من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
(سورة القمر)
الحلقة الحادية عشر
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
* ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِر ﴾:
ولِمَ لا يدعو ربه وهو عبده! وقد لبث هذا النبي الكريم عليه السلام في قومه
﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا ﴾ [العنكبوت:14]، والسياق اختصر هذه المُدُد المتطاولة اختصارًا، فما بين تكذيبهم ووصفهم له بالجنون وما بين دعائه ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا ﴾، فهو قد صبر عليهم هذه المدة الطويلة قبل أن يدعو عليهم.
ولكن السياق هنا ليس لتفصيل القصة وسرد أحداثها، بل هو للتخويف والتحذير، فناسب فيه طي تفصيلات الأحداث، وإبراز الأهم منها.
وتأمَّل قوله: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ ﴾: غلبوه على الأجيال الناشئة، وحالوا بينه وبينها، ولم يمكِّنوه من الدعوة، وهدَّدوه بالرَّجْم، وإلا فهو لم يدخل معهم في حرب ولا منازلة، ولكن استأثروا بمنابر التوجيه، وسيطروا على أدوات التأثير، ولم يتركوا منقصة إلا وصَمُوهُ وأتباعَه بها، فها هو توصَّل إلى هذه النتيجة، أنه ﴿مَغْلُوبٌ ﴾، ودلَّت النصوص الأخرى على أنه لم يدع عليهم حتى أخبره ربه: ﴿أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ [هود: 36]!
فأين هذا من داعية عجول متسرِّع، لم ينزل عليه وحي، ولا جاء بآية من السماء، ولعله قصير الباع في العلم والتجربة والتربية، وسرعان ما يهجم على المدعوين بالدعاء عليهم أو وصفهم بالكفر أو الضلال دون بصيرة، أو الإسراع إلى المواجهة بالقوة والعنف ضد أُناس لعلهم لم يعرفوا دعوته ولا أدركوا غايته!
وقوله: ﴿فَانتَصِر ﴾ أي: لدينك يا رب، وليس لشخصه عليه السلام، ولأن نوحًا عليه السلام كان مخلصًا في دعوته، وبذل الأسباب، فإنه لم يَدْعُ عليهم إلا بعدما استفرغ الوُسع ونوَّع الأساليب.
وفي هذا درس عظيم للدُّعاة أَلَّا يستبطؤوا هداية الناس وييأسوا منهم، وأَلَّا يسارعوا إلى الدعاء عليهم، مع أن الدعاء هو التماس من الله، فمن باب أولى أَلَّا يتسرَّعوا في محاربتهم وقتالهم ومناجزتهم من أول وهلة يرون منهم فيها بغيًا أو ظلمًا.
* ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِر * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر ﴾:
كأن السماء استحالت أبوابًا، تصب الماء صبًّا كأفواه القرب، وتأمَّل الاستجابة الإلهية العاجلة!
وكأن الأرض استحالت عيونًا تفيض، بل تتفجَّر.
﴿فَالْتَقَى الْمَاء ﴾ يعني: التقى الماءان: ماء السماء وماء الأرض، ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر ﴾ أي: قد كُتب، وربما يقول بعض علماء الأفلاك أو غيرهم: إن ذلك قد وافق نوءًا معينًا أو وافق ظرفًا خاصًّا، وأن ثمة أسبابًا أحدثت الفيضان من الأرض ونزول المطر من السماء، ومن ثَمَّ حصل الطوفان.
ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر ﴾ أي: قد كُتب، ونرجع هنا إلى قوله سبحانه وتعالى في أول السورة ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا ﴾، حتى الأشياء التي تكون مرتَّبة ولها أسبابها الكونية لا يعني أنها عريَّة عن الحكمة الإلهية، بل هي مقصودة؛ ولهذا قال: ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر ﴾، فأين المفر وقد حق عليهم أمر الله تعالى؟
إنك حين تقرأ هذه الآيات تتمثَّل المشهد أمام ناظريك كأنك تراه، طوفانٌ عظيم بأمر خالقه، الذي إن شاء جعله عذابًا، كما في هذه القصة العظيمة، وإن شاء جعله رحمة وحفظًا، كما في قصة موسى عليه السلام التي خاطب الله فيها الماء بحفظ الأمانة، كما يفعل أحن البشر وأحرصهم: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ [طه: 39].
* ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر ﴾:
أي: حملنا نوحًا ذلك العبد الصابر، ولم يذكر مَن معه؛ لأنه هو الدَّاعي الأعظم وهو المقصود، حملهم تعالى وحمل معهم ما تبقَى به الحياة على الأرض على «سفينة»، وتُسمَّى: «فُلْكًا» أيضًا، فهما مترادفان تقريبًا، ولعله أول مَن صنع الفُلك، والله تعالى ألهمه كيف يصنعها، ولم يذكر هنا السفينة وإنما وصفها بأنها ﴿ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر ﴾.
والألواح معروفة، وهي تُصنع من الخشب غالبًا، وجاء ذكرها في قصة موسى عليه السلام، فقيل: كانت ألواحه من خشب، وقيل: كانت من حجارة، والله أعلم.
أما الدُّسُر فهي- عند جمهور المفسرين-: المسامير، أو الروابط، من حبال أو عوارض يُشد بها بعض الألواح إلى بعض.
* ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِر ﴾:
﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ﴾ أي: بمَرْأى منا، فالله تعالى يراهم ويكلؤهم ويحفظهم.
﴿جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِر ﴾ أي: لنوح عليه السلام الذي كفره قومه ولم يؤمنوا به.
* ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ﴾:
أي: السفينة، بقيت ورأتها الأمم، حتى أوائل هذه الأمة، فقد ذكر قتادة وغيره أن السلف رأوا آثار هذه السفينة على جبل في العراق، والله قال: ﴿الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى ﴾ [هود: 44]، وهو: جبل في العراق، قريبٌ من المَوْصِل، وهناك مدينة لا زالت موجودة اسمها «بَاقِرْدَى» عندها جُبيل صغير يقال إنه الجُودِي، فهي في ذلك المكان، فتركها الله سبحانه وتعالى آية.
ويمكن أن يكون المقصود: تركنا هذه القصة آية لمَن يعتبر، فهل من معتبرٍ متعظٍ؟ فهي دعوة للناس أن يعتبروا.
﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ﴾: ﴿مُّدَّكِر ﴾ أصلها «مُذْتَكِر»، فأدغمت الذال في التاء، ثم قلبتا دالًا مشدَّدة لتقاربهما، وقلبت الذال دالًا لتقاربهما.
وهو ختام تكرر في السورة، وهو نوع من المناشدة، كما يقول مَن يعرض سلعته: هل من مشترٍ؟ وكما يقول الدَّاعي والسائل: هل من مجيب؟ وفيه دلالة على قلة المعتبرين.
* ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر ﴾:
والسؤال يتكرر مع كل قصة: كيف ترى أيها القارئ أو المستمع العذاب الذي نزل بهؤلاء القوم والطوفان الذي اجتاحهم وأهلكهم؟
وهنا وحَّد «العذاب»، وجمع «النُّذُر»، فقال: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر ﴾، ولعل هذا من الرحمة؛ لأن النُّذُر التي تسبق العذاب كثيرة، والله سبحانه وتعالى لا يعاجل عباده، بل يبعث إليهم نُذُرًا كثيرة وحُجُجًا عظيمة، أما «العذاب» فكان واحدًا، ولكنه الضربة القاضية؛ فلذلك وحَّد «العذاب» وجمع «النُّذُر» قال: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر ﴾.
والعذاب واضح، وهو الطوفان، لكن ما سرُّ مجيء «النُّذُر» هنا؟
والجواب: أن الذي حدث هو من آثار النُّذُر، فهم قد توعّدوا بها مرارًا وتكرارًا إن لم يؤمنوا، فلم يؤمنوا، فجاءهم العذاب الذي أنذروه.
* ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ﴾:
وهذه لازمة في السياق بعد كل قصة يُذكِّر تعالى بهذا المعنى؛ دعوة إلى الناس أن يعتبروا.
وتيسير القرآن هنا هو: تيسيره للتدبر والاتعاظ في المقام الأول، فتتلقَّاه القلوب والعقول والأسماع.
وهي دعوة إلى الإيمان والبحث عنه، فهو يسير قريب ممن أراده وتخلَّى عن موروثه الفاسد ومصالحه العاجلة، وهي دعوة لأن تستجيب له النفوس، وترق القلوب.
ومن التيسير: تسهيل تلاوته وحفظه، حتى يحفظه الطفل الصغير والأُمِّيُّ والأعجمي، وحتى يحفظ عامة المسلمين منه ما تصح به صلاتهم، وتطيب به حياتهم، وتعظم به أجورهم.
ومثله: تسهيل أحكامه، ومقاصده، وما يترتب على معانيه ودلالاته من الأوامر والنواهي وتفصيلات الحياة، فكان ذلك كله مما امتن الله تعالى به على هذه الأمة.
* ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر ﴾:
وهنا تلحظ أن الله تعالى لم يعطف عطفًا، وإنما ذكرها قصة جديدة مستأنفة، وكأنه لا علاقة لها بالتي قبلها، فكأنك في مشهد قصة جديدة منفصلة، مع ختم كل قصة بخاتمة واحدة: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر ﴾؛ إشارة إلى أن كل قصة بمفردها لو لم يُذكر غيرها لكانت كافية لمَن يعتبر، فكيف إذا اجتمعت كلها؟ ﴿وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُون ﴾ [يونس: 101].
ولأن السياق تهديد ووعيد كانت القصة تبدأ بذكر التكذيب؛ تحضيرًا لذكر الجزاء، وفي هذا تنبيه لقريش ومَن بعدهم أن يتداركوا الأمر قبل أن يصيبهم ما أصابهم.
ولم يقل: «كذبت قوم هود»، بخلاف ﴿قَوْمُ نُوحٍ ﴾، والذي يظهر أن السبب هو أن اسم «عاد» معروف مشهور، أشهر من أن يُقال: «قوم هود»، وهم من العرب العاربة، وهم العرب الأولى المعروفون القريبون من ذاكرة المخاطَبين؛ ولذلك كان ذكر اسمهم الأول أدعى إلى الذهن وأبلغ تأثيرًا.
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر ﴾: وهذا تعجيب من العذاب، مع أنه لم يذكره، ولعل ذلك لأنهم قريبون من أهل مكة، وهم يعرفون قصتهم.
* ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِر ﴾:
والرِّيح نفسها حين تكون مرسلة فسوف تكون مُهلكة، فكيف إذا كانت ﴿صَرْصَرًا ﴾ قوية شديدة، حتى إنه يُسمع لها صفيرٌ شديد، فهذا هو «الصَّرْصَر»، وكذلك هي شديدة البرودة، ومنه: «الرِّيح الصِّرُّ»، كما في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ [آل عمران: 117]، ومن هذا قول العربي لغلامه:
أَوْقِدْ فإنَّ الليلَ ليلٌ قرُّ * والرِّيحُ يا واقدُ ريحٌ صِرُّ
علَّ يرى نارَك مَن يمرُّ * إِن جَلَبَتْ ضيفًا فأنت حرُّ
﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِر ﴾ وليس المعنى أنها في يوم واحد فحسب، كلا؛ فإن الله تعالى ذكر أن عذابهم كان في أيام، فقال: ﴿فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾ [فصلت: 16]، وقال: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [الحاقة: 7]، والجمع بينهما- والله أعلم- أن ذكر اليوم إشارة لبداية العذاب، ولذلك ذكر ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ﴾ مما يدل على أن بداية الرِّيح كانت في النهار، وذكر اليوم يدل على أن الرِّيح استمرت فلم تتوقف، فكأن الأيام يوم واحد، وعلى وَتِيرة واحدة لم تتغيَّر، ولذا وصفه بأنه ﴿مُّسْتَمِر ﴾.
والنحس إنما يكون من فعل الإنسان، وليس من شأن اليوم.
وهذا دليل على أن وصف ﴿يَوْمِ ﴾ بأنه ﴿نَحْسٍ ﴾ لا يعتبر من سبِّ الدَّهْر، كما قد يظن بعضهم، بل هو وصف للحال التي تصيب الناس.
واعتقاد أن هذا اليوم كان «يوم أربعاء» اعتمادًا على حديث: «آخِرُ أربعاء من الشهر يومُ نحسٍ مستمر». اعتقاد باطل ولو كان هذا اليوم بعينه يوم نحس لكانت أيام الأسبوع كلها أيام نحس؛ لأن الله تعالى سخَّرها عليهم ثمانية أيام، فيكون كل الأسبوع كذلك! والحديث موضوع.
والذي نعتقده هو أن الحياة كلها نحس على المأسور بالجهل والتشاؤم والإحباط واليأس المنقطع عن الله سبحانه، وإلا فليس في الأيام شيء نحس في نفسه، والتَّطَيُّر من عمل الجاهلية.
ولله در القائل:
أَلَا إنما الأيامُ أبناءُ واحدٍ * وهَذِي الليالي كلُّها أخَواتُ
الأيام كلها كأنها أبناء رجل واحد، والليالي كأنها أخوات، فلا فرق بين ليلة وليلة، أيام السعد: تلك الأيام التي أحسن الإنسان توظيفها واستمتع بها، وأيام النحس: تلك التي أخطأ الإنسان فيها أو عصى أو تشاءم أو انقطع وصله بحبل الله سبحانه أو نظر بسوء ظن إلى الحياة، والله تعالى يقول: «أنا عند ظَنِّ عَبْدي بِي».
﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِر ﴾: والمستمر: وصفٌ للنَّحْس، أي: دائم، أو: شديدٌ وقويٌّ.
* ﴿تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِر ﴾:
﴿تَنزِعُ النَّاسَ ﴾: فالرِّيح مرسلة إلى الناس، ليست إلى النَّخل أو المباني، فيصبح الرجل الطويل الشديد مطروحًا ساقطًا بلا حراك، كأنما هو عَجُز نخلة خاوٍ!
وأنت حين تسمع كلمة ﴿تَنزِعُ ﴾ تعرف أن هؤلاء ليسوا ناسًا عاديين، فإن الله تعالى أعطاهم قوة في أبدانهم وبَسْطة؛ فكأن هذه الرِّيح تنزع شيئًا متأصِّلًا متجذِّرًا في الأرض.
وقد ورد أنهم لما رأوا الرِّيح شرعوا يدفنون أنفسهم في الأرض، فتنزعهم منها نزعًا، ثم ترميهم على ظهرها ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِر ﴾، وفي «سورة الحاقة»: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ﴾.
وكل ما كان الفارق فيه بين المفرد والجمع هو تاء التأنيث، فإنه يجوز تذكيره وتأنيثه، مثل: «شجر، وشجرة»، فيُذكَّر باعتبار اللفظ، ويؤنَّث باعتبار المعنى، فهنا قال: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِر ﴾، وفي الموضع الآخر قال: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ﴾.
وأعجازُ النخل هي: أواخر النخل ونهايتها، والأليق بوصف العجز هو طرف النخلة من جهة الأرض، وهو يناسب النزع، فكأنما أحدهم نخلة قلعت من أسفلها.
ويجوز أن يكون المعنى: قطع النخل من أعلاه، وانفصال أغصانه وعسبه عنه، وهذا يشعر بأن رؤوسهم فارقت أجسادهم بسبب الضربات الشديدة الموجعة، فتراهم على الأرض صرعى.
* ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر ﴾:
يعيد السؤال مرة أخرى بعدما عرفت العذاب، ورأيته أصابهم، وشاهدت هؤلاء الأشدَّاء كيف صاروا كالنَّخل الطوال المُلقى على الأرض.
* ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ﴾:
وكان بإمكانهم أن يتجنَّبوا مثل هذا المصير إذا أَصْغَوْا وأصاخوا لداعي الله سبحانه وتعالى.
* ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُر * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُر ﴾:
فصَّل الله في شأن ﴿ثَمُودُ ﴾؛ لأنهم يُشبهون قريشًا فيما قالوه من استنكافهم، وقولهم: كيف نتبع شخصًا واحدًا هو منا ومثلنا لا يتميَّز علينا بشيء ﴿إِنَّا إِذًا ﴾ إن اتَّبعناه وأطعناه ﴿لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُر ﴾، فالضلال في عقولهم، والسُّعُر إما أن يكون الجنون، فإن من معاني المسعور: المجنون، ولذلك يقال: «ناقة مَسْعُورة»، إذا كانت تمشي بسرعة، ومن غير انتظام، أصابها سُعار.
ويمكن أن يكون المقصود بالسُّعُر: النار، سواء كان مقصودهم نار الدنيا أو نار الآخرة، فهو شبيه بقول قريش: ﴿إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ﴾ [القصص: 57].
* ﴿أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِر * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِر ﴾:
﴿أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِر ﴾: استفهام استنكاري منهم، كيف يختص من بيننا بالرسالة؟ ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِر ﴾: وصفوه بالمبالغة في الكذب، فما قالوا: «كاذب»، بل ﴿كَذَّابٌ ﴾ على صيغة المبالغة الدالة على كثرة الكذب، فهو يكرِّر الكذب ويُكثر منه، و ﴿أَشِر ﴾ فيه الأَشَر والبَطَر والكِبْر، هذا أصح المعاني، فادَّعْوا أنه مع الكذب بَطِر متكبِّر متعاظم معجبٌ بذاته؛ ولهذا ادَّعى النبوة، وهو فعل ذلك ليكون سيِّدًا أو زعيمًا علينا.
هكذا واجهوا نبيَّهم، مع أن الرسل الذين يختارهم الله عز وجل معروفون بالصدق والوضوح في سيرتهم وسلوكهم وأقوالهم وأفعالهم، مجبولون على التواضع والانكسار، ولم يكن أحد منهم يترقَّب الرسالة ولا يستشرف لها، كما قال عن محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ ﴾ [القصص: 86]، وكما فوجئ موسى عليه السلام بالخطاب الإلهي دون انتظار: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِين ﴾ [الدخان: 32]، و ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]، فالرسل عليهم السلام أناس متميِّزون بمكانتهم في قومهم، وبسعة عقولهم وعلمهم وصدقهم وأخلاقهم، ويتميَّزون بصفاء نفوسهم وقلوبهم، حتى قبل الرسالة، فضلًا عما يكون بعدها.
ولذا قال تعالى تأديبًا وتأنيبًا وتهديدًا: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِر ﴾.
والسياق يتحدَّث عن الغد، ويستعمل حرف السين الدال على المستقبل، وفيه إلماح لما سوف يصيب قريشًا وكل المكذِّبين المجترئين على الرسل، إن لم يرعووا ويندموا ويتداركوا يومهم قبل غدهم، ولأن ردِّهم كان سفهًا لا طائل من ورائه ولا حجة فيه كان مناسبًا أن يقابَل بالتهديد في الآية، ورد الأمر عليهم فيما نسبوه إلى النبي عليه السلام، فهم أولى به، ولكنه ترك الأمر مرسلًا مفتوحًا محتملًا في الظاهر، فلم يقل: «هم الكاذبون» ...!