الصيام والصحة
من كتاب "مجالس رمضانية"
للشيخ سلمان العودة
الحلقة الثامنة
حين يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 184] ، فالخيرية هنا تشمل الدنيا والآخرة، وقد أثبت الطب الحديث بعد دراسات عديدة وأبحاث دقيقة على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية، أن الصيام حالة ضرورية، يجب على الجسم أن يمارسها، حتى يمكِّنه من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، وأنه ضروري لصحة الإنسان كالأكل والشرب تمامًا، وكالحركة والنوم، وهو يقوم بعملية الهدم التي يتخلَّص فيها الجسم من الخلايا القديمة والخلايا الزائدة عن حاجته.
وفي الحديث: «الصيام جُنة». فهو جُنة من أدواء الروح والقلب والبدن؛ مَنافعُه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب في حفظ الصحَّة، وإذابةِ الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولاسيما إذا كان باعتدال وقصد.
ثم إنَّ فيه من إراحة الأجهزة والأعضاء ما يحفظ عليها قواها.
وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية، وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعًا وشرعًا؛ عظم انتفاع قلبه وبدنه به، وحبس عنه المواد الغريبة الفاسدة التي هو مستعِدٌّ لها، وأزال الموادَّ الرديئةَ الحاصلةَ بحسب كماله ونقصانه، وترك الطعام والشراب مقصود، وهو معنى الصوم الشرعي، وهو يحقِّق مصلحة صحية عظيمة.
والمقصود الآخر: اجتماعُ القلب والهمِّ على الله تعالى، وتوفيرُ قُوى النفس على محابِّهِ وطاعته.
ومع أن الصوم عبادة جزاؤها الأجر والثواب في الآخرة، ورضوان المولى جل وتعالى، والطمأنينة في الدنيا بطاعة الله وذكره، وسرور القلب بإنجاز العمل؛ إلا أن من بديع الحكمة والرحمة أن يتعبدنا ربنا بما فيه خيرنا في العاجل والآجل، فتكون العبادات سببًا في العافية وصحة البدن ونظافته، ومن فوائد الصوم القيِّمة للجسد والروح والنفس ما يلي:
1- الصوم راحة للجسم، يمكِّنه من إصلاح أعطابه ومراجعة ذاته.
2- الصوم يُوقِف عملية امتصاص المواد المتبقية في الأمعاء، ويعمل على طرحها، والتي يمكن أن يؤَدِّي طول مكثها إلى تحولها لنفايات سامة، كما أنه الوسيلة الوحيدة الفعالة التي تسمح بطرد السموم المتراكمة في البدن والآتية من المحيط الملوَّث.
3- بفضل الصوم تستعيد أجهزة الإطراح والإفراغ نشاطَها وقوتَها، ويتحسَّن أداؤها الوظيفي في تنقية الجسم، مما يؤدِّي إلى ضبط الثوابت الحيوية في الدم وسوائل البدن. ولذا نرى الإجماعَ الطبي على ضرورة إجراء الفحوص الدموية على الريق، أي يكون المفحوص صائمًا، فإذا حصل أن عاملًا من هذه الثوابت في غير مستواه، فهو دليل على وجود خلل ما.
4- بالصوم يستطيع البدن تحليل المواد الزائدة والترسبات المختلفة داخل الأنسجة المريضة.
5- الصوم أداة يمكن أن تعيد الشباب والحيوية إلى الخلايا والأنسجة المختلفة في البدن. ولقد أكَّدت أبحاثٌ علميةٌ أن الصوم سبب في إعادة الشباب الحقيقي للجسد.
6- الصوم يضمن الحفاظ على الطاقة الجسدية، ويعمل على ترشيد توزيعها حسب حاجة الجسم.
7- الصوم يُحسِّنُ وظيفةَ الهضم، ويسهِّل الامتصاص، ويسمح بتصحيح فرط التغذية.
8- الصوم يفتِّح الذهنَ ويقوِّي الإدراك، وقديمًا قيل: «البِطْنةُ تذهب الفِطْنةَ».
9- للصوم تأثيرات مهمة على الجلد، تمامًا كما يفعل مرهم التجميل، يُجَمِّل وينظِّف الجلد.
10- الصوم علاج شافٍ، هو الأكثر فعالية والأقل خطرًا لكثير من أمراض العصر المتنامية؛ فهو يخفِّف العبء عن جهاز الدوران، وتهبط نسبة الدسم وحمض البول في الدم أثناء الصيام، فيقي البدين من الإصابة بتصلب الشرايين، وداء النقرس، وغيرها من أمراض التغذية والدوران وآفات القلب.
وهكذا، وبعد أن ينظِّف الجسم من سمومه، وتأخذ أجهزته الراحة الكاملة بسبب الصوم؛ يتفرغ إلى لأم جروحه وإصلاح ما تلف من أنسجته، وتنظيم الخلل الحاصل في وظائفها؛ إذ يسترجع الجسد أنفاسه ويستجمع قواه لمواجهة الطوارئ بفضل الراحة والاستجمام اللذين أُتِيحا له أثناء الصوم.
وهذه عشر فوائد للجوع المنضبط بالصوم الشرعي:
الأولى: صفاء القلب، وإيقاد القَرِيحة، وإنفاذ البصيرة؛ فإن الشبع يُورِث البَلَادة، ويعمي القلب، فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك.
الثانية: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيَّأ لإدراك لذة المثابرة والتأثُّر بالذكر، فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب، ولكن القلب لا يلتذُّ به ولا يتأثر، وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثُّره بالذكر وتلذُّذه بالمناجاة، وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه.
الثالثة: الانكسار والذل، وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى؛ فإن الجوع يكشف للإنسان ضعفه وعجزه ومحدودية قواه، ولا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع.
الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه، ولا ينسى أهل البلاء؛ فإن الشبعانَ ينسى الجائعَ، وينسى الجوعَ.
الخامسة: كسرُ شهوات المعاصي، والاستيلاءُ على النفس الأمَّارة بالسوء؛ فإن منشأَ المعاصي الشهواتُ، ومادة الشهوات الأطعمة، فتقليلها يضعف الشهوة، وإنما السعادة كلُّها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكَه نفسُه.
ولا شيء يدمِّر قوى البشر اليوم مثل الإدمان السلبي على العادات الضارة، فالإدمان دافع كافٍّ ليفعل الإنسان ما اعتاد، حتى لو كان فيه عطبه وهلاكه.
السادسة: دفع الكسل والخمول؛ فإنَّ مَن شبع واكتظ، أُتْخِم وكثر نومه، ولأجل ذلك قال بعض السلف: «لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فترقدوا كثيرًا، فتخسروا كثيرًا».
وفي كثرة النوم والخمول: ضياع العمر، وبلادة الطبع، وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر، وهو رأس مال العبد.
السابعة: تيسير المواظبة على العبادة؛ فإنَّ الأكل بنَهَمٍ يمنع من كثرة العبادات؛ لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وزمان للاسترخاء والهضم، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام ومئونته وغير ذلك.
الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن، ودفع الأمراض التي سببها كثرة الأكل، والمرض يعوق عن العبادات، ويشوِّش القلب، ويمنع من الذكر والفكر، وينغِّص العيش، ويُحْوِج إلى الدواء والطبيب.
التاسعة: خفة المئونة والاقتصاد في النفقة؛ وقد أصبح الناس يتفنَّون اليوم في تنويع المطاعم والمشارب، ويبالغون فيها مما يأكلون وما لا يأكلون.
وهذا يقود إلى الفائدة العاشرة، وهي: أن يتمكَّن من الإيثار والتصدُّق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فينعم يوم القيامة بفضل صدقته.
نسأل الله أن يصلح قلوبنا ويطهر ألسنتنا ويستعمل جوارحنا في طاعته ويعيننا على الصيام والقيام في شهر رمضان..