البحث

التفاصيل

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:سورة القمر

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:

(سورة القمر)

الحلقة الثانية عشر

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة


* ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾ [القمر: 27-28]:
قد طلبوا منه آية، فأخرج الله تعالى لهم من عرض الجبل ناقة، فكانت آية بينة، ولذا قال: {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي: ستكون سببًا في الاختلاف بينهم ما بين مؤمن وكافر، وستكون سببًا في هلاكهم، {فَارْتَقِبْهُمْ } أي: ارقبهم وأَنْظِرهم، و«ارتَقِبْ» أبلغ من «ارقب»، {وَاصْطَبِر} أي: اصبر، ولكنه أبلغ، بالغ في الصبر والانتظار ولا تعجل عليهم.
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي: بينهم وبين الناقة، فكانت تشرب من الماء يومًا، وهم يشربون منه يومًا، وربما كانت خلقًا عظيمًا، فإذا جاءت إلى الماء نفرت مواشيهم فلم تشرب منه، فأمرهم صالح عليه السلام أن يكون الشِّرْب يومًا للناقة ويومًا لهم، فاختلفوا في ذلك وأصبحت بعض قبائلهم يقولون لبعض لا تشربوا في يومنا لأن يومكم هو اليوم الذي تشرب فيه الناقة، اذهبوا واطردوها واشربوا الماء، فوقع بسبب ذلك اختلاف عندهم.
{كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَر } يعني: يشرب هؤلاء الناس اليوم، وتشرب الناقة غدًا، ويحضر هؤلاء لشربهم، وتحضر الناقة لشربها، ولا يجوز لهم أن يشربوا في يوم الناقة.
* {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَر }:
{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ }: ضجروا من هذه القسمة، وأجمعوا أمرهم على عَقْر الناقة، ولكنهم تهيَّبوا أن يباشروا ذلك، فعمدوا إلى صاحب لهم مشهور بالجرأة والطيش والعجلة، ومن طبيعته مباشرة المهمات التي يتردَّد الناس فيها دون مبالاة، وليس شخصًا عاديًّا، بل هو زعيم في قومه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «انبعثَ لها رجلٌ عَزِيزٌ عارِمٌ، مَنِيعٌ في رَهْطه، مثلُ أبي زَمْعَةَ». واسم هذا الرجل: قُدَار بن سالِف، وفي وصفه بـ {صَاحِبَهُمْ } إشارة إلى أن العمل لم يكن مبادرة فردية، بل عمل جماعي تواطؤوا عليه وإن باشره واحد منهم.
{فَتَعَاطَى فَعَقَر }: إما أن يكون المعنى: تعاطى السلاح، أو تعاطى الكلام معهم، ووصل إلى هذه النتيجة، أو تعاطى هذه المهمة، فعَقَر الناقة، فرماها بسهم فقتلها.
* {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِر * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر }:
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر }: أعاد السؤال هنا قبل العذاب، ويلاحظ أنه في هذه القصة ذكره مرتين، قبل العذاب وبعده.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِر}: فأُهلكوا بالصيحة، وماتوا عن آخرهم؛ فأصبحوا مثل الهَشِيم الذي تذروه الرياح، كبقايا التبن والأشياء اليابسة، والمحتظر هو الذي يبني حِظارًا، أي: بناءً من القَشِّ، فيبقى من القَشِّ بقية مبثوثة في الأرض بعد استعماله في البناء.
أو يكون المقصود: هَشِيم الحِظار الذي تسقطه الريح، ومع الوقت يسقط مثلما يسقط من الجدار بعض الرمل أو الطين، هؤلاء الناس بقوا في الزوايا مثل هَشِيم المحتظر الذي وطئته الأقدام؛ إشارة إلى تفاهتهم وأنه لا يعبأ بهم أحدٌ.
* {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُر * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَر }:
لم يذكر فعلتهم، فالمقام يستدعي طيَّها والاختصار والعناية بنوع العذاب الذي نزل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} أي: ريحًا ترميهم بالحصباء، أو: المقصود الحجارة التي أنزلت عليهم.
{إِلاَّ آلَ لُوطٍ}: وآل لوط: هم أسرته الذين آمنوا معه، {إِلاَّ امْرَأَتَهُ } [الحجر: 60]، فقد أصابها ما أصابهم.
{نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَر } أي: قبل الفجر؛ لأن العذاب سوف يباغت قومه صباحًا.
* {نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَر * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ}:
أي: على لوط ومَن معه، فلوط عليه السلام أنذر قومه بطشة الله سبحانه، وهذا مناسب لقوله تعالى تهديدًا لقريش: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُون } [الدخان: 16]، والبَطْش هو: الأخذ القوي الشديد بغضب وانتقام، ولم يقل: «بطشنا»، بل عبَّر بالمفرد: {بَطْشَتَنَا }، فإنما كانت واحدة، لم يستدع الأمر أكثر منها، فهي بالغة المنتهى في قوتها وشدتها وأخذها.
{فَتَمَارَوْا بِالنُّذُر } مع أن الرسول أنذرهم وذكَّرهم أنها بشطة الله القوي القادر، إلا أنهم جادلوا وشكَّكوا وأنكروا.
* {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُر }:
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } من الملائكة، والمراودة تعني: أن يريد المرء الشيء مرة بعد أخرى على سبيل الإلحاح في الطلب، وغالبًا ما تكون في سياق الفاحشة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } [يوسف: 23].
{فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ }: الطمس هنا يحتمل أن يكون الله تعالى أعماهم أو سوَّى أعينهم بوجوههم، وكأن عيونهم مُحيت وطُمست، أو يكون المعنى أن الله تعالى غطَّى عليهم بحيث لم يروا هؤلاء الرسل.
وقد نُقل الوجهان عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأقرب أن الله تعالى ذهب بأبصارهم، وذهبوا لا يعرفون الباب حتى أخرجهم لوط عليه السلام من بيته.
{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُر } فكانت هذه بداية العذاب، ولذا كرَّر الأمر بعد نزول العذاب العام.
* {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِر }:
أي: صبَّح القوم كلهم هذا العذاب، إلا لوط عليه السلام ومَن خرج معه، والعذاب المستقر هو: العذاب اللازم اللازب الذي لا يغادرهم ولا يفارقهم، وكأن العذاب الأول بطمس الأعين مقدِّمة وليس هو العذاب الذي أنذرهم إياه رسولهم عليه السلام.
* {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُر }:
وعبَّر بالذَّوْق، من باب السخرية والتنكيل بهم.
* {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر }:
هذه القصص هي من تيسير القرآن، ففيها آيات وعبر يستدل الناس بها على الطريق، ومن تيسير الله للذكر أن يكون القرآن بهذه البلاغة والتجانس في المعاني والآيات، أو التقابل والتشاكل؛ ليسهل فهمه وحفظه وتدبره، كما قال تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا } [الزمر: 23].
* {وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِر }:
بدأ قصة فرعون بذكر النُّذُر؛ لأن موسى عليه السلام بُعث إلى فرعون وهامان وقارون بالإنذار والتحذير، ثم أتاهم بالآيات التسع العظيمة، ومنها: {الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِين } [الأعراف: 133]. ومنها: اليد والعصا، والسِّنين ونقص الثمرات، والطاعون، وهو الرِّجْز، والله أعلم.
ومَن كذَّب بآية فكأنما كذَّب بجميع الآيات، فالمقصود أن كل آية ترد عليهم حقيقة وجَدِيرة بالتصديق، ولكنهم يكذِّبون بها، ثم إنهم قد يتردَّدون أو يخافون أو يعدون موسى بالإيمان والتصديق، فإذا رُفع البأس عنهم نكلوا وعادوا لما كانوا عليه، كما بيَّنت ذلك «سورة الأعراف»، و«سورة الزخرف»: {يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } [الزخرف:49].
{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِر } فأخذهم الله أخذ قوي قادر، وأهلكهم هلاكًا عامًّا شديدًا يناسب قوتهم وطغيانهم واغترارهم بالجنود والأعوان.
* ثم عقَّب على ذلك كله بالمقصد من السياق فقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُر }:
وهو خطاب لكفار قريش: هل كفاركم المعاصرون خير من أولئك الناس الذين أهلكهم سبحانه، فلا يستحقون العقوبة كما استحقها أولئك؟
كلا، ليسوا خيرًا منهم وقد كفروا بأفضل الرُّسل وخاتم الأنبياء، وجحدوا القرآن الذي هو أعظم الآيات وأتم الحجج.
{أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُر } هل عندكم من الله تعالى كتاب أو ميثاق يجعلكم بمأمن أَلَّا يصيبكم ما أصابهم؟!
* {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِر }:
أم يحتجون بأنهم جماعة وقبائل، وأن اجتماعهم سيكون سببًا لنصرتهم؟
* {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر }:
وهذا وعيد في المستقبل القريب، وهو إشارة إلى أنه إذا كان إهلاك الأمم السابقة بالاستئصال؛ فإهلاك الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يكون وفق النواميس والسنن، كما قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِين } [التوبة: 14].
والسورة مكية؛ لأن ذلك وعد أُنجز وعده في معركة بدر؛ ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر } جعلتُ أقولُ: أيُّ جمع سيُهزم؟ فلم يكن يعرف تأويل هذه الآية حتى رآه بعينه في معركة بدر، ورأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر }.
* {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَر }:
الساعة- في لغة القرآن والسنة-: يوم القيامة، وورد هذا الاستعمال في مئات المواضع، سُمِّيت بذلك لتوقيتها وسرعتها، والله أعلم.
والمعنى: أنه لم ينته الأمر عند عذاب الدنيا، بل لهم موعد لا يتخلَّفون عنه، {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَر } أي: أشد وأعظم، وقوله: {أَدْهَى } من الدَّاهية، إذا دهاه، أي: أصابه أمر عظيم، {وَأَمَر } يعني: أشد مرارة، أو أشد قوة، فعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى وأهول وأطول.
* {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُر }:
{فِي ضَلاَلٍ } في الدنيا، {وَسُعُر } في الآخرة، جمع: سَعِير، وهو: النار.
* {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر }:
أي تسحبهم الملائكة، وهذا بعض العذاب، وهو إهانة لهم أن يُسحبوا على وجوههم في النار، فليس ثَمَّ عذاب ولا هوان يحيط بهم أشد وأعظم منه، ومع هذا يُبَكَّتون ويُوَبَّخون، ويُقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَر } على سبيل السخرية بهم،
و{سَقَر }: اسم من أسماء النار، كما قال سبحانه وتعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَر * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَر * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَر * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَر * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر } [المدثر: 26- 30].
* {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر }:
إنهم جاحدون معرضون، قد امتلأت قلوبهم كِبْرًا وعنادًا، وامتلأت حياتهم ظُلمًا وبغيًا وعدوانًا، وتمحَّضوا للشر، فمهما جاءتهم الآيات والحجج والقصص.. فهي لا تزيدهم إلا طغيانًا، وحين يسمعون هذا الوعيد البليغ، فإنهم يصدون عنه، ويسألون سؤال الساخر المستهزئ: أليس الله بقادرٍ على منعنا من الشرك والكفر؟ ويقولون: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [الأنعام: 148]، فردَّ عليهم سبحانه بقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر }.
وهذه من الآيات الدالة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وهو من أركان الإيمان: أن تؤمن بالقدر خيره وشره، فهو الركن السادس منها، وقوله سبحانه: {خَلَقْنَاهُ } الإشارة إلى أن كل الأشياء خلقها الله تعالى، فـ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ } [الزمر: 62]، والخلق من القدر، فإن الله تعالى هو الخالق، وهذه مرتبة من مراتب القدر، وقوله تعالى: {بِقَدَر } من معانيه: خلقناه بتقدير لا يزيد ولا ينقص، كما قال سبحانه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 3]، وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان: 2]، والآجال معروفة، وكل شيء له نواميس وسنن وأسباب، وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين } [يس: 12]، فالكتابة هي من مراتب القدر أيضًا.
والقدر سرٌّ الله تعالى في الأرض، وفي قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقْنَاهُ بِقَدَر } جانب الإلهية الذي لا يدركه البشر، ولا بد من التسليم والإيمان بالله الخالق الذي كل شيء بإرادته، ولا يقع شيء إلا بعلمه سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ } [الأنعام: 107]، والقدر لا ينافي إرادة الإنسان ولا يصادرها، فليس أحد يشعر بأن ثمة قوة غيبية تجبره على شيء هو لا يريده، أنا أريد أن أتكلَّم فأتكلَّم، وأريد أن أحمل القلم فأحمله، وأريد أن أضعه فأضعه، وأريد أن أشرب أو آكل شيئًا يلذ لي، أو أقوم أو أقعد فافعل ذلك كله، وأنا مسؤول عنه، ولو أن أحدًا قهرني على ما لا أريد وأجبرني عليه لكانت التبعة مرفوعة عنِّي، وكان هو المسؤول عن فعلي القَسْري الذي لا اختيار لي فيه البتة.
فالمكلَّف يشعر بداخله بأن ثمة مشيئة خاصة به تتيح له مساحة واسعة من الاختيارات مما يحب وما يكره، وبناءً على هذا الاختيار البشري يحاسب، فيكافأ أو يعاقب أو يجازى، فأهل الجنة يقال لهم: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون } [الطور: 19]، وأهل النار يقال لهم: {مَّصْفُوفَةٍ } [السجدة: 14]، فلم يعاقبوا على ما لم يذنبوه.
فالقدر ليس حجة تسوِّغ فعل المعصية وركوب الضلال وتنكب الصراط، ولا حجة للفاشلين والجاهلين والمتخلِّفين بالقدر، فهم لم يحاولوا الأمر ولم يعالجوه، ولا تعاطوا أسبابه فأخفقوا.
لماذا يكون الجهل والفقر والمرض «قدرًا»، ولا يكون العلم والسعي والتخطيط «قدرًا» كذلك؟!
إن من أعظم الأخطاء توظيف القضاء والقدر للاحتجاج به على المعايب وعلى الذنوب وعلى الأخطاء، وإنما القضاء والقدر يُحتج به- كما يقول العلماء- في المصائب، لا في المعايب.
ومعنى ذلك: أن المرء إذا أُصيب بموت قريب، أو شيء خارج عن إرادته، فله أن يحتج بالقدر: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، أما أن نجعل القضاء والقدر تكأة نهرب إليه من مواجهة مسؤولياتنا التي كلَّفنا تعالى بها، فهذا تشبُّه بالمشركين، ولو كان العبد مجبورًا جبرية مطلقة على الفعل لم يكن للأمر الشرعي ولا للنهي معنى؛ فالتكليف دليل على أن الإنسان قادر على ذلك، مختار مستطيع أن يفعل أو لا يفعل، فهذه من الأشياء التي ينبغي على الإنسان أن يرعاها بصورة جيدة، وأَلَّا يجعل مسألة القضاء والقدر سببًا في قعوده عن العمل، أو تأخره، أو كثرة التفكير والجدل حولها، بما لا طائل تحته!
* {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر }:
فالله تعالى على كل شيء قدير، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون } [يس: 82]، وقوله: {وَاحِدَةٌ } أي: كلمة واحدة، وهي {كُن }.
{كَلَمْحٍ بِالْبَصَر } ومن ذلك: الساعة التي ذكرها هنا؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77]، يعني: بل هو أقرب من لمح البصر، فلما يقول: {كَلَمْحٍ بِالْبَصَر } أي: مثلما تغمض عينك وتفتحها، أو تلمح بسرعة، فهكذا يقع أمر الله سبحانه، فهو أقرب من ذلك، ولكن هذا لتقريب الأمر إلى عقولنا.
* {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر }:
أي: أهلكنا الذين من قبلكم، أفلا تعتبرون بهلاكهم؟! وسماهم: أشياعًا؛ لأنهم مثلهم في الجهل والضلال والإعراض.
* {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر }:
أي: مكتوب {فِي الزُّبُر }، و {الزُّبُر } جمع: زَبُور، والزَّبْر- بفتح الزاي وسكون الباء-: الكتابة، فكل ما فعلوه مكتوب عنده سبحانه مُحْصَى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى }.
* {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَر }:
أي: مسطور مكتوب، صغيرًا كان أو كبيرًا، من أحوال الأمم والأفراد، والحركة، والنظرة، إلا اللَّغو الذي ليس فيه حساب ولا تكذيب، ولا ثواب ولا عقاب.
والله تعالى يذكر هذه الأشياء ليس من أجل أن نتجادل، ما معنى مكتوب؟ وأين؟ وما هذا الكتاب؟ وما شكله؟ وما لونه؟ وهل هي كتابة حقيقية مثل الكتابة التي نعقلها نحن أم شيء مختلف؟
هذا غيب عند الله سبحانه، والمقصود أن يكون في قلوبنا يقظة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } [المؤمنون: 115]، فكل شيء مكتوب، وحين تستحضر هذه الحقيقة الغيبية فإنك تكون على نفسك رقيبًا تحجزها عن التعدِّي باللِّسان أو الجوارح.
إنها قيمة عظيمة للإنسان أن تكون أعماله كلها مكتوبة مَحْصيَّة عليه، وإذا كان الناس يستميتون لأن يُكتب عنهم في التاريخ- ولو سطر أو سطور- فكيف يغفلون عن أنهم مكتوبون بالتفصيل في كتاب حافظ، لا تزوير فيه ولا تردد، و {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]، ويُنشر بين الخلق {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة } [المعارج: 4]، والصالح البار يعرضه ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه } [الحاقة: 19]، والفاجر الشارد يتأوَّه ويقول: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه } [الحاقة: 25- 26].
* {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر }:
ختم تعالى بهذا الختام العظيم الرائع، والآية وإن جاءت بـ {جَنَّاتٍ } بصيغة الجمع، {وَنَهَر } بصيغة المفرد، إلا أن المقصود الجنس، أي: وأنهار، {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [البقرة: 25].
فعندهم المآكل والمشارب من الجنَّات والأنهار، وعندهم الأُنس والفرح الذي لا ينقطع في مقعد الصدق، وهذا وعد الصدق، والله تعالى صادق لا يخلف الميعاد، والذين قعدوا هذا المقعد هم الصادقون، {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119]، {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون } [الأحقاف: 16].
فالصدق خُلق نبيل نَفِيس، يريد الله سبحانه وتعالى ممن ينتظرون هذا المقعد أن يتحلَّوا به: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين } [التوبة: 119].


: الأوسمة



التالي
مدرسة رمضان تفتح أبوابها
السابق
القره داغي "أسبوع القدس العالمي" حرك ضمائر الأمة.. وأثمن جهود المرابطين والعلماء أبرزهم "الشيخان عكرمة صبري ورائد صلاح"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع