مع الرسول (ﷺ) في الصوم
مجالس رمضانية
الحلقة العاشرة
بقلم: فضيلة الدكتور سلمان العودة (فرج الله عنه)
11 رمضان 1442ه/ 23 إبريل 2021م
كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم أحسن الهدي وأكمله وأصحه وأسهله، وقد كان يكثر من العبادات في رمضان، ويجتهد ما لا يجتهده في غيره؛ وكان يكثر من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف وغيره.
وكان لرمضان عنده مَزِيَّة لا يخص بها غيره، حتى إنه كان يواصل فيه ليوفِّر ساعات ليله ونهاره للعبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال؛ معلِّلًا ذلك بأنَّه ليس كهيئتهم، وأنَّه صلى الله عليه وسلم يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه.
لها أَحادِيثُ مِن ذِكْـراكَ تَشْغَـلُـها عن الشراب وتلهيها عـن الزَّادِ
لها بوجهك نُــورٌ تَسْتَــضِـيءُ بـهِ ومن حديثك في أَعْقابها حـادِي
إذا شكتْ من كلالِ السيرِ أَوْعدها روحُ القدومِ فتحيا عـند ميعادِ
وكان صلى الله عليه وسلم يعجِّل الفطرَ ويرغِّب فيه، ويتسحَّر ويؤخِّره ويحضُّ عليه. وكان من هديه الفطر على الرُّطب، فإن لم يجد فعلى التمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وهذا مراعاة للطبيعة بدخول الحلو على خلو في المعدة، وانتفاع الكبد بعد الصوم بالماء فيه من الإعجاز ما لا يخفى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رُطبات قبل أن يصلِّي، فإن لم تكن رُطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حَسَا حَسَوَات من ماء».
وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: «ذهب الظَّمأُ، وابتلَّت العروق، وثبت الأَجر إِنْ شاء الله».
وقد صام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأفطر في سفره، وخيَّرَ أصحابَه بين الفطر والصوم، وكان يأمرهم بالفطر أحيانًا إذا دنوا من قتال عدوهم.
وقد كانت أعظم غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأجلها في رمضان، وهي غزوة بدر والفتح، قال عُمر بنُ الخطاب رضي الله عنه: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين؛ يوم بدر، والفتح، فأَفطرنا فيهما».
وأدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم الفجرُ يومًا في رمضانَ وهو جنبٌ من أهله، فاغتسل بعد الفجر وصام، ففي «صحيح مسلم» عن سليمان بن يسار، أنه سأل أمَّ سلمةَ رضي الله عنها عن الرجل يُصبح جنبًا، أيصومُ؟ قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصبحُ جنبًا من غير احتلام، ثم يصومُ». وفي «الصحيحين» عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما مثله.
ورحمة بأمته صلى الله عليه وسلم كان من هديه إسقاط التبعة عمَّن أكل أو شرب ناسيًا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نسي وهو صائمٌ، فأكلَ أو شربَ، فليتمَّ صومَه؛ فإنما أطعمه اللهُ وسقاه».
ولم يصح عنه شيء في النهي عن الكحل للصائم، وكان يستاك وهو صائم، ولا فرق في ذلك بين أول النهار وآخره.
وكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقالَ: لا يفطرُ. ويفطرُ حتى يقالَ: لا يصومُ. ففي «الصحيح» عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُ حتى نقولَ: لا يفطرُ. ويفطرُ حتى نقولَ: لا يصومُ. فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استكمَل صيامَ شهرٍ إلا رمضانَ، وما رأيتُه أكثرَ صيامًا منه في شعبانَ».
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أول الأمر يصوم يوم عاشوراء قبل أن يُفرضَ عليه صيامُ رمضانَ، وذلك حين قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟». قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغَرَق فرعونَ وقومه؛ فصامه موسى شكرًا؛ فنحن نصومه. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأَوْلى بموسى منكم». فصامه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه.
وفي «الصحيحين» من حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذٍ رضي الله عنها قالت: أرسَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراءَ إلى قُرَى الأنصار التي حول المدينة: «مَن كان أصبَح صائمًا، فليتمَّ صومه، ومَن كان أصبَح مفطرًا، فليتمَّ بقية يومه». أي يمسك بقية يومه. فكنا بعد ذلك نصومُهُ، ونُصَوِّمُ صبيانَنَا الصغارَ منهم، ونذهبُ إلى المسجد، فنجعلُ لهم اللُّعبةَ من العِهْنِ -أي: الصوف- فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه ذاك، حتى يكون عند الإفطار.
فلما فُرِضَ رمضان كان صوم عاشوراء سُنَّة؛ مَن شاء صامه، ومَن شاء تركه. وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان بعرفةَ أفطرَ؛ ففي «الصحيحين» عن أُمِّ الفَضْلِ بنت الحارث رضي الله عنها، أن ناسًا اختلفوا عندها يومَ عرفةَ في صوم النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُهم: هو صائمٌ. وقال بعضُهم: ليس بصائمٍ. فأرسلتُ إليه بقدحِ لبنٍ وهو واقفٌ على بعيره، فشربه.
وكان من سماحته ولين جانبه مع أهله وتعامله بتلقائية تامة، أنه دخل عليهم ذات يوم فقال: «هل عندكم شيءٌ؟». قالوا: لا. قال: «فإنِّي إذًا صائمٌ». ثم أَتاهم يومًا آخر، فقالوا: يا رسولَ الله، أُهْدِي لنا حَيْسٌ. فقال: «أَرينيه، فلقد أَصبحتُ صائمًا». فأَكلَ.
وكان يكره تخصيص يوم الجمعة بصوم، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم ذلك بالفعل والقول، ففي «الصحيح» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصومنَّ أحدُكم يومَ الجمعة، إلا يومًا قبله أو بعده».
وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان العشر الأواخر منه حتى توفَّاه الله، وتركه مرة فقضاه في شوال. وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام، فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا. وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة، فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين. وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده، وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان. ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكِف، لا بقبلة ولا غيرها، وكان إذا اعتكف طُرح له فراشه ووُضع له سريره في معتكفه.
وخير الهَدي هَدي محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى الصائم أن يتعلَّم الـهَدي النبوي، ويسعى وسعه في التأسِّي به، في قوله وفعله وقراءته وسمته وأخلاقه، فمَن اقتدى به، فخَلِيقٌ أن يُحشر معه، وأن يَرِدَ حوضه، وأن يكون مشمولًا بشفاعته يوم العرض الأكبر.
رزقنا اللهُ اتِّباعه ظاهرًا وباطنًا، قولًا وفعلًا، علمًا وعملًا، وجعلنا من حزبه وأوليائه، وما أولياؤه إلا المتقون.