الرابط المختصر :
من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
(سورة الرحمن)
الحلقة الثالثة عشر
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
* تسمية السورة:
تُسَمَّى: «سورة {الرَّحْمَن }» في المصاحف، وكتب السنة، والتفسير، وجاء هذا مرفوعًا في غير ما حديث.
وسمَّاها السُّيوطي، وغيره: «عروس القرآن»، وقد جاء في ذلك حديث عند البيهقي، وعلى القول بصحته فهذا وصف للسورة وبيان لفضلها، وليس اسمًا؛ ولذا لم يذكره المعنيون بأسماء السور.
* عدد آياتها: ثمان وسبعون آية، أو سبع وسبعون؛ باعتبار أن {الرَّحْمَن } عند بعضهم لا تُعدُّ آية مستقلة، أو ست وسبعون آية؛ باعتبار أنهم مختلفون في عدد من الآيات فصلًا ووصلًا، كآية: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُون * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن } هل هي آية أم آيتان، ثلاثة أقوال لعلماء العدِّ.
* وهي مكية على الراجح.
وقد قيل في سبب نزولها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعقد مع المشركين صلح الحُدَيْبِيَة قال لعلي رضي الله عنه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم». فقال سُهيل بن عمرو: أما «الرحمنُ» فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهمَّ، كما كنتَ تكتبُ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتب: باسمك اللهمَّ». ونزلت هذه السورة.
فعلى هذا تكون مدنية، ولكن الراجح أن السورة مكية، ولا يلزم أن يكون لها سبب نزول خاص، لكن العرب كانوا لا يعرفون هذا الاسم في الجاهلية.
وأقرب من ذلك أن يكون نزول السورة جوابًا على استنكارهم لعبادة الله الرحمن، كما في «سورة الفرقان»: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } [الفرقان: 60]، فجاء الجواب: {الرَّحْمَن * عَلَّمَ الْقُرْآن * خَلَقَ الإِنسَان * عَلَّمَهُ الْبَيَان }.
وقد ورد أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ هذه السورة في مكة عند الكعبة، فضربوه وكادوا يقتلونه.
وهذا من العجب، فالنفوس المليئة بالظلمة لا تطيق الحديث عن الرحمة ومتعلَّقاتها، وتكاد تسطو بالذين يتلون عليها آيات الله الرحمن الرحيم.
* ومن لطائف الكتاب العزيز أن تكون سورة كاملة تسمى بـ {الرَّحْمَن }، وأن يختار الله تعالى هذا الاسم ليجعله افتتاحًا لها، وهو اسم يتضمَّن صفة الرحمة، ولا يُسَمَّى به غير الله عز وجل، بخلاف بقية الأسماء، كالرَّحيم، أو العزيز، أو الحَكِيم، فإنه قد يُوصف بها بعض العباد، أما {وَقَالَ } و{الرَّحْمَن } فلا يُسمَّى بهما إلا الله عز وجل {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا } [الإسراء: 110].
هذا التخصيص فيه كثير من الإيحاءات والمعاني: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54]، التعرُّف إلى الله تعالى برحمته، الطمع في رحمته، الشعور برحمته في كل ما حولنا، انتظار رحمته، وهو يقول: «أنا عندَ ظَنِّ عبدي بي، فليظُنَّ بي ما شاءَ». فلنظن بربنا الرَّحمن الرَّحيم أن يسرع إلينا بالخير، وأن يفيض علينا من جُوده وبركته ورحمته، وأن يعفو عن ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يجمع شملنا، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا.
إن التعرف إليه سبحانه من بوابة الرحمة، فيه معنى جميل، وهو لا ينافي الخوف؛ ولهذا تضمَّنت السورة الكريمة تلك الآية العظيمة، وهي قوله سبحانه:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان }.
* {الرَّحْمَن }:
ها هنا كلمة وآية واسم ومبتدأ وخبر، يمتلأ بها الفم نطقًا، والعقل تألهًا، والرُّوح إشراقًا، والقلب إخباتًا.
{الرَّحْمَن }: الرحمة صفته، وفعله، وشأنه، وخلقه، وشرعه.
{الرَّحْمَن }: الذي وسعت رحمته كل شيء، وسبقت رحمته غضبه، وبرحمته يتراحم العباد والدَّواب والبهائم والطير والوحش والجن والإنس.
{الرَّحْمَن }: الذي خلق مئة رحمة، أنزل منها رحمةً في الدنيا، تشمل كل مظاهر اللُّطْف والفضل والعطف، وادَّخر منها تسعًا وتسعين ليوم الحساب، ولم يرد هذا الوصف والتعداد لشيء آخر من صفاته، فجدير بقارئ القرآن أن يقف طويلًا عند تخصيص هذه السورة وهذا الاسم؛ ليدرك طرفًا من أهميته ومركزيته في معرفة الله والتقرب إليه والدعوة إلى دينه وفتح الأبواب لخلقه.
استفتاح بديع يمكِّن القارئ من إفراد الآية الأولى بنَفَس خاص، ومد الميم، والوقوف على النون؛ لتكون الكلمة مستغنية بذاتها عن كل إضافة، وليأتي بعدها إسناد المجد والحمد والفضل لصاحب الاسم الشريف العظيم المحمود الممدوح.
* {عَلَّمَ الْقُرْآن }:
وهذا أول ما نعت به نفسه، وهو يربط القرآن بالرحمة، فهو رحمة وشفاء للعقول والقلوب والأبدان، للأفراد والجماعات والأمم، رحمة عامة وخاصة، عاجلة وآجلة، ظاهرة وباطنة، فمَن أقبل عليه ظفر، ومَن أعرض عنه حُرم.
{عَلَّمَ الْقُرْآن } بأن أعطى آدمَ عليه السلام وذريته القدرات والعقول والمواهب والمَلَكات اللُّغوية والعقلية على الفهم والتفكير والنطق.
{عَلَّمَ الْقُرْآن } بأن أنزل الوحي على رسله وأنبيائه عليهم السلام، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأيَّدهم بالكتب، وختمها بكتابه العزيز الذي {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ}، فهو تأسيس وتفريع، وتأكيد للنبوة عامة، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وامتنان وفضل.
يدخل فيه معرفة الحروف والألفاظ والتجويد، ومعرفة المعاني والدلالات والأسرار بما يتفاوت الناس فيه تفاوت ما بين السماء والأرض.
ويدخل فيه تيسيره للذكر والتلاوة والفهم والعمل والدعوة، وهو خبر ووعد بأن يظل القرآن حيًّا في نفوس أهله ممن اختارهم الله، فلا يزال فيهم من يعلِّم القرآن ويتعلَّمه ويدعو إليه ويهتدي به، ويهدي إليه، وينشر رحمته في العالمين.
* {خَلَقَ الإِنسَان * عَلَّمَهُ الْبَيَان }:
فهو الخالق سبحانه، وهذه من نعمه وآلائه، وهذا الخلق منطلق من الرحمة، ولذا بدأ بـ {الرَّحْمَن }.
خَلْق الإنسان رحمة، وهذا يُحسب للتصور الإسلامي؛ ففي كثير من عقائد الشعوب يتصورن الآلهة الأُسطورية الوثنية تطاردهم وتلاحقهم وتحاربهم وتمنعهم من العلم والمعرفة، في حين يقرِّر القرآن اسم {الرَّحْمَن } أولًا ليخبر عنه بأنه {خَلَقَ الإِنسَان * عَلَّمَهُ الْبَيَان }، والبيان يشمل الفهم والعقل واللغة؛ لأنه لا قيمة للبيان إذا كان مجرد كلمات وحروف بلا معنى.
فمن تعليم البيان: أن يُعطي الإنسان العقل الذي يُفكِّر ويبدع المعاني والتعبير عنها، وأن يزوِّده بمَلَكات الإبداع والتخيل والقياس والنظر والتحليل والتساؤل والاكتشاف.
ومن تعليم البيان: وضع اللغات، وإلهام الإنسان اللغة؛ ليعبِّر بها عما يريد.
ولذلك يشعر الأصم بنقص كبير بالقياس إلى القادر على الكلام، فالكلام نعمة إبداعية عظيمة، وسبب للتواصل بين الناس، وأداة للتفاهم والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبه ينعقد البيع والشراء والنكاح وسائر العقود والمواثيق، حتى الحرب أولها كلام.
وكما أن السورة أُسِّست بذكر اسم {الرَّحْمَن }، وثنَّت بتعليمه القرآن، فقد أُسِّست مرة أخرى بخَلْق الإنسان، وثنَّت بتعليمه البيان؛ ليكون دليلًا على أن البيان وما يتعلق به من العقل والإنسانية والفهم هو أعظم نعمة وجودية، ولا تتم هذه النعمة إلا بتعلم القرآن وتدبره واتِّباعه.
* {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان }:
السورة سورة الآلاء والنِّعَم، ولذلك بدأت بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان؛ إشارة إلى أن الإنسان خُلق لعبادة الله، وانتقل إلى الحديث عن نِعَم في الكون، وبدأ بهذه الأجرام الضخمة التي يراها الناس ويحسون أثرها.
وقوله: {بِحُسْبَان } أي: بحساب؛ فإن للشمس في طلوعها وغروبها حسابًا، وللقمر حسابًا يعرفه المختصون، ويعرفه الذين يحتاجون إلى ذلك، فهو بحساب لا يزيد ولا ينقص، ولا يتقدَّم ولا يتأخَّر.
وفي الآية إشارة إلى الكون المضبوط بنواميس دقيقة يدركها الإنسان بعقله وتجربته، والقرآن هو الهادي والحادي والمحفِّز إلى النظر والتفكير والتأمل والكشف.
* {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان }:
النجم هي: النجوم المعروفة، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } [النجم:1]، والشجر معروف، أخبر عنهما بأنهما {يَسْجُدَان }، وهذا فيه معنى السجود لله؛ لأنها تطيع الله سبحانه وتعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء: 44]، فكلها تسجد لله، والكون يسبِّح له، فليكن الإنسان منسجمًا مع هذا الكون في عبوديته وسجوده، ولا يشذ فيعصي ويخالف.
ويجوز أن يكون المقصود بالنجم هنا: النبات الصغير الملتصق بالأرض، والشجر هو: الشجر الذي له ساق.
ولك أن تتخيَّل هذا الشجر وذلك النبت والزرع يؤدِّي واجب الشكر والسجود للخالق المُنعم جلَّ وعزَّ، أليس خَلِيقًا بالإنسان الذي أُوتي مشاعر وعقلًا أن يكون كذلك؟!
وفي الآية تناسب مع خلق الإنسان وتعليمه البيان؛ لأن البيان ومتعلِّقاته يدل على العقل والتفكير والاختيار الممنوح للإنسان، والذي بمقتضاه حصل التكليف وترتَّب الإيمان والكفر، فناسب أن يذكر المخلوقات الأخرى الشريكة له في الوجود والخلق، والمنفردة بالتسخير، حيث تطع الله وتمضي وفق ناموسه ساجدة لا تتردَّد.. أفيجدر بالإنسان المميِّز المكلَّف أن يكون أقل مرتبة منها؟!
* {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان }:
وهنا تناسب بين رفع السماء والناس يرونها، وبين وضع الميزان.
والميزان يجوز أن يكون هو الآلة التي يزن الناس بها الأشياء.
ويجوز أن يكون المقصود بالميزان العدل نفسه، وهو الأولى؛ لأن الميزان ليس سوى آلة العدل.
ولك أن تفكِّر: ما سر المزاوجة بين السماء والميزان؟ لتدرك أن السماء رُفعت بالحقِّ والعدل أيضًا، فبالعدل قامت السماوات والأرض، فالسياق إذًا حديث عن عدالة الله الكونية القدرية، وعن عدالة الإنسان التي ائتُمن عليها وكُلِّف بها.
إن وضع «الميزان» في الأرض مقابل «رفع السماء»، وأن عدالة الأرض دنيوية عابرة يعتريها ظلم الإنسان وجَوْره وأنانيته، ويقابلها الآخرة والميزان القِسْط:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأنبياء: 47].
* {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَان * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان }:
فأمرهم أن يَعْدِلوا، فلا يزيدوا ولا ينقصوا، فقال: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَان } يعني: بالزيادة، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } يعني: بالعدل، {وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان } بالنقص؛ ولهذا قال سبحانه {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون } [المطففين:1- 3]، أمرهم بالعدل الذي يكون في كل شيء:
العدل في المشاعر، فلا يبالغ المرء في الحب، فيعميه ذلك عن العيوب والأخطاء، ولا يبالغ في البغض مبالغة تعميه عن الحسنات والفضائل، وإنما «أَحْبِبْ حبيبَك هَوْنًا ما؛ عسى أن يكون بَغِيْضَكَ يومًا ما، وأَبْغِضْ بَغِيْضَكَ هَوْنًا ما؛ عسى أن يكون حَبِيْبَكَ يومًا ما»، كما قال عليٌّ رضي الله عنه، ويُروى مرفوعًا، والموقوف أصح.
والعدل في الحكم على العدو؛ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة: 8]، والحكم على الصديق، فلا يحابيه ولا يجامله: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } [النساء: 105]، وقال سبحانه: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [النساء: 135].
العدل مع النفس ومع الآخرين، العدل في القول والفعل، العدل في الأخذ والترك، العدل في العطاء والمنع، العدل في الأخلاق والموازين والمواقف، ولذا قيل: إن العدل مطلوب في كل حال، وفي كل وقت، ولكل أحد، فلا يوجد حالة يتخلَّف فيها العدل، حتى الحرب والعداوة والبغضاء..
ومن دلالة الميزان ومعناه: التوازن في إعطاء الأشياء قدرها، فقد {جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 3]، وأكثر ما يواجه الناس عدم القدرة على معرفة «فقه المقادير»، دون مبالغة وإسراف، فثَمَّ مَن يتَّجه للعلم، فيهمل العبادة، أو يتَّجه للعبادة، فيهمل الدنيا، أو يهتم بأولاده وأسرته وزوجته، فيهمل عمله، أو يهتم بعمله على حساب صحته، أو يهتم بالصحة على حساب العمل والإنجاز، أو يهمل جانبًا ما كالسياسة، أو ينغمس فيها دون حساب، أو يختلط بالناس فيكثر، أو يباعدهم فينعزل.
والقدرة على الانضباط والتوازن بين المتقابلات لا تتأَّتى بين يوم وليلة، بل هي محاولة دائمة متراكمة يصل بها المرء إلى مقاربة العدل والوسط الخيار، كما في حديث: «سدِّدوا، وقاربوا، واغْدُوا ورُوحوا، وشيءٌ من الدُّلْجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا».
وهذا جزء من معاني قوله سبحانه: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم } الذي نقوله في كل ركعة، وعلى مدى الحياة، فأنت على صراط مستقيم، لكن هناك ما هو أكثر دقة وأكثر استقامة مما أنت فيه، وقد يبدو للإنسان أنه منضبط متوازن، وقد أَعْطَى كلَّ شيء حقَّه، فأعطى العلم حقَّه، والعبادة حقَّها، والدنيا حقَّها، والآخرة حقَّها، والوالدين حقَّهما، والزوجة حقَّها، والعمل حقَّه، وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكن بعد تجارب يكتشف أن ثمة مستوى من الميزان والانضباط والتوازن أفضل وأحسن مما هو فيه، وهذا يجعل المؤمن مستغرقًا في تطوير ذاته وتحسين أدائه حتى آخر لحظة: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين } [الحجر:99].
* {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَام }:
لا يوجد في القرآن الكريم لفظ: «الأنام» إلا في هذا الموضع، وكثير من علماء اللغة لم يذكروا كلمة «الأنام».
وقد اختلفوا في المقصود بها: فقيل: الأحياء، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأجود منه- وهو مروي عن ابن عباس أيضًا وغيره-: أنهم البشر، وسياق الآية يرجِّحه؛ لأنه في مقام الامتنان والاعتناء بالبشر، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29].
وهذا يشبه دعاء إبراهيم عليه السلام حين قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }، فقال له ربه سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [البقرة: 126]، فمتاع الحياة الدنيا لا يختص به المسلم دون غيره، والأرض لله تعالى {وَضَعَهَا لِلأَنَام } للبشر كلهم.
إنها دعوة إلى التعايش بين البشر، وأَلَّا يتزاحموا، بل يتراحموا، فالأرض تتَّسع لهم جميعًا، أحياءً وأمواتًا، ولهم فيها معايش ومنافع، وقد سلك الله لهم فيها سُبُلًا وطرائق في الضرب والانتفاع.
* {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَام }:
وضع تعالى الأرض وأودع فيها ما يكفل للناس غذاءهم ومصالحهم.
والفاكهة مفرد، يعني: الفواكه، وهي: الثمار النباتية التي تُؤكل عادة دون طبخ، كالتفاح والبرتقال، وإنما ذكرها تعالى هنا على سبيل أن ما فوقها مما تقوم به الحياة موجود؛ لأنها تُؤكل تفكُّهًا وتلذُّذًا، فوجود الضروري أولى، وفي الفواكه منافع صحية جمة مما امتن تعالى به علينا، ولذلك ذكر وجوده في الجنة.
{وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَام }: النخل من الفاكهة، بل هي سيدة الفواكه، ووصفها بـ {ذَاتُ الأَكْمَام } إشارة إلى الجانب الجمالي فيها، وهي الأوعية التي يكون فيها الطلع، ومفردها: كِم، بكسر الكاف، والجمع: أكمام.
يُروى أن قيصرَ ملكَ الرُّوم كتبَ إلى عمرَ رضي الله عنه: إن رُسُلي أتتني من قِبَلك، فزعمتْ أن قِبَلَكم شجرةً ليست بخَلِيقة لشيء من الخير، يخرجُ مثلُ آذان الحميرِ، ثم تَشَقَّقُ عن مثل اللُّؤْلؤ، ثم يخضرُّ فيكونُ مثلَ الزُّمُرُّد الأخضر، ثم يحمرُّ فيكونُ كالياقوت الأحمر، ثم ينضجُ فيكونُ كأطيب فالُوذَج يُؤكلُ، ثم تَشَقَّقُ فتيبسُ فتكونُ عصمةً للمقيم، وزادًا للمسافر، فإن تكن رُسلي صدقتني، فلا أرى هذه الشجرةَ إِلَّا من شجر الجنة.
فكتبَ إِليه عمرُ رضي الله عنه: «من عَبد الله عُمَرَ أمير المؤمنين إلى قيصرَ ملك الرُّوم: إن رُسلكَ قد صَدَقَتْكَ؛ هذه الشجرةُ عندنا التي أنبتها اللهُ عز وجل على مريمَ عليها السلام حتى نَفَسَتْ بعيسى ابنها، فاتَّقِ اللهَ عز وجل ولا تتَّخذ عيسى إلَهًا من دون الله عز وجل، فـ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِين } [آل عمران: 60]».
وذكر {الأَكْمَام } هو إشارة أيضًا إلى الجانب المنفعي الجوهري في النخل، حيث هي الثمرة التي تطلع كل سنة مرة، فتكون قوتًا للناس سنتهم كلها.