الرابط المختصر :
الحملات الصليبية ومذبحة القدس العظيمة
بقلم: د. علي الصلابي
يذكر ابن الأثير: أنَّ الصليبيين قتلوا في المسجد الأقصى ما يزيد عن سبعين ألفاً، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعبَّادهم وزهَّادهم، أما من كان في القدس من اليهود في هذه الأثناء ـ وكان افتخار الدولة قد سمح لهم بالبقاء في المدينة، بينما أمر المسيحيين بالخروج منها خشية أن يتعاطفوا مع أبناء دينهم ـ فقد لجؤوا إلى كنيسهم، إلا أنَّ المقاتلين الصليبيين حشروهم جميعاً في معبدهم الكبير حيث لجؤوا، وأحرقوا المعبد، وهم بداخله، فقضوا جميعهم حرقاً بحجَّة: أنهم ساعدوا المسلمين.
ويقول ابن القلانسي في ذلك وهو قد عاش هذه الفترة وزامنها: وقتل خلق كبير وجمع اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم. ويذكر رنسيمان: أن مذبحة القدس تركت أثراً عميقاً في جميع العالم، وأنَّ عدد ضحاياها ليس معروفاً بالضبط، وأنَّ القدس خلت بعد هذه المذبحة من سكانها المسلمين، واليهود، وأنه لم يثر التعصب الإسلامي من جديد إلا التعصُّب المسيحي الذي دلَّ عليه ما لجأ إليه الصليبيون من سفك الدماء.
ويصف الأسقف وليم الصوري هذه المذبحة وصفاً تقشعر له الأبدان؛ إذ يقول: بات من المحال النظر إلى الأعداد الكبيرة للمقتولين دون هلع، فقد انتشرت أشلاء الجثث البشرية في كلِّ مكان، وكانت الأرض ذاتها مغطاة بدم القتلى، ولم يكن مشهد الجثث التي فصلت الرؤوس عنها، والأضلاع المبتورة المتناثرة في جميع الاتجاهات هو وحده الذي أثار الرعب في كل من نظر إليها، فقد كان الأرهب من ذلك هو النظر إلى المنتصرين أنفسهم وهم ملطخون بالدم من رؤوسهم إلى أقدامهم ... ويروي: أنه هلك داخل حرم الهيكل فقط، قرابة عشرة الاف من الكفرة، بالإضافة إلى القتلى المطروحين في كل مكان من المدينة، في الشوارع والساحات؛ حيث قدِّر عددهم أنه كان مساوياً لعدد القتلى داخل حرم الهيكل، وطاف بقية الجنود خلال المدينة بحثاً عن التعساء الباقين على قيد الحياة، والذين يمكنهم أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيقة وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسُحِب هؤلاء على مرأى الجميع، وذبحوا كالأغنام، وتشكل البعض في زمر واقتحموا المنازل حيث قبضوا على أرباب الأسر، وزوجاتهم، وأطفالهم، وجميع أسرهم، وقتلت هذه الضحايا، أو قذفت من مكانٍ مرتفع؛ حيث هلكت بشكل مأساوي.
ووصف شاهد عيان إفرنجي المذبحة التي أحدثها الصليبيون بالقدس بقوله: شاهدنا أشياء عجيبة ؛ إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رمياً بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج .. وكنا نرى في الشوارع أكوام الرؤوس، والأيدي، والأقدام.
ووصف ذلك إفرنجي آخر كان مرافقاً للصليبيين، فقال: كان رجالنا يخوضون حتى كعوبهم في دماء القتلى، وقد انطلق الصليبيون في جميع أنحاء المدينة يستولون على الذهب، والفضة من داخل المساجد، والدور، واستمرَّ الصليبيون في القتل، والنهب لمدة أسبوع. وأصدر قادة الصليبيين أمراً بطرح جثث المسلمين خارج المدينة التي امتلئت بالجثث، فقام بهذه المهمة العدد القليل من المسلمين الذين وقعوا أسرى بيد الصليبيين؛ ولم يقتلوا، وفقراء الجيش الصليبي مقابل راتب يومي، وألقوهم أمام أبواب المدينة، وتعالت أكوامهم حتى حاذت البيوت ارتفاعاً، وما تسنى لأحد قط أن سمع أو رأى مذبحة مثل هذه المذبحة الصليبية: لقد رأينا، في كل شوارع المدينة، وأحيائها تلالاً من الرؤوس، والأيدي، والأرجل، لقد كان الناس يمشون علناً وبهدوء على جثث الرجال والخيل... يستطرد: إنني لا أقدم في وصف هذا سوى القليل من الرعب الذي شاهدته، وإذا أنا وصفت كل ما شاهدته؛ فلن تصدقوني.
وإننا لنستذكر أمام وحشية الحضارة الغربية، وهمجية الروح الصليبية هذه ما قاله المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) إذ قال: لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب.
ولا شك: أنَّ رجال الدين المسيحي لهم دور أساسي في هذه المذبحة، فقد كانوا يحفزون الصليبيين للانتقام للسيد المسيح ابتداءً بالبابا أوربان الثاني، وانتهاء برجال الدين المرافقين للحملة الصليبية.
المصادر والمراجع:
- ابن الأثير، الكامل في التاريخ (8/405).
- حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي، اللواء الركن د. ياسين سويد، دار الملتقى، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1997 م، ص 70.
- عباس الزهاوي القدس عشية الغزو الصليبي ، ص 123.
- علي الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، 598-600.