة؛ لأن الكتابة فيها أحفظ وأضبط، والجلود لا تتلف مع الوقت، وكثير من الكتابات القديمة المحفوظة كانت على جلود، وبعض نسخ القرآن العتيقة منذ القرن الأول مكتوبة على جلد غزال، وهي محفوظة في المتاحف.

والمَنْشُور: المفتوح، وفيه معنى جميل، والكتب إنما يكون نشرها وفتحها بمثابة استنطاقها، فالكتب السماوية المنزَّلة من عند الله فيها الحق واليقين والعلم والإعجاز.

ومن هنا لا يوجد في كتابنا المعجز، ولا في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم شيء نستحي منه أو نداريه أو نكتمه أو نخشى أن يطَّلع الناسُ عليه، فهو منشور مكشوف.

وفيه إلماح إلى أن الدين ليس أسرارًا ولا طلاسم غامضة، وإنما يقتبس الناس منه بحسب أفهامهم وصفاء قلوبهم وسلامتهم من الهوى المسبق.

وإلماح ثانٍ إلى أن القول في المسائل الدينية لا يحسن أن يهجم عليه المرء دون بصيرة وعلم، فهي مسائل نقلية تُؤخذ من الكتب المنشورة من رب العالمين، والقول فيها بغير علم افتيات على الله سبحانه.

وإلماح ثالث إلى رفض الاتجاهات الباطنية التي تتواصى بحفظ وكتم أسرار المذهب عن العامة، وتلبس النص الإلهي معاني غريبة عنه ظاهرة التكلف، بيِّنة البطلان.

* ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾:

وهو في السماء السابعة، يسمَّى: الضُّراح، بضم الضاد، كما جاء عن علي رضي الله عنه.

والبيت المَعْمور جاء ذكره في «صحيح البخاري» عند الإسراء حينما قال: «فرُفعَ لي البيتُ المَعْمورُ، فسألتُ جبريلَ، فقال: هذا البيتُ المَعْمورُ، يصلِّي فيه كلَّ يوم سبعونَ ألف مَلَك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخرَ ما عليهم».

وهو بمثابة الكعبة في الأرض.

ويُحتمل أن يُراد بالبيت المعمور: الكعبة، فهي بيت معمور، والمقصود بعمارته أَلَّا يخلو من طائف أو راكع أو ساجد: ﴿نْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]، ﴿إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: 18]، وعمارته تكون بالتردد عليه وزيارته، وتكون ببنائه، وتوسيعه ونظافته وتطهيره، ولعل الآية تشمل كل بيت معمور لله، كالضُّراح، والكعبة ونحوها.

* ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾:

الأقرب أن المقصود: السماء، كما قال: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: 32]، فسماها سقفًا محفوظًا، وسقفًا مرفوعًا.

ورفعتها بحمايتها من الشياطين، وقداسة الوحي الذي ينزل منها، ورفعتها بأن فيها كل ما يتعلق بالعباد من الأرزاق والآجال وسائر المقادير: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ [الذاريات: 22].

ويلحظ أن القَسَم في هذه السورة ليس قَسَمًا بأشياء فيها منافع للعباد في الحياة الدنيا، كما هو الشأن في «سورة الذاريات»، بل هو قَسَمٌ بأشياء تتعلَّق بمصالح العباد في الدار الآخرة، فيتحصَّل من هذا وذاك أن مصلحة العباد تكون بحفظ دنياهم وحفظ دينهم، حتى الكعبة نفسها قال فيها سبحانه: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: 97]، يعني: قيامًا لمصالحهم الدينية ومصالحهم الدنيوية، ففيها من مصالح الدنيا الشيء العظيم.

* ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾:

﴿الْمَسْجُورِ﴾ أي: الموقد بالنار، كقوله تعالى: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [التكوير: 6]، وتقول: سجرت التنور، أي: أوقدته.

وهذا مروي عن جماعة من السلف، منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويحمل هذا على أن البحار تُوقد يوم القيامة فتكون نارًا.

ومن معاني ﴿الْمَسْجُورِ﴾: الممتلئ الممتد المُرسَل، بخلاف البُحيرات والأودية، فإنه ربما يزيد الماء فيها، وربما ينقص، وربما يجف، أما البحار فالماء فيها موجود أبدًا، فهذا من معاني ﴿الْمَسْجُورِ﴾.

وفي ذلك امتنان على الناس بهذه البحار، والقَسَم نفسه دعوة إلى التأمل والتدبر والاعتبار.

وبالنظر إلى ما سبق من كون المقسَم به هنا متعلِّقًا بأمور أخروية يترجح أن

﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ هو: الموقد بالنار يوم القيامة، كما قال: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [التكوير: 6]، ﴿وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الانفطار: 3].

* وجواب القَسَم: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾:

إنها كلمة مزلزلة مخيفة، وبداية الآيات وعيد بالعذاب، وقَسَم على أنه واقع، أي: سيقع لا محالة.

والكلمة لها وَقْع كبير على النفوس، أكثر مما لو قال: «لحادث»، وفيها تهديد شديد للمكذِّبين، وتضمَّنت رحمة الله ولطفه بالنبي صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين، نستشعر ذلك في قوله: ﴿رَبِّكَ﴾، فلم يقل: ﴿عَذَابَ الله﴾، فهو ربهم الرحيم:

﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [الملك: 29- 28].

﴿مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾: لا يستطيع أحدٌ أن يمنعه، ولا أن يرفعه بعد وقوعه أو يقاومه.

* أما متى ذلك؟ فلم يمهلهم أن يسألوا هذا السؤال كما هي عادتهم، بل باغتهم بالجواب فقال: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا﴾:

والمَوْر: الحركة والاضطراب؛ إشارة إلى ما يقع في السماء من زوال النجوم وتكوُّر الشمس وانخساف القمر وتشقُّق السماء لنزول الملائكة.

* ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾:

فالجبال الرَّواسي الكبيرة التي أقسم الله بواحد منها في أول السورة وهو «الطُّور» أصبحت تسير بعد أن صارت كثيبًا مهيلًا، أصبحت مثل السَّراب، تمر مرَّ السحاب.

* ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾:

والويل: وعيد وتهديد، يحمل على أخذ خبر الآخرة ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ﴾،

﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ﴾ بجدٍّ واهتمام، وأَلَّا تكون محلًّا للسخرية والاستبعاد والتشكيك.

وكثير من الجدل الذي يثار حولها ناتج عن عدم المبالاة، وعن الانخراط في المجريات اليومية والعادات المتبعة، وعدم الرغبة في الإيمان الذي قد يقمع النفس عن بعض ملذاتها، كما قال: ﴿وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن﴾ [القيامة: 5- 6].

* ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾:

فالحديث هنا عن المكذِّبين، وليس عن العصاة من المؤمنين أصحاب الكبائر؛ فليس المقام مقامهم، كما نصَّت الآية الكريمة.

﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾: فهؤلاء المكذِّبون يخوضون فيما لا يعلمون، ويلعبون ولا يتورَّعون عن تحويل القضايا الجديَّة إلى الهزل والسخرية؛ ولذا عبَّر أنهم في خوض، يقتحمون القضايا الكبرى دون تأمل ولا مسؤولية، وهم يلعبون في وقت الجد؛ ولذلك ذكر العلماء أن حكاية النكت والطرائف المتعلِّقة بالله تعالى أو بالقرآن أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالقيم الدينية لا يجوز بحال أن يتعاطاه الناس مسموعًا أو مكتوبًا.

* ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾:

والدَّعُّ هو: الدفع بقوة؛ لأنهم إذا رأوا النار أحسُّوا بلهيبها، وخافوا منها وكرهوها، فهم يتقهقرون إلى الوراء ويتمنَّعون، شأن أيِّ مجرم يُساق إلى ما لا يريد، فتدفعهم الملائكة في أقفائهم وتدُعُّهم دعًّا إلى هذا المصير.

* ومع هذا الدَّعِّ والموقف الصعب يُقال لهم: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾:

والخطاب دعوة للمشركين إلى أن يؤمنوا، حتى لو كان وعيدًا، إلا أنه دعوة إلى الإيمان؛ حيث جاءهم في الدنيا، وعُوجلوا به، وأُخبروا عنه قبل أن يقع.

فالنار التي كانت خبرًا مستقبلًا يتوعَّد به الكافرون ها أنتم ترونها الآن بعيونكم وتحسُّون حرَّها ولهيبها!

* ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن﴾:

كانوا يقولون: إنه صلى الله عليه وسلم ساحر. فيأتيهم الجواب في هذه الآية: هل هذا سحر وأنتم ترونه بأعينكم؟ ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم﴾، وهذا تعريض بما كانوا يقولونه في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان أن المشكلة في غفلتهم وإغلاق قلوبهم وصدودهم عن الحقِّ، حتى كأنهم لا يبصرون الآيات من حولهم في الدنيا.

* ﴿نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا﴾:

وقوله: ﴿ نَّفْسٍ ﴾ مثل قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا ﴾ [مريم: 70]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [الليل: 15- 16]، كأن «الصَّلْي» هنا من شأن الأَشْقى الذي كذَّب وتولَّى، أما المؤمن فربما تصيبه النار بقدرٍ دون أن يصلاها صَلْيًا كاملًا، ودون أن يُدَعَّ إليها دَعًّا؛ لأن المسألة مسألة تطهير له، أما هؤلاء فهي دارهم وقرارهم: ﴿ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا﴾ أي: لا ينفع الصبر أو الجزع، كما قالوا هم: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا ﴾ [إبراهيم: 21].

﴿كثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ﴾: وتأمل كيف أنه لم يقل: «إنما تُجزون بما كنتم تعملون»؛ إشارة إلى كمال العدل الإلهي؛ فقد جعل الجزاء هو ذات الفعل الذي فعلوه، والجزاء لم يزد عليهم شيئًا: ﴿خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [الكهف: 49].

* ﴿تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾:

مثلما قال: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ [الحجر: 45]، والوعد يشمل أصحاب المقامات العالية في التقوى من السابقين والأبرار، كما يشمل عموم المؤمنين الذين اتقوا الكفر والشرك بالإيمان بالله، ولو قارفوا بعض الإثم.

* ﴿كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ۝ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾:

أي: فرحين مستبشرين مسرورين، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها بعض السَّبْعة:

﴿فَكِهِينَ﴾، بغير مدٍّ، والمعنى واحد، فهم مسرورون بعطاء الله في الجنة من ألوان الملذَّات، التي منها الملذَّات المعنوية، وأعظمها النظر إلى وجه الله الكريم، والسماع لكلامه سبحانه والسرور برضوانه: «أُحِلُّ عليكم رِضْواني، فلا أَسخطُ عليكم بعده أبدًا». ومثل ما أُعطوا من ألوان ملذات المعرفة في الجنة والمتعة بها، وأيضًا الملذَّات الحسيَّة من المطاعم والمشارب والمآكل والملابس والسرر وغير ذلك مما ذكر تعالى في كتابه.

﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾: كرر لفظة: ﴿الْيَتَامَى﴾ مرتين، وفيه إشارة إلى أن المقام ليس مقام جزاء فحسب، بل جزاء وفضل من الله، وهو المنعم المتفضِّل، فهو الذي وقاهم من النار، وهذا وحده فضل عظيم، ولو لم يكن لهم إلا السلامة من العذاب لكفى، ولكنه جاد عليهم بهذا العطاء الذي هو بغير حدٍّ ولا عدٍّ، يُصَبُّ عليهم صَبًّا، ولا يحتاج إلى جهد ولا معاناة.

* ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾:

فكل شيء متاح لكم مع الهناءة؛ لأنه لا شيء يخيفهم، لا الموت ولا المرض ولا الانقطاع ولا الزوال، فقد أمنوا ذلك كله، وكل الغوائل والمفاجآت التي اعتادوا أن يتوقعوها في الدنيا، بل ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ﴾ [فصلت: 8]، يعني: غير منقطع.

﴿ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا ﴾: قال هنا: ﴿ وَلَا ﴾، وفيه ثناء عليهم، فلم يكن هذا نعيمًا لا سبب له، بل هو بسبب أعمالهم التي استحقوا بها رحمة الله سبحانه؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ﴾ [الأعراف: 56]، بخلاف الكافرين، حيث قال: ﴿ كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾، فبين قوله: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ ﴾ بالنسبة لأهل الجنة، وقوله مخاطبًا أهل النار: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي ﴾، بين الخطابين فرق عظيم؛ فالجزاء للكافرين من غير زيادة ولا نقص، أما المؤمنون فليس الجزاء مقابل عملهم، فإنما الحسنة بسبعمئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، «قال اللهُ: أَعْدَدْتُ لعبادي الصالِحينَ ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر». أعمالهم كانت سببًا لتأهليهم للفوز بالرضوان والرحمة، ولكن لا مقابلة بين عملهم وبين مصيرهم العظيم الذي هو منة من الله وفضل.

وهذا القول تقوله الملائكة لهم ترحيبًا بمقدمهم وتهنئة لهم، وهو نوع من النعيم العظيم، وقد كان الناس في الدنيا يفرحون بحسن الاستقبال كما يفرحون بكرم الضيافة، حيث قال قائلهم:

أُضاحِكُ ضَيفي قبلَ إنزالِ رَحْلِهِ *** ويُخْصِبُ عندي والمَحَلُّ جَدِيبُ

وما الخِصْبُ للأضيافِ أن يَكثُرَ القِرَى *** ولكنَّما وجهُ الكريمِ خَصيبُ

* ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾:

يمكن أن تكون السُّرر مصفوفة لكل واحد منهم، ويمكن أن يكونوا على سُرر مصفوفة متكئين عليها، كما قال في موضع آخر: ﴿آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا﴾ [الواقعة: 16]، ففيه سرور الاجتماع والترائي والأنس.

﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾: التزويج معناه: القَرْن، أي: قرنَّاهم بحُور عين وجعلنا الحور العين معهم أزواجًا اثنين اثنين، هذا هو المعنى، وإلا فإنه لو كان المقصود الزواج الذي هو العقد لعبَّر عن ذلك بدون الباء، كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب: 37]، لم يقل: زوجناك بها.

وحُور جمع: حَوْراء، وهي شديدة البياض مع شدة الجمال والصفاء في الألوان، وعين جمع: عَيْناء، وهي واسعة حدقة العين مع صفاء العين وجمالها.

* هنا يأتي سؤال: أين الأولاد الذين هم من أعظم النعم؟

يأتي الجواب في قوله تعالى: ﴿ﮘ ﮙ﴾:

قرأها الجمهور بإفراد الذرية: ﴿خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، والقراءة الأخرى- وهي سَبْعية- بالجمع: ﴿ذُرِّيَّٰتِهِمۡ﴾.

ومعنى ﴿تُقْسِطُوا﴾ أي: أن الذرية سارت مسيرتهم، فهي ذرية اتبعت الآباء بالإيمان بالتربية الصالحة وتلقين الإيمان والقيم ولو في أحلك الظروف.

والإيمان محله القلب، فلا يقسر الإنسان عليه وإنما يلقن الإيمان؛ بالدعاء وحسن التعامل والقدوة الصالحة وحسن الخلق، والنفقة الحلال، وصدق النية والدعاء الصالح، فهي اتَّبعتهم على الإيمان وليس مجرد الإسلام الظاهر، وهي أيضًا تابعتهم في سلوكهم الظاهر وهديهم بإيمان وصدق واقتناع.

ويحتمل أن يكون المقصود: الذرية الكبار الذين بلغوا وتعلَّموا واتَّبعوا وآمنوا.

ويحتمل أن يكون المقصود: الصغار؛ فإن الصغير يتبع خير والديه في الدين.

ويؤيِّد هذا التأويل: القراءة الأخرى: ﴿وَأَتۡبَعۡنَٰهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم الْيَتَامَى ﴾؛ فالآية تشمل الذرية الكبار، وتشمل الصغار الذين ماتوا دون البلوغ وهم في الجنة بفضل الله؛ ولذلك لم يقل: بالإيمان، إنما قال: ﴿ الْيَتَامَى ﴾؛ إشارة إلى أن المقصود هنا حتى لو كان ثَمَّ شيء من التقصير، أو كانوا أطفالًا لم يبلغوا ولم يفهموا الأشياء على حقائقها، وأن يستقلُّوا بمعرفتها، لكن عندهم الأصل الذي تربوا وتعلموا عليه من الإيمان، فالجزاء هو: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ ﴾، ومن كمال متعتهم وعيشهم أن يُلحق بهم أولادهم، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن اللهَ يرفعُ ذريةَ المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل»، وجاء عن جمع من السلف ما يقتضي ثبوت صحة هذا المعنى، فالله سبحانه وتعالى يُلحق الأدنى بالأعلى، من دون أن ينقص من أجورهم شيئًا، فإن كان الابن في منزلة أعلى أَلْحَق والديه به في الجنة، وإن كان الأب في منزلة أعلى أَلْحَق أولاده وذريته وزوجه به، فيجمع الله تعالى الأسرة كاملة، وهذه بركة الاقتران بالطيبين والتأسِّي بهم، و﴿ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ﴾.

﴿لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ أي: لم ننقصهم شيئًا من أعمالهم، وفي القرآن الكريم موضع آخر ذكر الله فيه هذا الفعل في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ [الحجرات: 14]، أي: لا ينقصكم من أعمالكم، فهنا المعنى: لم ينقص الله تعالى الآباء من عملهم شيئًا، وإنما رفع الأبناء إلى منزلتهم، فضلًا منه وكرمًا.

﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾: وهذه قاعدة عامة، فكل شخص رَهِين بكسبه، كقوله سبحانه: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المدثر: 38- 39]؛ ولهذا قال بعضهم هنا: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ أي: من غير المؤمنين.

وقال آخرون: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ من المؤمنين وغيرهم.

وهذا أولى؛ لأنه حملٌ للمعنى على عمومه، مرتهن بما كسب من خير أو شر، وفضل الله تعالى وراء ذلك وفوقه، ولا يمانعه ولا يعارضه.

* ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى﴾:

هذا على سبيل المثال لا الحصر، ومن عادة الملوك والمرفَّهين في الدنيا إذا اجتمعوا بأولادهم وأسرهم أن يجتمعوا على موائد الطعام، فكذلك في الجنة، ولكن بنعيم أوفى وأكرم، فالأسرة مجتمعة على خير وعلى سُرُر متقابلين، والمدد يأتيهم بكرةً وعشيًّا:

﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 62].

* ﴿أَلَّا تَعُولُوا ۝ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾:

أي: يأخذ بعضهم من بعض يتعاطون الكؤوس، والكأس يُطلق عادة على الخمر.

فهم يتعاطونها بعضهم من بعض على سبيل المرح والمتعة وكمال النعيم، كما يحدث ذلك في الدنيا لمَن كمل سروره، لكن الكأس في الجنة ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ ليس فيها سُكْر؛ لأن المرء إذا سَكِر هَذَى وأصبح يلغو بالكلام الذي لا يليق، وليس فيها تأثيم، وهو: الإثم الذي يلحق الشارب؛ لأنها ليست محرمة عليهم، وليس فيها ما يدعو إلى الإثم، فنفى عن الخمر كل عيوب الدنيا، وهي السُّكْر أو الغَوْل، حيث قال: ﴿يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ [الصافات: 47].

والعيب الثاني: اللَّغو الناتج عن تراجع العقل وسَطْوة الخمر.

والثالث: هو التأثيم، والإثم الناتج عن ارتكاب الكبيرة الموبقة في الدنيا؛ ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن شرب الخمرَ في الدنيا، ثم لم يَتُبْ منها، حُرِمها في الآخرة».

* ﴿لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾:

أي: بالخدمة، وهؤلاء الغلمان خلقهم الله تعالى لمهمة الخدمة في الجنة وليسوا عَبِيدًا لهم.

وهم في هذا المقام وبهذه الصفة ﴿نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾، وإذا كان هذا هو جمال الخدم، فما بالك بالمخدومين؟!

وقال سبحانه: ﴿لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ [الإنسان: 19]، وتأمل عناية القرآن بتوصيف الخدم الذين يطوفون على أهل الجنة بالشراب والسقي والطعام والمتعة، فكيف بحال أهل الجنة أنفسهم؟!

* ﴿وَلَا تُؤْتُواْ لسفهاء أَمْوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي﴾:

طاب الحديث وطاب الكلام وطاب المقام، فبدؤوا يتساءلون هم وأولادهم وأهلوهم الذين اجتمعوا في الدنيا على خير ومصلحة دنيوية أو دينية، ليس فيها معصية لله تعالى، فجمعهم في الدار الآخرة على أحسن حال.

وهذا دليل على أنهم يتذكرون كل ما كان في الدنيا، كما يذكر الكافرون، لكن المؤمنين يتذكرون تَنَعُّمًا والكفار يتذكرون حسرةً وأسفًا.

ولأهل الجنة من كمال العقول والأفهام واتساع المعارف وقدرات التذكر والاستحضار والاستمتاع ما لا يخطر على بال، وهو ضمن قوله سبحانه: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: 17]. وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «أعددتُ لعباديَ الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر». وليس النعيم مقصورًا على المطاعم والمشارب ونحوها، بل نعيم الرؤية والسماع لقول الله والرضوان والمعرفة أعظم من ذلك وأوسع.

* ﴿جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَٱرْزُقُوهُمْ﴾:

أي: في الدنيا خائفين من عذاب الله، كما قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾ [المعارج: 27- 28]، وهو الخوف الذي يحمل على ترك المعصية وفعل الطاعة، وليس الخوف المسرف الذي يتحول إلى وسوسة، ولا الخوف من الموت الذي يتحول إلى مرض يُقعد الإنسان حتى عن عمل الدنيا، كما قيل في وصفهم:

وإن جَنَّ المساءُ فلا تراهم *** من الإشفاق إِلَّا ساجدينا

ويحتمل أن يكون المعنى أنهم كانوا خائفين على أولادهم وعلى ذراريهم أَلَّا يصلوا إلى ما وصلوا إليه.

* ﴿لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾:

و﴿الْيَتَامَى﴾ هي: الرِّيح الحارة التي تَسْفِي الترابَ الحار، واستعاره هنا لمعنى النار.

* ﴿فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾:

وفي قراءة بفتح الهمزة: ﴿نَدْعُوهُ أَنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾، يعني: لأنه ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾.

وهذه إشادة بمنزلة الدعاء، وأنه من أعظم الأعمال، قال تعالى: ﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [غافر: 60]، و «مَن لا يسألِ اللهَ يغضبْ عليه»؛ لما في الدعاء من انكسار النفس، والتواضع لله سبحانه، والاعتراف بالضعف والعبودية والعجز للنفس، والاعتراف بالكمال والقدرة لله، فاجعل لسانك رطبًا بدعاء الله سبحانه، ولا تعتمد على نفسك في شيء قط، واحذر أن يكلك الله إلى نفسك فتهلك؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «دعواتُ المكروب: اللهمَّ رحمتَك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طَرْفَةَ عين، وأَصْلِحْ لي شأني كلَّه، لا إله إِلَّا أنت».

و﴿إِلَيْهِمْ﴾: صاحب البر والجود والكرم والعطاء.

ومن معاني ﴿إِلَيْهِمْ﴾: الصادق، تقول: «فلان بارٌّ، برَّ في يمينه»، أي: صدق ولم يكذب، وكلاهما داخل هذا الاسم الشريف الذي هو من أسماء الله الحسنى، فرحمهم ووقاهم ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ﴾، وأوصلهم إلى ما يريدون.

* ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا﴾:

كما يدَّعي هؤلاء الذين اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا، وقال بعضهم: كاهن؛ لأنه يخبر بعلم الغيب وما سيكون.

وقال بعضهم: مجنون؛ لأنه يدَّعي أمورًا لم تقع، فأمره الله أن يُذَكِّر ولا ينزعج أو يقلق مما قالوا، فلست بسبب ما أنعم الله تعالى عليك من العقل واصطفاء الله لك بالوحي ﴿يَكْبَرُوا﴾ كما يزعمون.

ثم جاءت محاجة الكفار بهذه الصيغة ﴿غَنِيًّا﴾ خمسة عشر مرة في هذه السورة بطريقة لا مثيل لها في القرآن الكريم.


: الأوسمة



التالي
عالَم العرب.. نزاعات الحدود وتفتُّت الوجود
السابق
حرية الرأي والفكر في الشريعة الإسلامية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع