القروض الدولية.. رؤية شرعية
د . مسعود صبرى
في خضم الانتكاسات الاقتصادية، ظهرت القروض الدولية، بحيث تستدين بعض الدول الفقيرة من الدول الغنية، وذلك لأغراض عديدة، منها: سد العجز في الموازنة العامة، ودفع رواتب الموظفين، وبناء مشاريع خاصة فيما يتعلق بالبنية التحتية، أو غيرها من أهداف اقتراض الدول بعضها من بعض.
لعل الحاجة إلى اقتراض الدول من بعضها أصبحت أكثر حاجة وانتشاراً بعد جائحة «كورونا» التي كان لها تأثير أكبر على الاقتصاد العالمي، وبالأخص فيما يتعلق بالاحتياجات الصحية واستطاعة شراء الدول اللقاح المضاد للفيروس الذي تحتاجه الدول بالملايين حسب عدد سكان كل دولة من الدول المحتاجة، بالإضافة إلى الأهداف الأخرى التي زادت بعد جائحة «كورونا».
شروط الاقتراض الدولي:
تختلف شروط اقتراض الدول من دول أخرى، أو من جهات دولية داعمة، ويتوقف الاقتراض على عدد من الشروط حسب الجهة المانحة، من ذلك: سعر الفائدة التي تتحصلها الجهة الدائنة، وكذلك مدة السداد التي يُردّ القرض خلالها، والضمانات التي تضمن من خلالها الجهات المانحة رد القروض إليها، ويدخل في ذلك ما يعرف بفترة السماح، وهي التي تمنح للجهة المقترضة في عدم السداد.
كما أنه يدخل في تصوير المسألة دخول بعض الشروط على الاقتراض، من ذلك: أن تشترط الجهة المقرضة على الجهة المقترضة استيراد منتجات معينة من دولتها، أو نقل واردات الجهة المقترضة على سفنها، وقصر تنفيذ المشروعات الممولة على شركات الدولة المقرضة، وغير ذلك من الشروط.
الحكم الشرعي في الاقتراض الدولي:
الأصل في الشريعة أنه لا فرق بين الاقتراض الفردي والاقتراض الجماعي، والاقتراض الدولي؛ فما دام قرضاً بفائدة، فهو الربا الذي حرَّمه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن الربا محرَّم من جهة الفعل لا من جهة الفاعل.
والأدلة على تحريمه كثيرة، من ذلك، قول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة: 276)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (البقرة: 278)، بل توعد الله تعالى آكلي الربا بسوء أحوالهم وتخطبهم في الحياة، كما قال سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: 275)، ورد على من يدعي أنه يقترض للتعامل التجاري وأنه مثل البيع، بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).
وعدَّه النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، وورد عن ابن مسعود قوله: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه».
كما أن الربا محرم في كل الديانات السماوية، فلم يحل في دين قط، كما قال تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ) (النساء: 161).
قال السرخسي (في أحكام القرآن، 4/465): ذكر الله تعالى لآكل الربا خمساً من العقوبات؛ إحداها: التخبط، قال الله تعالى: (لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).
الثانية: المَحْق، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا)، والمراد الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع حتى لا ينتفع به، ولا ولده بعده.
الثالثة: الحرب، قال الله تعالى: (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة: 279).
الرابعة: الكفر، قال الله تعالى: (وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، وقال سبحانه بعد ذكر الربا: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)؛ أي: كَفار باستحلال الربا، أثيم فاجر بأكل الربا.
الخامسة: الخلود في النار، قال تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقر: 275).
وقد صدرت فتاوى المجامع الفقهية بتحريم الاقتراض الربوي من البنوك، وعلى رأسها مجمع البحوث الإسلامية بمصر، قبل أن يغيِّر فتواه في الآونة الأخيرة.
التفريق بين الأفراد والدول:
إن الحكم بحرمة الربا بالنسبة للأفراد، والحكم بحله للدول اجتهاد فاسد، لا مستند له شرعاً؛ فالحرام في شريعة الله حرام على الجميع، بل ربما كان عند الدولة من الإمكانات والطاقات والسبل في سد الحاجة ما ليس عند الأفراد.
وتشدد الحرمة في الربا من جهة الدولة كون فعل ولي الأمر قدوة لمن يحكمهم من الشعب، فإذا تجرأت الحكومات على الاقتراض بالربا؛ سهل أخذ الربا المحرم على الأفراد؛ فكان إثم الحكومات من هذه الجهة أعظم، وفي الحديث: «ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً».
كما أن اقتراض الدولة يعد من باب قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن سنَّ في الإسلام سُنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء».
مآلات الاقتراض الدولي:
ومما هو معلوم لدى المختصين أن الاقتراض الدولي اليوم ليس مجرد اقتراض عادي يتوقف عند حد أخذ مال ورده بالزيادة التي يعد من الكبائر، لكنه مع هذا قد يدخل –أحياناً- في الخيانة للمسلمين، ذلك أن الاقتراض الدولي له تبعات سياسية، فمن خلال هذه القروض تتدخل الجهات المانحة للقروض، التي غالباً ما تتبع القوى الدولية في فرض بعض السياسات داخل الدول المقترضة، بما في ذلك الدول الإسلامية، ما يعد مساساً بحرية تلك الدول، وإذا استصحبنا نظرية التدافع بين الدول، عرفنا أن تدخل الدول المانحة للاقتراض سياستها تصب في مصلحتها، مما يترتب عليه المفاسد للدول المقترضة.
كما أنه من خلال تجارب الاقتراض الدولي، فإن هذ التجارب لم تحقق مقصودها من التنمية والاستقرار في الدول المقترضة، بل ما زالت الآثار السلبية قائمة، كما يعد الاقتراض لوناً جديداً من ألوان الاستعمار، وهو ما عبر عنه مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق: «نحن لا نريد استعماراً ثالثاً»، رداً على رفضه للديون الصينية لتمويل ثلاثة مشاريع ألغاها، كما فعلت سيراليون حين ألغت تمويلاً صينياً لبناء مطار.
والواقع يشهد أن الدول المقترضة تتعرض لما يمكن أن يسمى «استعماراً جديداً»؛ ففي سريلانكا حصلت الصين على 85% من حصة مرفأ «هامبانتونتا» الإستراتيجي، وفي كينيا اضطرت لرهن أكبر وأهم مرفأ بها «ميناء مومباسا» للحكومة الصينية، كما استحوذت إحدى الشركات الصينية على ميناء غوادر الإستراتيجي في باكستان لمدة 40 عاماً، وستمتلك الشركة 85% من إجمالي إيراداته، وفي بنجلاديش وضعت الصين يدها على أكبر وأهم ميناء بحري فيها وهو مرفأ «شيتاغونع»، بل أكد الخبراء أن الدول الدائنة تتدخل في السياسات الاقتصادية للدول المقترضة، وأنها لم تأت لأجل التنمية، بل لتمد يدها داخل الدولة المقترضة.
متى يباح الاقتراض الدولي؟
والاقتراض للأفراد والدول حرام إلا لضرورة، بناء على ما قرره الفقهاء في قواعدهم: «الضرورات تبيح المحظورات»، التي يشهد لها القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة: 173).
وقد وضع الفقهاء شروطاً للعمل بالضرورة، من أهمها: أن تكون الضرورة ملجئة، وأن تكون قائمة لا منتظرة، وألا تكون هناك وسائل أخرى مباحة غير ارتكاب ذلك المحرم، وأن يتعين دفع الضرر بارتكاب هذا المحرم.
والمطلوب شرعاً إعادة النظر الاقتصادي في حاجة الدولة، والنظر إلى الاكتفاء الداخلي، وتحقيق التكامل الاقتصادي أولاً، فإن سدت جميع الأبواب؛ وجب القيام بدراسة اقتصادية شرعية تجمع بين الخبراء الاقتصاديين والشرعيين والسياسيين ليقرروا الأصلح للبلاد، غير مدفوعين بتوجه محدد سلفاً.